EYE'S LOVE CLUB
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
بحـث
 
 

نتائج البحث
 


Rechercher بحث متقدم

المواضيع الأخيرة
» 1000000 مشاركة
مقالات  و دراسات أدبية Icons35الثلاثاء نوفمبر 23, 2021 4:41 pm من طرف المتيم

» اكسسوارات للعروس
مقالات  و دراسات أدبية Icons35الثلاثاء مايو 28, 2013 12:11 am من طرف لوليتا

»  أعرفي شخصيتك من وزنك
مقالات  و دراسات أدبية Icons35الإثنين مايو 27, 2013 11:56 pm من طرف لوليتا

» سجل حضورك بالصلاة على المصطفى..
مقالات  و دراسات أدبية Icons35الإثنين مايو 27, 2013 11:52 pm من طرف لوليتا

» صور الممثلة المكسيكية maite perroni
مقالات  و دراسات أدبية Icons35الإثنين مايو 27, 2013 10:38 pm من طرف المتيم

» أحذية أطفال
مقالات  و دراسات أدبية Icons35الإثنين مايو 27, 2013 10:34 pm من طرف المتيم

» أسرع حيوان.. مهدّد بالإنقراض
مقالات  و دراسات أدبية Icons35الإثنين مايو 27, 2013 10:33 pm من طرف المتيم

» عطر فرزاتشي للرجال
مقالات  و دراسات أدبية Icons35الإثنين مايو 27, 2013 10:00 pm من طرف لوليتا

» تسريحات 2014
مقالات  و دراسات أدبية Icons35الإثنين مايو 27, 2013 9:56 pm من طرف لوليتا


مقالات و دراسات أدبية

3 مشترك

اذهب الى الأسفل

مقالات  و دراسات أدبية Empty مقالات و دراسات أدبية

مُساهمة من طرف المتيم الخميس سبتمبر 09, 2010 3:28 pm

وحدة البيت في النقد العربي القديم - د.خليل الموسى

لابدّ من الإشارة أولاً إلى أن طبيعة الشعر العربي مختلفة عن طبيعة الشعر الإغريقي ولذلك اختلف النقد العربي الذي تناول القصيدة الغنائية عن النقد الغربي الذي تناول القصيدتين الدرامية والملحمية، وبخاصة في "فن الشعر"، وينبغي أن نضع في الحسبان أن "وحدة القصيدة" مفهوم نقدي استخلصه أرسطو من الأعمال الفنية الراقية ل "هوميروس" و "سوفوكليس"، ولم يجده متوافراً في كثير من الأعمال الدرامية والملحمية عند غيرهما، ولكن نقادنا القدامى ما وجدوا مثل هذه الأعمال التي تقوم على حدث واحد تام متنام، وإنما وجدوا قصائد غنائية تستند إلى دفقات إبداعية ذات موجات شعورية تتراوح بين الشدة والضعف ويربط بينها ما يمكننا أن نسميه بالتناسب.‏

ويبدو للدارس من أن مفهوم "وحدة القصيدة" لم يحظَ باهتمام نقادنا، وظلت "وحدة البيت" مركز اهتماماتهم؛ فقد جزَّؤوا القصيدة وعدّوا البيت قائماً بنفسه مستقلاً بمعناه ومبناه.‏

ويتهم مندور(1) الأدب العربي القديم بأنه "أدب جزئيات وحدتها البيت لا الفكرة ولا الأسطورة ولا الموقعة التاريخية"، وعلى الرغم من أننا نوافقه على هذا الحكم بوجه عام فإننا إذا نظرنا مليَّاً في الأسباب التي أدت إلى استمرار وحدة البيت –والنقد التجزيئي أحدها وأهمها- أدركنا سرعة هذا الحكم؛ فمندور، هنا، يفسّر ما هو موجود، وهو طبيعة الأدب القديم، ولكنه ينسى الأسباب التي أدت إلى استمرار ثبات هذه الطبيعة في العصر الذهبي للقصيدة العربية. صحيح أن النقد ظلّ، منذ العصر الجاهلي حتى نهاية العصر الأموي، فطرياً تجزيئياً تابعاً للشعر غير أنه تقدم في العصر العباسي وتشعّب، وأصبح للنقاد مواقف وآراء ونظريات، ولم يبق الناقد ذلك المتذوق الذي يحكم على الشعر وفق أهوائه ومعتقداته، وإنما وضعت المقاييس وغدا الناقد مثقفاً في عصر العلم والترجمة، وقد كان في مقدور هؤلاء النقاد أن يستفيوا من ثقافتهم ومن قفزة الشعر العباسي ويخرجوا من تبعية الشعر إلى قيادته ومن تفسيره إلى تحليله وبيان مواطن الإبداع فيه ومن ماضيه إلى مستقبله، ولكن معظمهم لم يفعل ذلك وإنما حاول قياس الشعر العباسي المحدث على الشعر الجاهلي، وعدّوا المقاييس معياراً في الحكم على جودة الشعر أو رداءته.‏

ويبدو أن ابن قتيبة (ت 226ه) هو أول من حدد منهج القصيدة العربية المدحية في مقدمة كتابه "الشعر والشعراء"، فاستخرج من الأنماط المتبعة في مدائح الجاهليين قانوناً عاماً ينبغي أن يخضع له الشعراء بدواً كانوا أم حضراً، فقد قال: "وسمعت بعض أهل الأدب يذكر أن مقصد القصيد إنما ابتدأ فيها بذكر الديار والدمن والآثار، فبكى وشكى، وخاطب الربع، واستوقف الرفيق، ليجعل ذلك سبباً لذكر أهلها الظاعنين عنها... ثم وصل ذلك بالنسيب... ليميل نحوه القلوب... فإذا علم أنه قد استوثق من الإصغاء إليه، والاستمتاع له، عقّب بإيجاب الحقوق، فرحل في شعره، وشكا النّصب والسهر، وسُرى الليل، وحرّ الهجير، وإنضاء الراحلة والبعير. فإذا علم أنه قد أوجب على صاحبه حقَّ الرجاء.... بدأ في المديح، فبعثه على المكافأة، وهزّه للسماح، وفضّله على الأشباه"(2).‏

ويجزم ابن قتيبة بأن الشاعر المجيد من التزم هذه الأساليب، ولم يحد عنها، فقال(3): "وليس لمتأخر الشعراء أن يخرج عن مذهب المتقدمين في هذه الأقسام، فيقف على منزل عامر، أو يبكي عند مشيد البنيان، لأن المتقدمين وقفوا على المنزل الداثر، والرسم العافي، أو يرحل على حمار أو بغل ويصفهما، لأن المتقدمين رحلوا على الناقة والبعير. أو يرد على المياه العذاب الجواري، لأن المتقدمين وردوا على الأواجن الطوامي. أو يقطع إلى الممدوح منابت النرجس والآس والورد، لأن المتقدمين جروا على قطع منابت الشيح والحنوة والعرارة".‏

ولكن لابن قتيبة في كتابه المذكور ومضات تجديدية هنا وهناك تضيء القصيدة المحدثة وتطمح إلى التجديد، فقد أنصف المحدثين بمنهجه، فقال(4): "ولم أسلك، فيما ذكرته من شعر كل شاعر مختاراً له، سبيل من قلّد أو استحسن باستحسان غيره. ولا نظرت إلى المتقدم منهم بعين الجلالة لتقدمه، وإلى المتأخر منهم بعين الاحتقار لتأخره. بل نظرت بعين العدل على الفريقين، وأعطيت كلاًّ حظه، ووفرت عليه حقه. فإني رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله، ويضعه في متخيره، ويُرذل الشعر الرصين، ولا عيب له عنده إلا أنه قيل في زمانه. أو أنه رأى قائله".‏

يوضح هذا النص عدة أمور، أولها أنه يصف ماهو عليه النقد في ذلك الزمان، فقد كان النقاد وبخاصة أصحاب الاختيارات لا يختارون من أشعار معاصريهم وإن كانت أشعارهم جيدة، والعيب الوحيد فيها أن أصحابها جاؤوا متأخرين، وقد نسي هؤلاء النقاد أنهم أيضاً جاؤوا متأخرين عن السابقين، ويتعلق الأمر الثاني ببعض النقاد الذين يتحيزون لهذا الشاعر أو ذاك أو لهذه القبيلة أو تلك وهذا واضح من قوله "نظرت بعين العدل"، وذلك لأن اللون الأسود يستدعي اللون الأبيض، وبضدها تُعرف الأشياء، والأمر الثالث هو أنه خالف معاصريه من النقاد واختار شعراً محدثاً وأنصف في منهجه وكتابه المحدثين، وهذا ما يوضحه قوله(5): "فكل من آتى بحسنٍ من قوله أو فعل ذكرناه له، وأثنينا به عليه، ولم يضعه عندنا تأخر قائله أو فاعله، ولا حداثة سنّه. كما أن الرديء إذا ورد علينا للمتقدم أو الشريف لم يرفعه عندنا شرف صاحبه ولا تقدمه".‏

ويردّ الدكتور فهد عكام هذا التعارض الظاهري في منهج ابن قتيبة إلى أنه "ينقل إلينا نظرة كانت شائعة لعهده في أوساط العلماء"(6)، ولا يراد بهذا المنهج البدوي "كل شاعر كان يصنع الشعر قصائد، بل الشاعر القديم الذي كان يصنع القصيدة المدحية"(7)، وهو يرفض بذلك التقليد الأعمى وما يهمه "ليس هو المضمون مدنياً أو بدوياً، بل طريقة التعبير، أو بالحري شكل المضمون، فهذا الشكل لابد له من أن ينظم تنظيماً جديداً ليؤثر تأثيراً ناجعاً في المتلقي، وليدرك بالتالي الهدف الذي اختاره المبدع عن وعي"(Cool.‏

ويعد المرزوقي (ت 421ه) أفضل من حدد مفهوم عمود الشعر العربي القديم وأحاط بوجوهه جميعها، وذلك في مقدمته لشرح "ديوان الحماسة"، مستخلصاً من أشعار القدماء معياره التالي: "إنهم كانوا يحاولون شرف المعنى وصحته، وجزالة اللفظ واستقامته، والإصابة في الوصف –ومن اجتماع هذه الأسباب الثلاثة كثرت سوائر الأمثال، وشوارد الأبيات- والمقاربة في التشبيه، والتحام أجزاء النظم والتئامها على تخيُّر من لذيذ الوزن، ومناسبة المستعار منه للمستعار له، ومشاكلة اللفظ للمعنى وشدة اقتضائهما للقافية حتى لا منافرة بينهما –فهذه سبعة أبواب هي عمود الشعر، ولكل باب منها معيار"(9).‏

ثم يشرح هذه المعايير السبعة واحداً فواحداً ليدعو الشعراء، بعد ذلك، إلى التزامها وعدم الخروج عليها قائلاً(10): "فهذه الخصال عمود الشعر عند العرب، فمن لزمها بحقها وبنى شعره عليها، فهو عندهم المفلق المعظّم، والمحسن المقدّم، ومن لم يجمعها كلها فبقدر سهمته منها يكون نصيبه من التقدم والإحسان، وهذا إجماع مأخوذ به ومتبع نهجه حتى الآن".‏

ويتبين للدارس مما مضى أن "عمود الشعر" مستخلص من القصائد القديمة، وهو مقياس للتفريق بين القديم والجديد، ويتضمن سبعة معايير منها ما يرجع إلى اللفظ، ومنها ما يتعلق بالمعنى الجزئي أو ما يخص تصوير المعاني الجزئية؛ فعلى اللفظ ألاّ يكون غريباً أو سوقيّاً وأن يكون سليماً من تنافر الحروف، وأن يشاكل اللفظ معناه، فإذا وقع موقعه لا يزيد على معناه و لا ينقص. أما ما يتعلق منه بالمعنى الجزئي فأهمه شرف المعنى وصحته، كاختيار الصفات المثلى وعدم الوقوع في خطأ تاريخي أو ما شابه ذلك، ثم الإصابة في الوصف، وذلك بأن تكون صفات المديح عامة لا خاصة. أما ما يتعلق بتصوير المعاني الجزئية فأهمها المقاربة بين المشبّه والمشبّه به وقرب متناول الاستعارة والتحام أجزاء النظم والتئامها.‏

وإن من ينظر في هذه المعايير يلمس الاهتمام بالسامع أو القارئ أكثر من الاهتمام بالنص الشعري، وكأن المرزوقي يريد أن يلتزم الشعراء الوضوح في الأفكار والصور وعدم الخروج على ذلك، ويبدو أن عناية عمود الشعر بالجزئيات دون أن يرسم شمولية أسرار الجمال الفني قد ضيّق أمام الشاعر فرصة التجريد، وأن القيود التي رسمت قد عاقت الشعراء عن محاولات كان يمكنها أن تؤدي إلى تطور الشعر العربي، بل هي عاقت النقاد أيضاً، فلم يتخطوا في نقدهم الحدود المرسومة ولم يستسيغوا محاولات التجديد، من ذلك مثلاً أن الأصمعي (عبد الملك بن قُريب –ت216ه) كان يقول عن بشار بن برد هو خاتمة الشعراء ولولا أن أيامه تأخرت لفضَّله على كثير منهم(11).‏

وقد ظل كثير من العلماء اللغويين والرواة يرفضون قياس شعر المحدثين أو روايته؛ فقد رفض خلف الأحمر (ت نحو 180ه) أن يقيس شعر ابن مناذر (ت 198ه) إلى شعر الجاهليين، ولما طلب منه الشاعر أن يفعل ذلك غضب، ثم أخذ صحفة مملوءة مرقاً فرمى بها عليه فملأه(12). وقد كان هذا الشاعر يدرك عقم المنهج المتبع في نقد شعر المحدثين، فقد طلب من أحدهم أن يقرئ أبا عبيدة (معمر بن المثنى –ت 209ه) السلام ويقول له: يقول لك ابن مناذر: اتق الله واحكم بين شعري وشعر عدي بن زيد، ولا تقل ذلك جاهلي، وهذا إسلامي، وذاك قديم وهذا محدث فتحكم بين العصرين، ولكن أحكم بين الشعرين ودع العصبية(13).‏

وتبدو مقاومة الجديد في كثير من أحاكمهم النقدية، وبخاصة حين كانوا يوازون بين مفهوم "عمود الشعر" وما كان يجيء به المحدثون من جديد، وكان ابن الأعرابي (محمد بن زياد –ت 231ه) شديداً في حكمه على أبي تمام لمخالفته سنن القدماء والإتيان بمعان جديدة، حتى قال في شعره "إن كان هذا شعراً فكلام العرب باطل"(14)، وعلى الرغم من اعتراف بعضهم بجودة الشعر المحدث فإنه شديد العصبية للأوائل، فقد قال إسحق بن إبراهيم الموصلي(ت 235ه) لأبي تمام: أنت شاعر مجيد محسن كثير الاتكاء على نفسك، يريد أنه يعمل المعاني(15)، وكان هؤلاء النقاد يقيسون كل شعر محدث بمقياس عمود الشعر، فإذا وافقه استحسنوه، وإذا خالفه استهجنوه، حتى قال أحدهم حين سمع شعر أبي تمام: "فيه ما استحسنه، وفيه ما لا أعرفه ولم أسمع بمثله؛ فإما أن يكون هذا الرجل أشعر الناس جميعاً، وإما أن يكون الناس جميعاً أشعر منه"(16).‏

ولكن أبا بكر الصولي (ت 335 أو 336ه) يعزو مقاومة المحدث إلى جهل النقاد به(17)، ومن هنا نفسر قول أحدهم لأبي تمام: لِمَ لا تقول ما يفهم(18)؟‏

ومع ذلك فإننا لا نعدم أن نجد نقاداً دافعوا عن الشعر المحدث وانتصروا له بمنطق مقبول وحجج دامغة، وبخاصة في منهج القصيدة كما فعل ابن رشيق القيرواني (ت 463 وقيل 456ه) إذ قال(19): "وكانوا قديماً أصحاب خيام: ينتقلون من موضع إلى آخر؛ فلذلك أول ما تبدأ أشعارهم بذكر الديار، فتلك ديارهم وليست كأبنية الحاضرة؛ فلا معنى لذكر الحضري الديار إلا مجازاً؛ لأن الحاضرة لا تنسفها الرياح، ولا يمحوها المطر... وكانت دوابهم الإبل لكثرتها، وعدم غيرها، ولصبرها على التعب وقلة الماء والعلف، فلهذا أيضاً خصُّوها بالذكر دون غيرها، ولم يكن أحدهم يرضى بالكذب فيصف ما ليس عنده كما يفعل المحدثون... وليس في زماننا هذا ولا من شرط بلدنا خاصة شيء من هذا كله... فالواجب اجتنابه إلا ما كان حقيقة، لاسيما إذا كان المادح من سكان بلد الممدوح، يراه في أكثر أوقاته، فما أقبح ذكر الناقة والفلاة حينئذ!".‏

وبناء على معظم ما سبق ذكره وعلى مقياسي "عمود الشعر" و "منهج القصيدة" كانت وحدة البيت من أبرز ظواهر نقدنا القديم، وقد ظلت مقياساً للجودة والإتقان وتجلت في مظاهر مختلفة، ولكنها تصب في هذه الوحدة؛ فقد عدّ قدامة بن جعفر (ت337ه) الإيغال حسنة، "وهو أن يأتي الشاعر بالمعنى في البيت تاماً من غير أن يكون للقافية فيما ذكره صنع"(20)، وعدّ المبتور عيباً من عيوب ائتلاف المعنى والوزن معاً، "وهو أن يطول المعنى عن أن يحتمل العروض تمامه في بيت واحد، فيقطعه بالقافية ويتمّه في البيت الثاني"(21)، واتخذ أبو هلال العسكري (ت395ه) موقفاً مشدداً من قضية وحدة البيت وعدّ التضمين قبحاً(22)، وكذلك فعل المرزباني (ت 385ه)(23) وابن خلدون (ت 808ه)(24).‏

ويتابع ابن رشيق النقاد العرب في هذه الظاهرة ولكن حكمه أبعد وأنضج، فهو يحترم آراء الآخرين ويقدمها بروح علمية عالية، ثم يعبر عن رأيه بوضوح وصراحة قائلاً(25): "ومن الناس من يستحسن الشعر مبنياً بعضه على بعض، وأنا استحسن أن يكون كل بيت قائماً بنفسه لا يحتاج إلى ما قبله ولا إلى ما بعده، وما سوى ذلك فهو عندي تقصير، إلا في مواضع معروفة، مثل الحكايات وما شاكلها، فإن بناء اللفظ أجود هنالك من جهة السرد"، ويلاحظ على المقطع الأخير أن ابن رشيق يفصل في هذه القضية بين الشعر الغنائي والشعر القصصي (الدرامي-الملحمي)، فوحدة البيت، عنده، مستحسنة في النوع الأول، ووحدة القصيدة مستحسنة في النوع الثاني، وهذا رأي متقدم على زمانه.‏

ويمكننا أن نعد موضوع السرقات الشعرية من ظواهر وحدة البيت في نقدنا؛ فقد اعتمدت على الموازنة بين بيتين مهملة الشكل أحياناً، فحكم الآمدي (ت370ه) للفرزدق على أبي تمام دون أن يتعرض إلى الشكل(26)، وتحامل الحاتمي (ت388ه) على المتنبي حين أورد تسعة أبيات له، ثم أعاد كل بيت إلى غير شاعر دون أن يميّز تفرد المتنبي وأسلوبه المشرق وتسلسل القصيدة ووحدة الشعور، وجاء بعد ذلك حكمه الشديد، فخاطب الشاعر قائلاً(27): "فلا معنى لك في هذه القافية إلا مقتفى، ولا إحسان أشرت إليه إلا مسترق محتذى".‏

ومن ظواهر وحدة البيت في نقدنا الاهتمام بمطالع القصائد(28) والاختيارات(29) والحكم على شاعر من خلال بيت حسن بوساطة الجملة المعروفة "إنه أشعر العرب"(30)، واشتغال علماء اللغة بالنقد، فكانوا يقتطعون الشواهد ويعلّقون عليها دون مراعاة لوحدة القصيدة، قال(31): "آدم متز Adam Mez" (ت1917م) في ذلك: "هؤلاء العلماء المتقدمون يضعون معارفهم بعضها إلى جانب بعض، مفككة لا رباط بينها، وكان اهتمامهم ينصب على الجزئيات: على حادثة واحدة، أو صورة من صور التعبير واحدة، أو كلمة واحدة، أو جملة واحدة، كما نجد ذلك في كتب المبرد (المتوفى عام 285ه)، بل في كتب القالي (المتوفّى عام 356ه)، وهي كتب مؤلفة من علوم اللغة ومن القصص والتاريخ".‏

وعلينا، بناء على ما سبق، ألاّ ننسى دور بعض نقادنا، وبخاصة اللغويين والرواة منهم، في تجزئة القصيدة وإقامة وحدة البيت بديلاً عن وحدة القصيدة، ولكننا، في هذا المقام، لا نسلمُ بالأحكام التعميمية التي وردت في دراسات بعض المستشرقين، وتابعهم في ذلك بعض نقادنا المعاصرين، ومفادها أن القصيدة العربية مفككة الأجزاء وليست عملاً فنياً تاماً، وهذا لا يعني أننا ننكر تفكك كثير من القصائد القديمة، ولكن ذلك ليس محصوراً في القصيدة العربية وحدها، وإنما نجده في كثير من القصائد الغنائية عند الأمم جميعها، وقد وجده أرسطو في كثير من الملاحم والمآسي الإغريقية، وقد ورد ذلك في حديثه هنا وهناك في "فن الشعر".‏

وربما كان لنقدنا التجزيئي سبب مباشر في أن يتابع بعض المستشرقين أحكامهم حول تفكك القصيدة العربية واستقلال البيت فيها، وكأني بهؤلاء يطلقون أحكامهم على الشعر من خلال دراسة النقد، فقد جاء في "دائرة المعارف الإسلامية": "أن النقاد نادراً ما نظروا إلى القصيدة على أساس أنها وحدة، بل كانت عندهم سلسلة محاسن غير متماسكة"(32)، وعلى الرغم من الاعتراف بأن النقد العربي القديم كان يعالج الجزئيات ويقدس القديم والاعتراف بشاعرية المتنبي(33) فإن ذلك لم يمنع من أن يُحكم على الشعر العربي بمثل الحكم التالي: "كان ينبغي على كل شطر أن يشكل وحدة تامة بذاتها، هكذا الشعر العربي في جوهره مفكك؛ فهو سلسلة تعبيرات منعزلة بعضها عن بعض بحيث تتراكم، لكن بلا ترابط... وثمة صلة ضعيفة بين أبيات القصيدة أو أجزائها المختلفة. وشخصية الشاعر هي الرباط الوحيد في تشكلها"(34)، وفي هذا الحكم إعادة لرأي أرسطو في تفرقته بين العمل الفني والتاريخ، وهذا يعني أن الشعر العربي يتساوى مع التاريخ الذي يروي الأحداث كلها، وهذا حكم يتناقض مع الحقيقة، لأنه ينبغي على الناقد أن ينظر في النص الشعري من خلال مقاييس عصره لا من خلال مقاييس عصورنا المتقدمة، وإذا عدنا إلى ذلك العصر وجدنا أن النقد متأخر عن الشعر وأن الشعر العربي القديم فيه قصائد مفككة كما فيه قصائد متماسكة لا تقل في جودتها عن مثيلاتها من الشعر الغنائي في العالم، ولا يجوز أن نطبق آراء أرسطو أو غيره على شعرنا لاختلاف طبائع الأمم وأحوالها وفنونها، هذا بالإضافة إلى اعتراف الكاتب الضمني بشاعرية المتنبي وأمثاله، وهذا دليل آخر على أن الحكم جائر بحق الشعر العربي وتعميمه يتناقض والحقيقة العلمية.‏

وقد رأى بعض المستشرقين هذا التفكك في الفكر العربي(35)، والزخرفة في الفنون، ومنها العمارة، وفي فن البلاغة(36)، وفن الموسيقا(37)، ولكن هذا لا يمنع من أن يكون لبعضهم رأي صائب حين يرى أن "العناية القصوى موجهة إلى البيت أو العبارة أو الفقرة على حساب البناء الكلي. وكثيراً ما صرح النقاد العرب أن قيمة القصيدة لديهم تعتمد على الاكتمال في كل بيت على حدة"(38)، كما لا يمنع من أن ينصف بعضهم الشعر المحدث(39)، وأن يعترف بعضهم الآخر بتأثير الشعر العربي في الشعر الغربي والحضارة الحديثة(40).‏

ولا ينكر الباحث في نصوص الشعر العربي أن بعض القصائد العربية، وبخاصة بعض قصائد المديح، مفككة الأجزاء وليست أعمالاً فنية تامة، ولكن لا يمكنه أن يصم الأدب العربي عامه بأنه أدب جزئيات قبل أن يبحث عن أسباب ذلك وأن يبين دور النقد القديم في تجزئة القصيدة والنظر إليها من منظار وحدة البيت، حتى أنه لم تُجدِ محاولات بعض الشعراء في الخروج على منهج القصيدة وعمود الشعر.‏

ولا يشارك الباحث آراء بعض المعاصرين في أن التجزيئية التي سار عليها بعض نقدنا القديم هي نتيجة وليست سبباً، وأن شعرنا القديم يتطلب، بطبيعته، هذه المقاييس النقدية، ولا يشاطره الرأي حين يرى أن الناقد لا يكتشف المقاييس وإنما هي تنشأ في الأدب ذاته(41)، فهذا يعني أن وظيفة الناقد محصورة في تفسير النص وتبعيته لا في اكتشاف مواطن الجمال وتوجيهه إلى مستقبل أفضل، فإذا ما برأنا النقاد القدامى من تبعة تجزئة القصيدة فهذا يعني أننا نلقيها على كاهلي الإبداع: الشاعر والنص.‏

كذلك لا يتحمل الحفظ تبعة وحدة البيت(42)؛ فهو دليل الثقافة والاطلاع عند الشاعر، والشاعر الذي يحفظ ويتأمل ويتمثل ما يحفظه ثم يبدع شبيه بحبة الحنطة التي استفادت من العناصر الطبيعية المحيطة بها من تراب وماء وهواء وضوء فاستطاعت أن تنتج سنبلة، والذي لاشك فيه أن التأثر أو التلاقح، من خلال الاهتمام بالتراث العربي والتراث الإنساني شرط من شروط الإبداع، فالشاعر يقرأ ويحفظ ويهضم ويصهر في لاشعوره ثم ينتج إبداعاً جديداً، ولذلك لا يتحمل الحفظ تبعة وحدة البيت، أما إذا كان الشاعر بلا موهبة فإنه لا يخلق سوى كائنات مشوهة، فهذا المتنبي يطلع على حكم أرسطو ويتمثلها ويهضمها فإذا طالعنا في شعره الحكمي فإننا نجد شخصية المتنبي وروحه وسماته لا حكم أرسطو وتجاربه وعصره.‏

ولابد، قبل أن نختم هذه الدراسة، من أن نذكر أن الجاحظ قد لاحظ سمة التجزيئية على نقدنا، فقال(43): "لم أرَ غاية النحويين إلا كل شعر فيه إعراب، ولم أر غاية رواة الأشعار إلا ككل شعر فيه غريب أو معنى صعب يحتاج إلى الاستخراج"، وهو يعترف بأنه جلس إلى الكثيرين من رواة البغداديين فما وجد "أحداً منهم قصد إلى شعر في النسيب فأنشده"(44).‏

وهكذا قد كان للعناية بالجزئيات والدقائق وردها إلى أصولها القديمة دور في صرف النقاد عن النظر في القضايا الأدبية نظرة شاملة، وإذا غفرنا للنقاد الجاهليين والإسلاميين نظراتهم التجزيئية فإننا لا نستطيع أن نفعل ذلك مع النقاد في العصر العباسي، فقد اطلعوا على الثقافات الأخرى وعاصروا كبار الشعراء من أمثال بشار وأبي نواس وأبي تمام والمتنبي والمعري وغيرهم، ولا نستطيع إلا أن نعترف بأن الحركة الشعرية كانت، في ذلك العصر، متقدمة على الحركة النقدية التي كانت، في أغلب الأحيان، تتجه نحو الماضي مفصولة عن حضارتها وحاضرها باستثناء بعض التجارب النقدية وبخاصة في "عيار الشعر" و "منهاج الأدباء:.‏
المتيم
المتيم
المدير العام
المدير العام

عدد المساهمات : 10135
نقاط : 39923
السٌّمعَة : 4
تاريخ التسجيل : 11/04/2010
العمر : 37
الموقع : عيون من أحب

https://eyesloveclub.yoo7.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

مقالات  و دراسات أدبية Empty رد: مقالات و دراسات أدبية

مُساهمة من طرف المتيم الخميس سبتمبر 09, 2010 3:33 pm

لغة الشعر: أداة أم أداء؟ / دراسة أسلوبية لبيت شعر جاهلي

البحث دراسة تحليلية أسلوبية لأحد أبيات معلقة أمـــريء القيس "قفا نبك". تقوم الدراسة على تطبيق عدد من المعايير اللغوية للتميز في الأداء الشـعري وهي المستويات اللغوية الأساسية الثلاث: النحوي والصرفي والصوتي. تنطلق الدراسة من مسألة خلافية كثر الجدل حولها تتعلق بماهية وطبيعة الشــعر كفن من فنون اللغة وهي موضوعة لغة الشعر. الخلاف حول هذه الموضوعة يتركز حول البحث عن إجابـــة عن السؤال الآتي:

هل اللغة هي أداة الشعر وبالتالي يمكن معرفيا الفصــل بين الشعر وأداته؟ أم أن الشــعر في جوهره هو اللــغة ذاتـــــها بحيث لا يمكن الفصـل بينـهما وبالتالي فلا وجــود للمعنى الشعري خارج نطاق النظم اللغوي؟

تنطلق الدراسة من اختيار الشــق الثاني من السـؤال واعتماده نظرية يؤسس عليها تحليل البيت المختار محاولة استخدام معطيات الدرس اللغوي والأسلوبي الحديث لاختبار مدى صحة هذه النظرية تطبيقيا. ويخلص الباحث إلى أن اللغة الشــــعرية التي يستخدمها الشــاعر لا تصف أو تصور المعنى الذي يريد وصــفه أو تصويره، وإنما تقوم هذه اللغة بأداء (أو تأدية) ذلك المعنى مما مكن الشاعر من تحويل قدراته التخيلية إلى أدوات لغوية ترقى بالبيت إلى أعلى مســتويات الفن الشــعري من خلال جعله اللغة تخلق واقعا لغــويا قائما بذاته وبالتالي واقعا شــعريا افتراضــيا من اللغة وفي اللغة وليس من خلال استخدام اللغة لوصف أو تصوير حدث يقع في الواقع الفيزيقي خارج تلك اللغة.

البيت موضوع الدراسة هو البيت المشهور الذي يصف فيه الشاعر حركة الجواد في كره وفره وهو البيت الآتي:



مكـر مفـر مقبــل مدبر معــا كجلمود صخر حطه السيل من عل([1])



تحاول الدراسة بيان مواضع الفن الشعري والأدوات اللغوية التي يستخدمها الشاعر الجاهلي لتحقيق الغرض الفني الذي يريده وهو ما يثبت أن الشعر الحقيقي سواء أكان جاهليا عموديا أم حداثيا حرا إنما هو إبداع لغوي قبل أي شيء آخر.

يقع التحليل في المستويات الأسلوبية الرئيسة الثلاث: المستوى النحوي، والمستوى الصرفي، والمستوى الصوتي.

إن معنى بيت امرئ القيس هو ببساطة ما يأتي: إن حركتي الجواد كــرا وفــــــرا المختلفتين والمتعارضتين أو المتقابلتين أو المتعاكستين ظاهريا في الاتجاه إنما هما حركة واحدة وذلك لسرعتهما الفائقة بحيث يريد الشاعر لمتلقيه أن يدركهما على أنهما كذلك، أي أنهما حركة واحدة ولا فرق بين كر الجواد وفره بل إن الحركتين تشبهان حركة حجر((جلمود صخر)) جرفه سيل عارم من على جبل . الحركة ( أو الصورة) موضوع البيت هي طبعا حركة باتجاه واحد أي نحو أسفل الجبل المتخيل. وهذا المعنى الذي يريد إيصاله الشاعر لا يتطلب كثيرا من العناء الشعري بل هو يتحقق بمجرد استعماله أداة تقليدية وهي التشبيه بكاف التشبيه. ولكن أيريد الشاعر إيصال غرضه بالتشبيه وكفى؟ نحن نرى إن البيت ليس مجرد بيت يصف فيه الشاعر ما يريد وصفه بل هو بيت تتحقق فيه أعلى مستويات الأداء الشعري من خلال استخدام أعلى ما توافر للشاعر من مستويات الأداء اللغوي الممكنة.

أقول ((معنى)) البيت لأن المعنى-الذي هو ليس كل شيء في البيت-يتحقق أو يوصله الشاعر باستخدامه التشبيه: والتشبيه هو أداة إيصال معنى كما هو معروف. إلا إن اشتغال اللغة كما سنرى يجري قبل التشبيه. أي أن الشاعر يحقق ما يريد تحقيقه لغويا قبل استخدام أداة إيصال المعنى التي هي التشبيه، وهو ما يهمنا في هذه الدراسة.

إن البيت كبنية لفظية يصنع بنية معنى(أو إن في البيت بنية لغوية لفظية تصنع بنية معنى(سيمانطيقية)) وتنمطها تنميطا تناظريا. تتحقق هذه البنية في صدر البيت حتى قبل أن يدخل الشاعر الصورة باستخدام التشبيه، وهذا يعني أنه ليس من خلال التشبيه يتحقق البناء الشعري وبالتالي المعنى الشعري الذي يجري إيصاله وإنما يقوم الشاعر بذلك من خلال استخدامه جملة من الأدوات اللغوية يجعل من خلالها اللغة تعمل على أعلى مستوى من الخلق الفني والشعري من خلال بنية لفظية يلتقطها الشاعر من بين عدة خيارات لغوية متوافرة لديه. البنية موضوع الدراسة إذا هي ليست البيت بكامله وإنما الصدر فقط.

تحاول الدراسة الإجابة عن السؤال الآتي: كيف تحقق هذه البنية اللفظية وظيفتها الشعرية؟ يطرح رومان ياكوبسن في مقاله الرائد ((اللسانيات والشعرية)) السؤال الآتي: (( حسب أي معيار لساني نتعرف، تجريبيا، على الوظيفة الشعرية؟ وعلى وجه الخصوص، ما هو العنصر الذي يعتبر وجوده ضروريا في كل أثر شعري؟)) يقدم ياكوبسن إجابته عن هذا السؤال بالتذكير أولا بأهمية ما يدعوه ((بالنمطين الأساسيين للترتيب المستعملين في السلوك اللفظي: الاختيار والتأليف)). ثم يتابع ياكويسن تعريفه لهذه العملية كالآتي:

إن الاختيار ناتج على أساس قاعدة التماثل والمشابهة والمغايرة والترادف والطباق، بينما يعتمد التأليف وبناء المتوالية على المجاورة. وتسقط الوظيفة الشعرية مبدأ التماثل لمحور الاختيار على محور التأليف. ويرفع التماثل إلى مرتبة الوســيلة المكونة للمتوالية. ويوضع كل مقطع، في الشعر، في علاقة تماثل مع كل المقاطع الأخرى لنفس المتوالية؛ ومن المفروض أن يكون نبر الكلمة مساويا لنبر كلمة أخرى: وعلى نفس المنوال، تساوي الكلمة غير المنبورة الكلمة غير المنبورة، والكلمة الطويلة(تطريزيا) تساوي الكلمة الطويلة، والكلمة القصيرة تساوي الكلمة القصيرة: ويساوي حد الكلمة حد الكلمة، وغياب الحد يساوي غياب الحد؛ والوقفة التركيبية تساوي الوقفة التركيبية، وغياب الوقفة يساوي غياب الوقفة. إن المقاطع تتحول إلى وحدات قياس، ونفس الشيء يقال عن المجتزءات والنبور.([2])

ذلك بالضبط ما يفعله امرؤ القيس في بيته الشعري، وهو يقوم بذلك على المستويات اللغوية الأساسية الثلاثة: المستوى الصرفي والمستوى النحوي والمستوى الصوتي.

على المستوى الصرفي، يعبر الشاعر عن التماثل بين الحركتين المختلفتين من خلال التناظر الصرفي في وحدات البيت اللغوية (لأغراض التحليل سوف نقسم البيت إلى الوحدات اللغوية الآتية: 1- مكر مفر 2- مقبل مدبر 3- معا 4- كجلمود صخر حطه السيل من عل). فنجد إن كلمات الوحدتين الأولى والثانية مبنية بناء صرفيا وفق مبدأ ياكوبسن الآنف وهو مبدأ التماثل لمحور الاختيار الذي تسقطه الوظيفة الشعرية على محور التأليف. فكلمتا الوحدة ((مِ كَرْ رِمْ - مِ فَرْ رِمْ))(سوف نرسم الكلمات رسما صوتيا تظهر فيه الأصوات حروفا وحركات) تتألف كل منها من ثلاثة مقاطع متناظرة في عدد الأصوات الصحيحة(أو الصامتة) وهي خمسة أصوات في كل منهما وعدد أصوات العلة (الفونيمات الصائتة) ثلاثة في كل منهما. فكلتا الكلمتين تتناظران تناظرا صرفيا تاما ليس في عدد الحروف وترتيبها فحسب بل أيضا في عدد وترتيب الأصوات الصحيحة والعلة في كل منهما ولا تختلفان إلا في حرف أو صوت واحد وهو الصوت الذي يشكل نواة كل منهما أي الكاف في الأولى والفاء في الثانية، وهو الفارق الذي يجعل الكلمتين تختلفان في دلالتهما المعجمية(أي المعنى) فقط.

ونجد في كلمتي الوحدة الثانية ((مُقْ بِ لِمْ - مُدْ بِ رِمْ)) التناظر التام ذاته، والفارق هذه المرة هو بين صوتين هما الصوت الثاني في المقطع الأول(من كاف إلى دال) والصوت الثاني في المقطع الثاني(من لام إلى راء) لكل من الكلمتين على التوالي وهو توال له دلالته إذ أن كلا منهما يغلف المقطع النواة في كلتا الكلمتين وهو المقطع بِ (الباء والكسرة) الذي يشكل هو ذاته نواتي الكلمتين معا. والفارق الآن يشكل تنويعا أو تغايرا على الفارق بين كلمتي الوحدة الأولى، وهذا له دلالته الصرفية وبالتالي الوظيفية إذ أن التناظــر بين الكلمتين في الوحــدة الأولى يقابله تناظــر بين كلمتي الوحدة الثانية أولا ويقابله تنويع تناظري بين الوحدتين الأولى والثانية وبالتالي فالتناظر مضاعف.

ويتحقق هذا التناظر على المستوى النحوي أيضا، فكلمتا الوحدة الأولى هما صيغتان من اسم الفاعل على وزن اسم الآلة مفعل-بكسر الميم وفي الثانية هما أيضا اسما فاعل على وزن مفعل-بضم الميم) والكلمات الأربع تشكل من حيث مواقعها الإعرابية متوالية من النعوت تصف الموصوف المذكور في ما يسبق من أبيات القصيدة وهو الجواد. وهذا التناظر النحوي يضيف مزيدا من الدلالة الوظيفية على التناظر الذي تحقق على المستوى الصرفي آنفا. فالتماثل الذي يتحقق الآن -أي على مستوى البنية النحوية-يؤكد مرة أخرى تعدد وتغاير أوجه التماثل داخل كل وحدة وبين الوحدتين مقابل فارق واحد لا غير هو ذاته من حيث القيمة داخل كل وحدة من الوحدتين من جهة وبين الوحدتين كلتيهما من جهة أخرى. فالكلمتان في الوحدة الأولى متماثلتان صرفيا ونحويا والفارق الوحيد بينهما هو الدلالة المعجمية وكذا الحال بالنسبة للوحدة الثانية. فضلا عن ذلك فان ثمة دلالة وظيفية أخرى وهي التناظر والتماثل ليس الصرفي والنحوي فحسب بل الدلالي أيضا بين الكلمتين الأوليين والكلمتين الثانيتين لكل من الوحدتين مما يجعل التناظر المتعدد والمتغاير يتحقق مرة بالتماثل ومرة بالتقابل. والتناظر النحوي هذا هو الآخر عنصر تماثل آخر(مختلف) بينما يبقى عنصر التقابل(أو الاختلاف) هو الفارق الوحيد وهو الاختلاف في الدلالة المعجمية فقط.

نخلص من ذلك إلى إن العناصر التي يتشكل منها ما يسمى في التراث النقدي العربي بالجزالة( أو ما يسميه ياكوبسن بمعيار التميز في الأداء الشعري)تكمن جميعا في حقيقة إن كل زوج من زوجي الكلمات في الوحدتين المتناظرتين المتقابلتين يقدم أو يعرض(ولا أقول يصف أو يصور)حركتي الجواد المتعاكستين المتضادتين على أنهما حركة واحدة. فالتضاد يتحقق في عنصر واحد وهو عنصر الدلالة المعجمية. أما التماثل فيتحقق في عدة عناصر كما بينا تحققها على المستويين الصرفي والنحوي.

إن عناصر التماثل والتضاد هذه تمثل خاصية من أهم خصائص اللغة الشعرية ألا وهي التوازي. يعرف ياكوبسن التوازي بأشكاله المتعددة بأنه ((توزيع متناسب للثوابت والمتغيرات))([3]) وهو بذلك يختلف اختلافا جوهريا عن التكرار. قد تبدو البنى التناظرية للبيت مجرد تكرار، إلا إنها ليست كذلك. فالبنية المنمطة(المقولبة) التي تتشكل من الوحدتين والتي تتألف من أربع كلمات مفردة متماثلة صرفيا ونحويا هي البنية التي يصر الشاعر على اختيارها من بين خيارات لا متناهية توفرها اللغة له وهو في إصراره هذا وتحديده للخيار الوحيد من بين خيارات متعددة إنما يقوم بذلك من أجل خلق بنية تكون عناصر التماثل فيها متعددة ومتغايرة داخل بنية يكون عنصـر التضاد فيها واحدا فقط (وهو بالضبط ما يرمي إليه الشاعر في البيت). فاختيار الشاعر لقالب التوازي النحوي يجعل الكلمات المفردة وزوجي الكلمات في كلتا الوحدتين والوحدتين معا بنى متناظرة متتابعة دون استخدام مثلا الواو أو الفاء أو ثم....الخ ودون اختيار صيغ صرفية أخرى غير أسماء الفاعلين.....الخ من الخيارات المتاحة له (إن افتراض إن الشاعر إنما فعل هذا ولم يفعل ذاك لضرورات الوزن هو افتراض ساذج)، فاختيار ما اختار الشاعر في الوحدة الأولى يوازي اختيار ما اختار في الوحدة الثانية. وغياب الواو أو غيرها في الوحدة الأولى يوازي غيابها في الوحدة الثانية وهكذا فتصبح لعبة الغياب والحضور اللفظية في تناظريتها تأدية (لا وصفا أو تصويرا)للحدث موضوع اللغة الشعرية في البيت وذلك من خلال جعل تتابع البنى المتماثلة تتابعا مطردا يوهم المتلقي(وخلق الوهم التخيلي هنا هو ما أسميناه بخلق الواقع الافتراضي)بأن الحدث موضوع اللغة الشــعرية ليس سلســلة مطردة من الحركات المتماثلة فحسب وإنما هو أيضا حركة واحدة تتشكل من سلسلة مطردة من الحركات المتماثلة. (وهنا طبعا يكون التقابل قد لعب دوره جنبا إلى جنب مع التوازي) وتكون لغة الشعر بذلك قد خلقت واقعا افتراضيا من اللغة وفي اللغة تحولت فيه حركتا الجواد اللتان هما في الواقع الفيزيقي للحدث حركتان متعاكستان ومتضادتان إلى حركة متماثلة واحدة في الواقع الافتراضي الشعري، وهو الهدف أو الغرض الذي حتم على الشاعر خياراته الصرفية والنحوية في السلوك اللفظي الذي اختار للغته الشعرية أن تسلكه.

ربما يكون المستوى الصوتي أهم المستويات التي تشتغل عليها لغة الشعر إذ إن الشعر(أو على الأقل الشعر من النوع الذي نناقشه في هذه الدراسة أو الذي نجده في البيت قيد التحليل) هو في أحد أهم عناصره الاستغلال الأمثل للامكانات الصوتية للغة. لاحظنا كيف استطاع الشاعر التعامل مع خياراته اللغوية من خلال تحليلنا للمستويين الصرفي والنحوي تحليلا يوحي وكأن هذين المستويين يعملان بشكل منفصل (وهو أمر لا بد منه بطبيعة الحال لأغراض الدراسة والتحليل) ولا حاجة للقول بأن المستويين يعملان معا وفي آن واحد ولا يمكن الفصل بين الأثر الذي يحدثه كل منهما. وتجدر الإشارة قبل البدء بتحليل المستوى الصوتي إلى أن هذا المستوى يقوم بربط المستويين مع بعضهما ربطا يجعل المستويات الثلاثة تشتغل اشتغالا تكامليا وتفاعليا يترك تأثيره على المتلقي مرة واحدة وفي آن واحد.

تتحقق على المستوى الصوتي عدة علاقات تماثل بين كلمتي كل وحدة من جهة وبين الوحدتين من جهة أخرى، فضلا عن نسق الوحدتين معا كمتوالية صوتية متناظرة في التماثل والتغاير. إن متوالية الأصوات التي تتشكل منها بنية التوازي الصوتية في الوحدتين تخلق علاقة تماثل بين زوجي الكلمات فيهما وهذا التماثل هو حسب تعبير وليم أمبسون ((ابراز صوتيphonological foregrounding أو chiming وهو كما يعرفه أمبسون ((أداة لربط كلمتين بصوت مماثل مما يظهر ارتباطاتها المحتملة)).([4]) ويمكن اعتبار هذا الإبراز شكلا من أشكال الانزياح. ثمة أوجه عديدة لهذا الانزياح الصوتي في الوحدتين. فكلمات الوحدتين الأربع جميعها تبدأ بصوت صحيح (فونيم صامت) هو الميم وتنتهي أيضا نتيجة للإدغام بصوت الميم نفسه فيصبح هذا الصامت استهلاليا وختاميا في آن واحد، رابطا كلمتي الوحدة الأولى مع بعضهما وكلمتي الوحدة الثانية مع بعضهما أيضا من جهة، ورابطا الكلمة الأولى في الوحدة الأولى بأختها في الوحدة الثانية والكلمة الثانية في الوحدة الأولى بأختها في الوحدة الثانية ربطا تناظريا ليخلق تماثلا محكما ومتناغما يحدث شيئا مما أسميناه بخلق الوهم التخيلي بحيث يخيل للمتلقي نتيجة لاشتغال هذه الأدوات مضافا إليها الطباق بأن الكلمات كزوجين وكوحدتين تتماثل حتى في تغايرها. ولا يتحقق ذلك التماثل بتناظرية هذا الفونيم الصامت فحسب بل في الغالبية العظمى من بقية الأصوات التي تؤلف زوجي كلمات الوحدتين أي في سبعة فونيمات من أصل ثمانية في الوحدة الأولى وفي سبعة فونيمات أيضا من أصل ثمانية في الوحدة الثانية. وليس الأمر غير ذي دلالة أن يكون عدد الفونيمات هوهو في كل كلمة من الكلمتين وكل زوج من الزوجين وكل وحدة من الوحدتين.

أشرنا آنفا إلى إن المستوى الصوتي يساعد على ربط المستويين الآخرين مع بعضهما ويكون هو الآخر ثالثهما بحيث يجري اشتغال اللغة على هذه المســتويات الثلاثة معا وفي آن واحد. يظهر ذلك جليا في قيام لغة البيت بتأدية العنصر الآخر من عنصري الحدث موضوع لغة البيت وهو سرعة حركتي الجواد المتضادتين حتى لتبدوان حركة واحدة باتجاه واحد.

هنا نجد هذه التأدية تتحقق في الوزن والإيقاع على المستويات الثلاثة معا وفي آن واحد. فجميع الكلمات أسماء فاعلين كما ذكرنا واسم الفاعل كما هو معلوم يقوم في إحدى صيغه الأعرابية مقام الفعل(كقولك: محمد قادم) والفعل يختلف عن غيره من الصيغ النحوية في انه يعبر عن الحركة. هذا أولا، وثانيا إن الشاعر اختار في الوحدة الأولى من بين صيغ اسم الفاعل وهي عديدة صيغة تعبر عن الحركة المتكررة وتعبر في الوقت ذاته عن المبالغة وهي صيغة المبالغة لاسم الفاعل على وزن اسم الآلة مفعل. وليس خافيا ما تؤديه هذه الصيغ من وظيفة في اللغة الشعرية وهي هنا محاكاة سرعة الحركة، أي حركة الجواد.([5])

من جانب آخر، فان غياب الروابط بين الكلمات يجعل البنية النحوية تساعد على تأدية السرعة من خلال غياب الوقفات فلا تعيق سرعة البنية اللفظية المتحققة مما يجعل البنية الصوتية عبارة عن سلسلة فونيمات متسارعة ومتدفقة مما يخلق عند المتلقي الإحساس بأنها حركة واحدة وليس حركتين باتجاه واحد وليس باتجاهين. ثمة عناصر صوتية أخرى تعزز وظيفة هذه البنية الصوتية وهي الإدغام الذي يزيد من تكرار الفونيم الصامت الميم وتكرار الفونيم الصامت الآخر الراء الذي هو بطبيعته صوت متحرك فضلا عن أن الفونيمات الصائتة (الكسرة والفتحة والضمة) المتماثلة والمتناظرة في بنية التوازي والتكرار والمقابلة جميعها فونيمات قصيرة.

تجدر الإشارة هنا إلى أن أنساق التماثل هذه هي أنساق تماثل تناظرية في كلتا حالتي التماثل والتغاير ، أي انه عندما يحدث التماثل تاما أو جزئيا يتحقق التناظر، وعندما يحدث التغاير تاما أو جزئيا أيضا يتحقق التناظر أيضا. وهذا يعني إن التماثل يحصل حتى عندما يكون ثمة تغاير. وهذا هو التوازي على المستوى الصوتي كما عرفناه آنفا من انه توزيع تناسبي للثوابت والمتغيرات. ففي النسق النبري مثلا نجد تناظرية بين المقاطع المنبورة داخل كل وحدة وكذلك بين الوحدتين. فعندما يقع النبر على المقطع الثاني من الكلمة الأولى في الوحدة الأولى فأنه يقع أيضا على المقطع الثاني أي المقطع ذاته من الكلمة الثانية في الوحدة ذاتها. وهذا تماثل تام. وعندما ينتقل النبر إلى المقطع الأول من الكلمة الأولى من الوحدة الثانية(أي عندما يحدث تغاير) ينتقل النبر بدوره ليقع على المقطع الأول أي المقطع ذاته من الكلمة الثانية في الوحدة الثانية فيحدث التماثل في التغاير.

من الشيق الانتباه هنا إلى ظاهرة صوتية جوهرية في اللغة العربية لم تول، في حدود علمنا، الاهتمام البحثي الذي تستحقه، إلا إن الشاعر الجاهلي العارف بأدواته الفنية استطاع توظيف امكانات هذه الظاهرة في بيته قيد التحليل. إنها ظاهرة التشديد، التي هي في ظاهرها تضعيف للحرف الصحيح، إلا إنها في جوهرها تكرار للصوت الصامت (الصحيح) عددا من المرات يمكن أن يكون غير محدد، وهي ظاهرة عجيبة لأنها تنتج تحققا للحركة في السكون ! كيف؟ إن الشـَّدة عندما تقع على الحرف الصحيح (وهي لا تقع إلا على الحرف الصحيح) فإنها في الواقع تنتج مجموعة أصوات صامتة ساكنة من جنس الصوت الصامت الساكن الذي وقعت عليه (أي الصوت الأول الساكن وليس الثاني المتحرك) وهو في حالة سكون، ولا يهم كم عدد هذه الأصوات المكررة ولكن الشيء المهم هو تكرار ذلك الصوت الصامت الساكن تكرارا ينتج عنه حركة، تقصر أو تطول، لذلك الصوت الصامت في سكونه. تلك الحركة هي، إن جاز لنا التشبيه، أشبه بالمد في حالة الصوائت الممدودة (حروف المد) ولكنه مد يحدث في الصوامت، وبذلك يمكن أن تكون هذه الظاهرة هي ثنائية أخرى من ثنائيات اللغة تقابل ظاهرة المد في الصوائت، غفل عنها الدرس اللغوي الحديث الذي تناول اللغة العربية وفقا لنظرية دي سوسير.

والفائدة الأدائية التي يجنيها بيت امريء القيس من توظيف امكانات هذه الظاهرة الصوتية واضحة أشد الوضوح في الراء المشددة في كلتا مفردتي ((مكر مفر)) في الوحدة الأولى وهي التي تهمنا أكثر من الأصوات المشددة الأخرى العديدة في البيت.

نخلص من ذلك إلى أن الوظيفة الشعرية التي تؤديها اللغة في وحدات صدر البيت تتم من خلال جعل اللغة الشعرية تحاكي في بناها اللفظية التناظرية والتقابلية والتوازوية على المستويات الثلاثة الحدث الذي تعبر عنه لا من خلال وصف أو تصوير ذلك الحدث. ففي الواقع الحقيقي لا يمكن أن تكون الحركتان حركة واحدة إلا إن ذلك يصبح ممكنا في الواقع الافتراضي التخيلي الذي تخلقه اللغة في أدائها الحدث أداء لفظيا.

فاللغة الشعرية هنا تخلق واقعا لفظيا قائما بذاته لا يصف أو يصور أو يحاكي....الخ فحسب بل يكون بديلا لفظيا(افتراضيا) لواقع فيزيقي لحدثٍ اختاره الشاعر ليكون مادة أو موضوعا لبيته الشعري.


الدكتور عادل صالح الزبيدي
المتيم
المتيم
المدير العام
المدير العام

عدد المساهمات : 10135
نقاط : 39923
السٌّمعَة : 4
تاريخ التسجيل : 11/04/2010
العمر : 37
الموقع : عيون من أحب

https://eyesloveclub.yoo7.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

مقالات  و دراسات أدبية Empty رد: مقالات و دراسات أدبية

مُساهمة من طرف المتيم الخميس سبتمبر 09, 2010 3:59 pm

اللغة العربية في ظل ثقافة الصورة
بقلم: د.عبد المجيد العابد*

1.1. ما ثقافة الصورة؟
نقصد بثقافة الصورة الأهمية التي أصبحت منوطة بها في التواصل بين البشر، وفي تسجيل نشاطاتهم بكل تمفصلاتها، حيث انتقلنا بفعلها من الثقافة الشفاهية والثقافة المكتوبة إلى الثقافة المرئية التي تستعيد كل شيء بالصورة وتحينه دوما، وقد ساهم في ذلك التقدم التقني في وسائل الاتصال للحداثة المعاصرة، فالصورة مافتئت تشغل كل مناحي الحياة الإنسانية فكرا وسلوكا وقيما.

أصبحت الصورة تراود الإنسان في حله وترحاله، في وعيه ولا وعيه، من خلال تعدد الوسائط التي أصبحت تقوم عليها بدءا بالتلفاز والصور الفوتوغرافية والأنترنيت وغيرها، إلا أن الصورة وإن كانت مكملا، إلا أنها تستثير الوجدان أكثر من العقل، وهي بطبيعتها تلك لا يمكنها أن تستقل عن اللغة في التواصل الفعال، مهما بدا لنا أن عصر الصورة يوحي بعكس ذلك.

1.2. اللغة وأساليب التواصل المتعددة
لقد ثورت الحداثة أساليب التواصل وعددت من تجلياتها، والتواصل مبني على أن يملك المتحاورون المتخاطبون على الأقل قدرا من الرصيد اللغوي المشترك، وأن يتعلقوا بتراث ثقافي يستمدون منه بعض العناصر للتواصل، فاللغة تقوم وظيفيا على خلق التفاهم وتحديد المعارف الثقافية بين الأفراد والاندماج الاجتماعي بينهم وتحقيق التضامن والتكافل، وتعمل اللغة أيضا من جانب التنشئة الاجتماعية في المحيط على خلق الهويات الفردية وتوضيح التمايزات بين الأفراد داخل مجتمع معين عن طريق الاختلاف في الأسلوب، ولعل هذا الجمع بين ما هو اجتماعي من جهة وما هو فردي من جهة أخرى هو الذي يقسم اللغة نفسها إلى ما هو اجتماعي عام (اللسان) وما هو أداء فردي خاص (الكلام)، كما تعمل اللغة على حفظ العوالم الرمزية لكل مجتمع على حدة، فمن خلالها يستطيع الإنسان امتلاك العالم رمزيا وتحدي المكان والزمان وتحديد موقفه وموقعه من ذلك.

1.3. اللغة والتقطيع المفهومي للعالم
لا تقيم المعاني كيفما كانت خارج التقطيع اللغوي مهما تعددت العمادات التي تعد مدخلات متنوعة لها، فاللغة تحضر في كل شيء والإنسان مهما بلغت أساليب التواصل عنده من تغير وتطور وتبدل لا يستطيع أن يمتلك الكون رمزيا من خلال هذه الوسائط، بل من خلال اللغة واللغة فحسب، أما الوسائط الأخرى فتعد دعامات رئيسة اليوم في التواصل ولا تتجاوز هذا المعطى، وللتمثيل نقول: تصور أن أحدنا رأى شيئا، وهو لا يعلم اسمه قط، فهل يمكنه أن يستثمر ويتمثل ما رآه استقبالا، إن الأمر لن يعد بالنسبة له سوى أولانيات لا أكثر، لا تصل إلى قانون إلا عبر الحضور الرمزي.

لا تتشكل الأشياء في الذهن من خلال الحضور المادي، بل عبر استيعاب يتم من خلاله استدخال الأشياء عبر الذاكرة المفهومية التي تلعب فيها اللغة دور الوسيط بين الوجود المادي والوجود الرمزي التصوري للأشياء وهي الكفيلة إذا بتجنبنا عناء إحضار المعادلات الموضوعية، وهذه المفهمة لا تقتصر على الترميز أوالتسنين فقط، بل تنزاح إلى الامتلاك الاستعاري للكون وجعل الكائن الإنساني يتدثر ويحيا من خلال الاستعارات وبها.


1.4. اللغة والفكروالثقافة
تنضج الأفكار عبر اللغة وتحفظ المعارف وتتطور، كما تفيد الدماغ وتزيد من قدرة الفرد على الاستيعاب والتواصل الفعال، فكلما كانت الثروة اللغوية مهمة كلما كان المخزون المعرفي قويا، لأن الثروة اللغوية قرينة، لا محالة، الثروة المعرفية، لذلك ينبغي تجنيب المتعلم الاعتماد المفرط على الصورة وحدها لأنها تنمي فيه الكسل والخمول أحيانا.

إن اللغة خزان ثقافي فكري وديوان للحضارة، فالطفل الذي نعلمه اللغة العربية، فنحن على الأصح نعلمه الثقافة العربية بكل تمفصلاتها، يلتزم بقيم متكلميها ويتشرب أنماطهم في التفكير والرؤية إلى العالم والأشياء، وهذا ما تعجز عنه الوسائط الأخرى، ومنه فإن أي تخلف في اللغة يلزمه تخلف في الثقافة والوجدان الجمعي والانتماء إلى الوطن(المواطنة)، لأن اللغة ليست وسيلة بريئة في التعلم، بل شحنة يمكن أن تستثمر إيجابا أو سلبا، إن قيمة اللغة العربية إذا لا تكمن في قدسيتها أو ما يلف لف ذلك، بل فيما تقوم به من تقطيع مفهومي ودفع للمتكلم والمتعلم إلى الانتماء للوطن جملة وتفصيلا.

1.5. اللغة التي نحيا بها
يجب أن نحين اللغة لا أن تحيننا هي، لذلك ينبغي نهج نظرية التقريب في التعامل اللغوي مع الفرد والمقصود به جعل كل الأشياء التي تنتمي بالضرورة إلى التنشئة الاجتماعية للطفل قريبة لغويا منه، فإذا أردنا أن نعلم الطفل كلمة (سيف) فإنا علينا أن نلجأ إلى هذه الكلمة وحدها في التعرف إلى هذا الشيء من دون أن نلفت نظر المتعلم الصغير إلى (الخنشليل) أو (المهند) أو (الصارم) وما رادفها من أسام للسيف مادامت ليست قريبة من وجدان الطفل وغير متداولة اجتماعيا، فاللغة نحيا بها إذا، وهذا ما سيساعد لا محالة في الاندماج المجتمعي للطفل بالرغم مما تفرضه اللغة الأم من مشكلات في التعلم.



1.6. في التواصل اللغوي الفعال
قد يكون التواصل اللغوي مباشرا أو غير مباشر فكل ما نبدعه أو نقوله يحتوي على قدر معين من التواصل، التواصل قائم على تبادل الرسائل وتبادل القيم الثقافية، فاللغة خزان من القيم ومن الأشياء التي أخذناها من موسوعتنا الإدراكية واستوعبناها وسنستثمرها استقبالا.

ينبغي أن لا نبقى في التواصل عند حدود التواصل اللغوي الجاف، بل لابد من استدعاء المخزون الثقافي للمجموعة البشرية التي ننتمي إليها، لأن اللغة في أبسط تعريفاتها مجموعة من الأصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم، وهذه الأغراض طبعا تشمل كل ما يربط هذه المجموعة البشرية، فاللغة ديوان إذا، لهذا يجب أن لا نجعل التواصل اللغوي يقوم على ربط بين مرسل ومستقبل بالحياد، وإلا كانت اللغة من أبسط ما سيعرفه الإنسان، بل إن التواصل اللغوي هو أن نصل إلى الآخرين قلبا وقالبا، وجدانا وفكرا وعلاقات إنسانية.

1.7. ماذا بقي أمام تراجع الكفايات اللغوية
نسجل تراجعا مهولا للكفايات اللغوية في بلادنا العربية، وخلق نظم تواصلية أخرى تعد بدائل للغة، وهذا ما يهدد التفكير السليم والتواصل الفعال بين أعضاء المجموعة المتكلمين باللغة نفسها، كما أن كثرة التوليد الدلالي الذي لا يخضع إلى ضابط فعوض أن يقوم بإثراء اللغة وتحيينها فهو يفسدها ويشينها. يؤدي تراجع الكفايات اللغوية واضمحلالها إذا إلى اضمحلال التقطيع المفهومي للوجود الإنساني بأكمله على اعتبار أن اللغة هي الكفيلة وحدها بامتلاك العالم رمزيا وهذا ما تعجز عنه الصورة، لقد رأينا أن إنسان الكهوف عندما كان يصور الأشياء والحيوانات التي كانت تعيش إلى جانبه، لم يكن يفعل ذلك تقطيعا لعالمه رمزيا، بل إما خوفا أو إحضارا للشيء عبر الصورة، وهذا الإحضار يجعل الصورة تتماهى مع المرجع الذي تحيل إليه، لا أنها ترمزه أو تقطعه مفهوميا، ولعل ذلك ما يقايس حضور المحاكاة والمحاكاة المؤجلة عند الطفل في بدء المعرفة الإنسانية، فهو لا يستطيع الانفلاق من ربقة الأشياء إلا بعد أن يصل إلى مرحلة الحضور الرمزي للأشياء والكائنات عن طريق اللغة، مما يسمح بالتحديد الماهوي للإنسان بخلاف الحيوان الذي يعجز عن ذلك لعدم امتلاكه لغة متمفصلة.

ويساهم الازدواج اللغوي كذلك في تراجع بناء التعلمات لأنه يطالب المتعلم ابتداء بالجمع بين النسيان والاكتساب ويجعل الطفل، وهو متعلم صغير، يعيش وعيا شقيا لا يستطيع التمييز بين ما يتلقاه في المدرسة ويتداوله، وبين ما ينشأ عليه ويمارسه يوميا. وتضل المعضلة مطروحة تستوجب نهج استراتيجيات لغوية في بلادنا العربية هي الكفيلة برد الاعتبار للغتا العربية ووجداننا العربي.

*أكاديمي وباحث من الجزائر ، له العديد من الكتب والمساهمات العلمية في عدد من الفضاءات الالكترونية والورقية .
المتيم
المتيم
المدير العام
المدير العام

عدد المساهمات : 10135
نقاط : 39923
السٌّمعَة : 4
تاريخ التسجيل : 11/04/2010
العمر : 37
الموقع : عيون من أحب

https://eyesloveclub.yoo7.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

مقالات  و دراسات أدبية Empty رد: مقالات و دراسات أدبية

مُساهمة من طرف اسكندر الكبير الجمعة سبتمبر 10, 2010 4:07 am

مشكور ابو سليم
اسكندر الكبير
اسكندر الكبير

عدد المساهمات : 1783
نقاط : 27217
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 07/08/2010
العمر : 35

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

مقالات  و دراسات أدبية Empty رد: مقالات و دراسات أدبية

مُساهمة من طرف المتيم الجمعة سبتمبر 10, 2010 3:29 pm

الاستعارة في شعر أبي القاسم الشابي





يعتمد الشاعر عادة في بنائه للصورة الشعرية الاستعارية على
دعامتين رئيسيتين هما: التشخيص والتجسيم.

والتشخيص أكثر الصور قدرة على التعبير عن المشاعر الداخلية،
وأكثر قدرة على تحقيق الإسقاط، إذ يسقط الشاعر ذاته على مظاهر
الطبيعة من حوله، ويخلع الحياة الإنسانية والشعورية والحركة على
ما لايعقل، وينقل الصورة من مجرد الإخبار الذي يمثل الصدق والكذب
إلى تخيل مشاهدة أحداثها ووقائعها، مما يوهم القارئ أن المبني على
الظن أصبح حقيقة، وذلك كقوله تعالى: " والصبح إذا تنفس".

والتشخيص ذو قدرة على التكثيف والإيجاز، وهذا أمر يتناسب مع ذاتية
المبدع الرومانسي وتجاربه الخاصة، وهذا يفسر بروز هذه الظاهرة في
العصر الحديث بعد ثورة الرومانسيين على الأسس الجمالية للتفكير التقليدي.
ولا شك أن بروز هذه الظاهرة عند الشابي خاصة، وفي الاتجاه الرومانسي
بصفة عامة، وإيثار الشعراء الرومانسيين لهذا النوع، لا يعني أن هذه
الظاهرة جديدة على الشعراء، وإنما يعني ارتفاع نسبة تكرار هذه الظاهرة
الأسلوبية عند الرومانسيين أكثر من سابقيهم.

وقد أشار عبد القاهر الجرجاني إلى التشخيص وأهميته، لذا يعلق على
بيت المتنبي لما جعل الجوزاء تسمع على عادتهم في جعل النجوم تعقل
ووصفهم لها بما يوصف به الأناسي.
كما أشار عبد القاهر إلى هذه الظاهرة وأهميتها في تشكيل الاستعارة..
فبالاستعارة ترى الجماد حيا ناطقا، والأعجم فصيحا، والأجسام الخرس
مبينة، والمعاني الخفية بادية جلية.
وهذا يدل على أهمية التشخيص باعتباره ظاهرة فنية وسمة أسلوبية
توافرت في الأدب العربي قديمه وحديثه، كما شاعت في الآداب الأخرى
قديما وحديثا.

وأما التجسيم فهو إيصال المعنى المجرد إلى مرتبة الإنسان ، أو تصوير
المعنوي بالحسي. وهو ما أشار إليه عبد القاهر الجرجاني في حديثه
عن الاستعارة إذ يقول إنها تريك المعاني اللطيفة كأنها جسمت حتى
تراها العيون. وتركز معظم الدراسات التي تعرضت للتجسيم على قدرته
وفاعليته في استيعاب المعنويات والمجردات، فالتجسيم هو تجسيم
المعنويات وإبرازها أجساماً أو محسوسات على العموم.
المتيم
المتيم
المدير العام
المدير العام

عدد المساهمات : 10135
نقاط : 39923
السٌّمعَة : 4
تاريخ التسجيل : 11/04/2010
العمر : 37
الموقع : عيون من أحب

https://eyesloveclub.yoo7.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

مقالات  و دراسات أدبية Empty رد: مقالات و دراسات أدبية

مُساهمة من طرف الجيشاوي الجمعة سبتمبر 10, 2010 3:48 pm

والله والنعم من هيك موضوع
يسلمووووووووو
الجيشاوي
الجيشاوي

عدد المساهمات : 2849
نقاط : 28855
السٌّمعَة : 1
تاريخ التسجيل : 08/05/2010
العمر : 35
الموقع : أنا هون ..و هنيك..و هناك..

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

مقالات  و دراسات أدبية Empty رد: مقالات و دراسات أدبية

مُساهمة من طرف المتيم السبت سبتمبر 11, 2010 10:21 am

التشخيص في شعر أبي القاسم الشابي


وقد اعتمد أبو القاسم الشابي في تشكيل موقفه ورؤيته التي تصور
الصراع والآلام بداخله على التشخيص الذي ينتشر في شعره انتشارا
واسعا، والذي كان وسيلته للكشف عن انفعالاته وآلامه الداخلية
وصراعه مع مجتمعه، فالتشخيص ذو قدرة كبيرة على التكثيف العاطفي،
وعلى الإيجاز والإيحاء، وهذا أمر يسعى إليه شعراء الرومانسية ومنهم
الشابي بصفة خاصة.

كما قد نرى في شعره كذلك صوراً شعرية تعتمد على التجسيم تعبر عن
شوقه إلى ما هو غائب، والقبض على عوالم ورؤى تعذب خياله، فيحاول
اقتناصها ووضعها في أقفاص المادة المحسوسة.


وإذا ما ذهبنا نستعرض كيف استطاع الشابي أن يخلق عوالمه الشعرية
الخاصة من خلال تمكنه من استعمال الصورة الشعرية الاستعارية ،
فسوف نجد عالماً خصباً في ديوانه ( أغاني الحياة) لهذه الصور.

ففي قصيدة (مأتم الحب) من ديوانه ( أغاني الحياة )، يبدو التشخيص
واضحاً منذ عنوان القصيدة، وهو أهم محاورالتشخيص فيها، فهو يصور
الحب كائناً حياً قد مات وهو يقيم له مأتماً، ثم يبدأ في إسباغ الصفات
الإنسانية على المعنويات حيث يقول:
ليت شعري !
أي طير ٍ
يسمع الأحزان تبكي بين أعماق القلوب
ثم لا يهتف في الفجرِ، برنّات النحيب
بخشوع واكتئاب؟


فهو يجعل الأحزان ( تبكي ) وكأنها إنسان ، ثم يعجب من طير
يسمعها تبكي ، ولا يتأثر ببكائها كما لو كان إنساناً هو الآخر،
فـ ( يهتف برنات النحيب) مشاركاً إيــاه حزنه على ( الحب )
الذي ( مات ) .

ويستمر :
لست ُ أدري
أي ُّ أمر ٍ
أخرس العصفور َ عنّي أترى مات الشعور
في جميع الكون حتى في حشاشات الطيور ؟
أم بكى خلف السحاب ؟

يتساءل في مرارة واضحة ، وقد أصمّه الحزن على ( موت الحب )،
فما عاد يسمع تغريد العصفور: أترى مات الشعور في جميع الكون
حتى في حشاشات الطيور؟ وكأن الطيور بشر تشعر كما يشعر البشر ،
فلما لم تشاركه حزنه ، وصفها بـ ( موت الشعور)، ومرة أخرى،
يجعل ( الشعور ) يموت كما يموت البشر أو الكائن الحي في استعمال
مغرق للتشخيص.
ويكثف الاستعارة بالتساؤل: أم بكى [ أي الشعور ] خلف السحاب؟
فهو لا يدرك من وقع المصاب ما إذا كان الشعور قد ( مات ) أم ( بكى )
ولكن دون أن يراه أو يسمعه، ( لاختفائه خلف السحاب) .


وفي تصويره لغربته في الكون، نراه يناجي ( مسمع القبر)،
جاعلاً للقبر قدرة على السمع كالإنسان، في صورة استعارية
تعتمد التشخيص كذلك ، يقول :


في الدياجي
كم أناجي
مسمع القبر ، بغصات نحيبي ،وشجوني
ثم أصغي ، علني أسمع ترديد أنيني
فأرى صوتي فريد!

وفي المقطع التالي يجعل من فؤاده شخصاً يناديه :

فأنادي :
" يا فؤادي "
" مات من تهوى ! وهذا اللحد قد ضم الحبيب "
" فابك يا قلب بما فيك من الحزن المذيب "
" إنك يا قلب ، وحيد! "

ويدعوه للبكاء كما يبكي الإنسان حبيبه ، في صورة
تشخيصية مكثفة للقلب .

وتستمر الصور التشخيصية في المقطعين الأخيرين من هذه القصيدة،
إذ نراه يشخص الحب الذي ( ودع آفاق الحياة ) ، ويسقط ذاته على
الليل من خلال تشخـيـصه لـه بكائن حـي ( إنسان ) له مقلة تذرف
الدمع : ( اذرفي يا مقلة الليل ) . ويرتفع بالحب إلى أسمى مكانة
في صوره التشخيصية : ( اندبيه، اغسليه، بدموع الفجر، ادفنيه
بجلال ، ليرى روح الحبيب ) ، محققاً بذلك التكثيف العاطفي،
وإيجاز رؤيته في الحب ، إذ صار موت الحبيب عنده رمزاً لموت
الحب كله في الكون، يقول :

ذل َّ قلبي ،
مات حبي !
فاذرفي يا مقلة الليل ، الدراري عبرات
حول حبي ، فهو قد ودع آفاق الحياة
بعد أن ذاق اللهيب
***
واندبيـه ،
واغسليه ،
بدموع الفجر ، من أكواب زهر الزنبق ِ
وادفنيه بجلال ٍ، في ضفاف الشفق ِ
ليرى روح الحبيب

ومثلما يسيطر التشخيص على الصورة الشعرية في هذه
القصيدة ، فهو يسيطر كذلك على معظم شعر أبي القا سم
الشابي ، ولورحنا نستعرض ذلك من خلال أمثلة متفرقة من
قصائده لوجدنا الكثير من هذه الصور التشخيصية مما يدعو
إلى القول بأن الشاعر كان ينفنن في بث الحياة الإنسانية
وإلحاق الأفكار والأفعال والصفات بالجمادات أو الكائنات الحية
غير العاقلة، حيث تكمن فنية التشخيص ونجاحه وحركيته،
وهو بذلك يصهر عالم الإنسان وعالم الجمادات والكائنات
الحية الأخرى في عالم جديد ينتمي إليهما ، ولكنه شيئ آخر
غيرهما.
المتيم
المتيم
المدير العام
المدير العام

عدد المساهمات : 10135
نقاط : 39923
السٌّمعَة : 4
تاريخ التسجيل : 11/04/2010
العمر : 37
الموقع : عيون من أحب

https://eyesloveclub.yoo7.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

مقالات  و دراسات أدبية Empty رد: مقالات و دراسات أدبية

مُساهمة من طرف المتيم الأحد سبتمبر 12, 2010 11:04 am

ومن الأمثلة الأخرى على استعمال الشابي للتشخيص في شعره :


أيها الليل ً ! يا أبا البؤس والأهوا =ل ِ ! يا هيكل الحياة الرهيب ِ !
فيك تجثو عرائس الأمل الــعــــذ=ب ِ، تصـلـّي بصوتها المحبوبِ

فالليل هنا إنسان وأب والبؤس والأهوال أبناؤه، و الأمل له ( عرائس )
تجثو في هيكل الحياة الرهيب و( تصلي) بـ ( صوتها ) المحبوب .

وفي هذه المفارقة التي يبرزها تشخيص الشاعر لليل والأمل تصوير
رائع للصراع الذي يريد الشاعر إبرازه بين قسوة الحياة وما يتمتع
به الإنسان من أمل يكمن بين جوانحه في قدرته على مجابهة هذه
القسوة والتغلب عليها . فالليل في آن واحد موئل للقسوة ومهد للأمل .
ويتجلى ذلك في معالجة الشاعر لهذين الضدين من خلال مخاطبته لليل
على مدار القصيدة ذات الأبيات الستة والخمسين والمعنونة ( أيها الليل ) .

ومن الصور التشخيصية الأخرى التي يبرز الشاعر من خلالها هذا الصراع
في هذه القصيدة:


أيها الليل ! أنت نغْم ٌ شجي ٌّ=في شفاه الدهور ، بين النحيب ِ
إن أنشودة السكون ، التي ترتج ُّ =في صدرك الرَّكود ِ ، الرحيب ِ
تُسمعُ النفس َ، في هدوء الأماني =رنَّة َ الحق ِّ ، والجمال الخلوب ِ
فتصوغ القلوب ُ منها أغاريداً = تهــــــز ّ ُ الحيـــــاة َ هــز َّ الخطوب ِ

فهاهنا للدهور ( شفاه ) ، ولليل ( صدر ركود ، رحيب ) وللحق
( رنّة ) ، والقلوب تصوغ أغاريد ( تهز ) الحياة .


تتلوّى الحياة ُ ، من ألم البـؤس ِ = فتـبــــــكي بــلوعـة ٍ ونـحيــيــب ِ
وعلى مِسمعيك َ، تنهل نوحاً= وعويلا ً مرّاً، شجون ُ القلـــــــوب ِ
فأرى برقعــاً شفيــفاً ،من الأ= وجاع ِ ، يُلقي عليك َ شجوَ الكئيبِ
وأرى في السكون أجنحة الجـ=ـبـّار ، مخضلّة ً بدمع القلــــــــــوب ِ


الحياة ( تتلوى) كأنها إنسان يتألم من البؤس ، وهي ( تبكي بلوعة
ونحيب ) كذلك ، و( تنهل ) شجون القلوب على ( مسمعي ) الليل
نوحاً وعويلاً مراً ، مثل مخلوقات بشرية تئن من وقع الألم فتبكي
ويسمعها الليل الجبار الذي يؤلمها ، فيرق ّ قلبه لها ، في لفتة من
الشاعر إلى تفاعل هذا ( المخلوق) الذي شخصه لنا مع المخلوقات
التي تتألم بسببه ومنه، تصويراً للصراع الذي يعالجه الشاعر هنا
بين السالب ( الليل) والموجب ( الأمل ) وما يحدثه هذا الصراع من
أثر يرمي الشاعر إلى الوصول إليه وهو تغلب الجانب المضيئ على
الجانب المعتم في الحياة ، وبذلك يصور الليل وقد أثر فيه توجع
الحياة وهي تتلوى ، وبكاء شجون القلوب ، فرأى الشاعر بسبب
ذلك برقعاً شفيفاً من الأوجاع ( صورة تجسيمية هنا ) يلقي على
الليل شجو َ الكئيب(صورة تجسيمية أخرى) ، وبذلك اخضلت أجنحة
الليل الجبار في سكونه بدمع القلوب ، في صورة تشخيصية أخرى
مكثفة ، تصور لنا الليل كائناً جباراً ذا أجنحة هائلة يفردها على
الكون والبشر ، لكنها لرقة انتابته من حزن الناس والقلوب اخضلت
بدموعهم فأكسبته نوعاً من اللين .
المتيم
المتيم
المدير العام
المدير العام

عدد المساهمات : 10135
نقاط : 39923
السٌّمعَة : 4
تاريخ التسجيل : 11/04/2010
العمر : 37
الموقع : عيون من أحب

https://eyesloveclub.yoo7.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

مقالات  و دراسات أدبية Empty رد: مقالات و دراسات أدبية

مُساهمة من طرف المتيم الخميس سبتمبر 16, 2010 10:57 pm

رحلة التّناصّية إلى النقد العربي القديم

معجب العدواني

تعددت الدراسات النقدية في العالم العربي التي جعلت نصب عينيها مناهج حديثة تسعى بها إلى تحقيق شعرية النص الأدبي. ولما كانت التناصية، في صورتها الحديثة، من أبرز المنطلقات للدرس النقدي الحديث فقد تضمنت دراسات شتى مظاهر من العود إلى الثقافة العربية رغبة في تجذير هذا المصطلح في الوعي النقدي.

أثمرت هذه المحاولات الجادة لتكريسه بإنجاز نقدات تتلمس الشبيه إجرائياً أو المماثل اصطلاحيا لتلك الرؤى النقدية من مصادرها المختلفة، وهي مصادر لم تكن كتب الأدب العربي القديم سوى الجانب اليسير منها. ذلك ما يتجلى بوضوح لدى سبر أغوار التراث العربي، إذ يتكشف مدى اشتمال هذا الموروث على ملامح كان منها ـ على سبيل المثال ـ المنجز التاريخي والفقهي وغير ذلك من العلوم، وهي التي تلمح إلى أن العرب كانوا على وعي بشظايا هذه الظاهرة التي عنوا بها في الدرس القديم.

مع بداية الثمانينيات بدأت بواكير الالتفات النقدي العربي إلى مصطلح التناصية بعد الانتشار السريع لمفهوم الحوارية الباختيني مع إرهاصات تكونه مع الباحث الروسي ( ميخائيل باختين : M , Bakhtin ) الذي وسع مفهوم الحوار في الرواية في سعيه إلى البحث عن مكونات الرواية النصية في بعض النصوص النثرية الإغريقية والرومانية القديمة، وقد رأى أن الرواية تسمح بأن تدخل إلى كيانها جميع الأجناس التعبيرية الأدبية منها كالقصص والأشعار والقصائد والمقاطع الكوميدية، وغير أدبية كالدراسات العلمية أو الدينية وغيرها، ولذلك فهو ينتهي إلى الرواية بوصفها نوعاً أدبياً مازال قيد التشكل.

وكانت البلغارية ( جوليا كريستيفا : J , Kristeva ) أول من ابتدع هذا المصطلح في دراساتها النقدية بين سنتي 1966و1967م، مع أنها أشارت إلى استعارتها له من باختين إذ اعترفت بفضله في التنظير النقدي له في إطار الشكلانية الروسية، بينما كان بارت وكريستيفا يستعملان هذا المصطلح في سياق نظري عام متصل بالكتابة النصية.

ثم توالت الجهود التي فعلت هذا الحقل عند الناقد الفرنسي ( رولان بارت : R , Barthes ) الذي أثرى هذا المصطلح في دراسات كانت إرهاصات بتبلوره في الثقافة الغربية في عام 1973م ولاسيما في كتابه ( لذة النص )، وتعد دراساته إحدى أبرز علامات تبلوره في الثقافة الغربية. وأخيراً حاول الفرنسي ( جيرار جينيت : G , Genette ) أن يحول هذا المصطلح إلى منهج بعد أن جمع أطرافه وفصل القول فيه، وذلك باعتماده على جهود سابقيه في كتابه (أطراس:Palimpsestes )، وهو الكتاب الذي نقل فيه موضوع الشعرية، وقام فيه بمحاولة لجمع شظاياه ونثاره.

وكان لازدهار الحركة النقدية في النقد الغربي وتنامي الجهود حول التناصية أثرها الإيجابي في النقد العربي، فقد تضاعفت الجهود العربية في إثراء هذا المصطلح عبر النقل والترجمة من اللغات التي نما فيها. وفي ظل هذه المتابعة الحثيثة أنتجت دراسات نظرية كثيرة، وأنجزت دراسات تطبيقية على نصوص أدبية مختلفة، وخصصت دوريات نقدية أعداداً خاصة لمعالجته، فقد خصصت دورية ( ألف) القاهرية للتناصية عددها الرابع في 1984م، كما أسهمت مجلة (الفكر العربي المعاصر) بعدد خاص عن التناصية في عددها الصادر في كانون الثاني 1989م، وكان ممن كتب في هذا العدد ( عبد الوهاب ترو ) عن مصــطلح ( الإنتاجــية ) عند كريستيفا مستعرضاً بعض الجهود الأخرى لباختين وجينيت .

إلا أن هذه الجهود قد اتخذت مسارين اثنين: يتمثل الأول في الاقتصار على معالجة المصطلح وتطبيقاته في صورته الحديثة دون العود إلى النقد القديم، ويسعى الثاني إلى استلهام ملامح من النقد العربي في ضوء هذا الإنجاز الجديد، لكن هذا الاستلهام لم يكن على هيئة أو صورة واحدة إذ بدا في صور افترضناها موضوعاً لهذه الورقة مع ضرورة الالتفات إلى طريقتين اثنتين لهذا الاستلهام وتتمثلان في النقدات المضمنة أثناء التناولات النقدية، أو المعالجات العامة للموضوع ذاته في البحوث و الدراسات.

لم تظهر الخطوات الأولى في هذا التناول النقدي الحديث على استحياء ولكنها بدت على جانب كبير من الأهمية، إذ تم إنجاز التكريس لهذا المصطلح من زاوية أو زوايا معينة كان لها تأثيرها على الدراسات اللاحقة، ما جعل بعض الباحثين يشيرون كثيراً إلى سوء الفهم له وطريقة تلقيه في ثقافتنا العربية، واختلاف صورته لدينا عن صورته في منابعه الأولى.

ومع أن هذا التساؤل له ما يبرره إلا أن هؤلاء لم يلتفتوا إلى أن سوء الفهم للتناصية لم يكن مؤطراً في حدود الأرض العربية، بل تجاوزه إلى الأرض الأولى التي تنامى فيها هذا المصطلح. فالنقاد الغرب الذين تداولوه تنوعت وجهات نظرهم.



لقي هذا المصطلح عدداً من الاختلافات المنهجية وكثرة التعاريف منذ لحظة انطلاقه مع رؤية كريستيفا، وذلك لكثرة الأقلام التي تلقفته في النقد الغربي فأشاعت فيه التعدد غير النهائي. إن هذا الاختلاف والتعدد يمكن أن يقرأ في الجانب الإيجابي الحسن إذ يتوضع في جانب من ( الثراء غير النهائي) الذي صاحب المصطلح، ويبدو ذلك أمراً طبيعياً إذا عرفنا أن من أبرز ملامح هذا المصطلح في ذاته اللانهائية وعدم البراءة.

وربما يتفق هذا العرض مع ما ألمح إليه ( مارك أنجينو) أحد المنظرين لمصطلح التناصية من أن المسألة ليست في معرفة ماذا نعني بالتناصية لكن : فيم تستخدم ؟ لأي شئ يصلح التناص أو يستعمل، وهل جدواها مرتبطة باللحظة التاريخية. إنه أداة نقدية تسمح لنا بإثارة إشكالية نقدية وفكرية أكثر منه مفهوماً محدداً بدقة(1).

أما حين نلج إلى الجانب السلبي للتجربة فسنعود إلى إشارة أخرى مرتبطة باتهامات كثيرة للمصطلح، فها هـو أحدهم يؤكد على وصف التناصية بأنها " مصطلح أسيء فهمه منذ ذلك الحين إذ كان مستعملاً ومنتهكاً كثيراً على جانبي المحيط الأطلسي، إذ ليس له علاقة ما بأمور التأثير لكاتب على آخـر، ولكنه إبدال موضـع أو أكثر من أنظمة الإشـارات إلى موضع آخر " (2) وسنعجب حين نعلم أنه يتصل برأي أحد المتابعين في الغرب لهذا المصطلح، وهو (ليون رودييه ) مترجم كتاب ( الرغبة في اللغة ) لجوليا كريستيفا.

وهناك رأي آخر يتوافق مع سابقه في أن التناصية التي دعـت إليها كريستيفا " مصطلح أسيء فهمه، فهو لا يحيل إلى إسناد مرجعية الكتاب إلى الكتب الأخرى، ولكنه يشير إلى تداخل الاختراقات في الممارسات الدلالية "(3).

وإذا أعدنا النظر إلى الجانب الآخر مرة أخرى سنلمح ما أشار إليه ( مارك أنجينو) الذي عد ترجمة ما كتب عن التناص عن مدرسة ( تارتو ) إلى الفرنسية سبباً في التعدد غير المجدي لهذا المصطلح. وبينما حمل النقد العربي هذا العبء أضيف إليه أعباء أخر، وهي تتمثل في صورة المصطلح في التراث النقدي. ما أسهم في إنتاج ذلك التعدد بوصفه وجهاً إيجابياً في الدرس النقدي، إذا سلمنا أن البحث النقدي لا تعنيه ولا تعوقه على الإطلاق التعريفات الكثيرة والمتعددة وغير المتجانسة لمصطلح التناص، بقدر ما تعنيه المناهج التي أولت وجود التناص في النص (4).

لذلك كله كان التساؤل بعد هذه التوطئة التي تؤكد على بعض مسارات الرؤى المتعددة المنبثقة من مراجعة التناولات النقدية الحديثة، وكان السعي إلى إجابة أو إجابات بشمولية لا تقف عند دراسة أو أكثر، ولكنها تتناول التناصية في ضوء إعادتها إلى حقول نقدية من الموروث العربي، وعلى أي المستويات تتم بلورتها في مهاد هذا التساؤل المقترح : كيف ارتحل النقاد العرب المعاصرين بمصطلح التناصية إلى بعض الحقول النقدية العربية القديمة ؟ وكيف نقرأ آثار تلك الرحلة ؟

لن تهدف هذه الورقة إلى منح إجابات جاهزة حول اشتمال النقد العربي القديم على مصطلح يحقق شعرية النص الأدبي كالتناصية، وإمكان التتشاكل أو الاختلاف، ولن تعطي أحكاماً نقدية فيما يتصل بآراء استلهمت تلك المفاهيم القديمة، ولكنها ستتضمن محاولتين اثنتين:

الأولى: استخلاص الاتجاهات النقدية الحديثة حول تلك المفاهيم النقدية التي يمكن أن تحمل ملمحاً أو ملامح من التناصية. والثانية : إنجاز قراءة جديدة تتوسل إلى الشمولية في تناولها، وتأمل أن تضع أسئلتها الأولى أمام هذه المفاهيم والرؤى.

حقول قديمة برؤى حديثة
يتضمن القسم الأول من هذا البحث تلك النقدات التي تشير إلى الأفكار النقدية العربية في حقولها القديمة، وهي المفاهيم التي رأى بعض النقاد العرب المعاصرين أنها تتقارب بصورة ما مع حقل التناصية النقدي مع انبثاق مصطلحات أكثر فاعلية من فضاءات هذا الحقل، إذ تضاعف عدد دارسيه وتزايدت مصطلحاته ليبدو المفهوم الأكثر ملاءمة لتحقيق شعرية النص. وقد تنوعت الحقول النقدية التي رآها نقادنا تتصل بالتناصية، فكانت مفاهيم السرقات والمعارضات الشعرية والاقتباس والتضمين والحفظ الجيد من المفاهيم المتداولة في الدرس النقدي .

أ‌) السرقات الأدبية :

أعاد أغلب النقاد العرب المعاصرين إلى السرقات الأدبية وهجاً نقدياً جديداً،بعد أن حظيت بهذا الوهج في النقد القديم عند نهوضها كفكرة لها ظروفها وملابساتها، أو لعلهم تناولوها في إطار من المفاهيم الأخرى وكأنهم يسعون إلى إعادة زراعة حقل مهجور بآليات حديثة وصالحة لمعالجته. إن الآراء التي تناولت السرقات الأدبية لكونها جذوراً أو أصولا للتناصية كان لها من الشيوع ما أوحى، أحيانا، بتطابق تام بين التناصية والسرقات، ويكاد يجمع أغلب من تناول التناصية في علاقتها بموروثنا النقدي على أن السرقات تحمل صلة ما مع التناصية. من هنا كانت الحاجة إلى استعراض هذه الرؤى والأفكار في مستوياتها المختلفة:

1. السرقات الأدبية عبر مصطلح التناصية وتصحيح الرؤية القديمة :

ظل النظر إلى السرقات الأدبية وغيرها مما أشار إليه نقدنا القديم بآليات جديدة هاجساً لعدد من النقاد المعاصرين، فهم يشيرون إليها بمنظورهم الحديث المنبثق من النظرية الحديثة. وتحظى هذه الرؤية بقبول عند أغلب الدارسين مع اختلاف مشاربهم، وممن أشار إلى ذلك عبد الله الغذامي الذي عرض لمصطلح التناصية بعده " نظرة جديدة نصحح بها ما كان الأقدمون يسمونه بالسرقات، أو وقع الحافر على الحافر بلغة بعضهم "(5). ويبدو فعل التصحيح المقترح في هذه الرؤية متصلاً بجانبين اثنين أحدهما التحول من الأحكام الأخلاقية التي كانت سائدة ورمت بظلالها على السرقات الأدبية مع كون بعض النقاد القدامى تباعدوا عن ذلك، والثاني يتصل برصد ملامح القديم بأداوت حديثة.

2. السرقات الأدبية بوصفها شبه نظرية قديمة تحتاج إلى إعادة البناء:

ومن أبرز هؤلاء الذين رأوا في السرقات الأدبية شبه نظرية تحتاج إلى إعادة البناء من جديد عبد الملك مرتاض الذي جعلها من أكبر القضايا النقدية التي يجب الاهتمام بها، وذلك بعد أن رآها فكرة تحتاج إلى صياغة جديدة وقراءة بأدوات تقنية جديدة. وختم بحثه بالإشارة إلى كون التناصية " تبادل التأثر والعلاقات بين نص أدبي ما، ونصوص أدبية أخراة. وهذه الفكرة كان الفكر النقدي العربي عرفها معرفة معمقة تحت شكل السرقات الشعرية "(6).

وقد كان لمرتاض مراوحة في تصنيفه للسرقات من الفكرة التي ابتدرها في عنوانه مع ـ تأكيده عليها في أكثر من موقع ـ إلى النظرية التي عرض لها في بحثه، مندفعاً إلى ضرورة إقامة بناء جديد على أنقاض بناء السرقات " ولعل من أكبر القضايا النقدية، التي تصادفنا في التراث النقدي العربي أن تكون نظرية السرقات الشعرية التي كان معظم النقاد العرب القدامى قد تناولوها بشيء من التحليل. فما حقيقة هذه الفكرة التي يمكن أن ترقى إلى مستوى النظرية النقدية؟".

ومع اتفاق الدعوتين السابقتين للغذامي ومرتاض في كونهما تمثلان اقتراحاً لتحديث السرقات الأدبية إلا أنهما تفترقان في تصور كل منهما وموقف كل منهما في النظر إلى السرقات أولاً، ومن ثم إمكان التغيير وشموله. فقد كان مرتاض مندفعاً إلى ضرورة الإسراع في إيجاد الحل معتمداً على ضرورة الابتعاد عن ( الخضوع والخنوع ).

وقد أثار ما اقترحه مرتاض موقفاً نقدياً في عمل تال قدمه صالح الغامدي في الدورية نفسها بعنوان ( تعقيبات وملاحظات على السرقات والتناص ) اقترح فيه عدم الاندفاع وراء العواطف تحت شعار ( سبقناهم )، ورأى فيه عدم توافق السرقات مع التناصية، ووصف محاولة مرتاض بأنها لم تكن ناجحة " لأننا نعتقد بأن النجاح لم يحالف الكاتب على الإطلاق فهناك فرق بين أن نستعين ببعض معطيات النظريات النقدية الغربية وبين أن ندعي سبقنا نحن العرب إلى اكتشافها بصورة أو بأخرى"(7).

لكن النظرة إلى السرقات الأدبية وغيرها بوصفها تناصاً كانت محور عمل آخر انطلق من ذلك المنظور لمرتاض يمكن أن ندرج ما عرض له محمد عبد المطلب في العدد الثالث من الدورية نفسها بعنوان ( التناص عند عبد القاهر الجرجاني ) وقد ذكر في دراسته تلك ملامح عامة كالاقتباس والتضمين والسرقات وملامح خاصة بالجرجاني كالتشبيه والاستعارة.

3. إهمال النظر إلى السرقات الأدبية:

تندرج في هذا المستوى الدعوات التي عدت ملامح من التناصية موجودة في الموروث النقدي القديم ولم تحدد السرقات ضمن تلك الأفكار الموجودة لدى العرب التي تتوازى مع التناصية. ومن أبرز هؤلاء صبري حافظ الذي أهمل السرقات تماماً عند تناوله للتناصية، مع أنه أشار إلى مفاهيم قديمة أخرى، لكنه عد معرفة الاقتباس والتضمين والمعارضة من التطلع إلى معرفة منجز العرب في هذه المسألة ، إنها نظرة تحمل تأكيداً على التطلع والتأمل للاستلهام بعيداً عن التعامل معها كآليات أو إجراءات تكون التناصية. وقد رأى حافظ ضرورة العمل على الحوار الجدلي الخلاق بين هذه المنجزات الحديثة وإنجازات النقد العربي في عهوده القديمة"(Cool .





4. الدعوة إلى التمييز والفصل بين المفاهيم القديمة والحديثة:

ومن أبرز من دعا إلى ضرورة التمييز بين القديم والحديث محمد مفتاح، فقد خصص فصلاً في كتابه ( تحليل الخطاب الشعري استراتيجية التناص ) وهو الفصل السادس الذي كان بعنوان (التناص ) عرض فيه إلى التداخل الكبير بين التناص وبعض الحقول النقدية الأخرى مثل (المثاقفة) و( السرقات ). ومع إشارته إلى إمكان التطابق في بعض الملامح للسرقات الأدبية مع التناصية إلا أنه يرى ضرورة التأكيد على " الدراسة العلمية التي تقتضي أن يميز كل مفهوم من غيره ويحصر مجاله لتجنب الخلط. على أن هذا العمل يقتضي دراسة مفصلة تتناول كل مفهوم على حدة وتتناول الظروف التاريخية والأبستيمية التي ظهر فيها . ويؤكد على أن التناص ظاهرة لغوية معقدة تستعصي على الضبط والتقنين إذ يعتمد في تمييزها على ثقافة المتلقي وسعة معرفته وقدرته على الترجيح"(9).

وهناك رأي يوافق ـ إلى حد ما ـ هذا الرأي لرجاء عيد الذي يدعو إلى ضرورة التحليل المتأني لما يعرف تحت مصطلح السرقات لأن ذلك سيزيل ضبابا كثيفاً تتغيم بسببه حدود المصطلح ومدى صحته، وربما تنتفي تلك الريبة التراثية تجاه النصوص لا لنقع في خطأ النقد القديم تحت مصطلحه السابق السرقة، وإنما لتتبع تحولات تلك النصوص واستكشاف قيم تحركها وتوظيفها وما تضيفه في إعادة إبداع جديد وتشكيل مخالف (10).

5. السرقات والإجبار في ضوء التناصية:
التفريق بين السرقة والإجبار في النقد القديم في ضوء مصطلح التناصية كان من أبرز الملاحظات النقدية التي رصدها محمد بنيس في كتابه ( الشعر العربي الحديث بنياته وإبدالاتها ) الذي درس فيه بنيات الشعر العربي الحديث، ومع أن قراءته لتلك الحقول كانت مختصرة في إشارته إلى التفريق الذي أدركه العرب القدامى، فأشار إلى أن الشعراء والشاعريين فرقوا ـ في قراءاتهم المتفحصة ـ بين اللغة والأسلوب من جهة، وبنية الخطاب ـ أكان بيتاً أم قصيدة ـ من جهة ثانية. وهكذا أنزلوا الأولى منزلة السرقة، والثانية منزلة الإجبار الذي هو شرط أسبق في بناء الخطاب (11).



ب ) المعارضات الشعرية:

كانت المعارضات الشعرية ـ لأنها أحد الحقول النقدية القديمة ـ مستنداً آخر ارتهن إليه بعض النقاد العرب في توافقه مع التناصية، ولكنها جاءت تالية في المرتبة بعد السرقات الأدبية، إذ نلحظ قلة الآراء التي تقول بالمعارضات ملمحاً قديماً للتناصية، وقد عرضنا رأي صبري حافظ في ذلك إذ عدها مشتركة مع الاقتباس والتضمين في حملها لتلك الملامح، ولكن هناك إشارات أخرى اقتصرت على المعارضات.

ومن ذلك ما لمح إليه عبد الرحمن السماعيل من توافق التناصية مع ظاهرة المعارضة الضمنية التي تأتي بشكل تلقائي بعيد عن قصد المعارضة الصريحة أو السرقة بسبب التداخل الشديد بين القنوات التراثية في أعماق اللاوعي عند الشاعر المتأخر. ويضيف السماعيل صورة لدعم اقتراحه في تطابق المعارضة الضمنية مع التناصية، ويعلل ذلك لأن ارتباط الشاعر بتراثه كارتباط أحد الأغصان في شجرة كبيرة ببقية أغصانها، فهو لا يستطيع أن ينفصل عنها مستقلاً بنفسه أو مبتعداً عن جذوره التي تربطه بغيره من الأغصان فيأتي حاملاً نفس السمات والملامح التي تحملها بقية الأغصان وإن اختلفت طولاً وقصراً (12). ومن النقدات التي يوردها تلك الإشارة التي دونها الحاتمي عن دور تداخل الكلام في كلام العرب، فهو كلام " ملتبس بعضه ببعـض، وآخـذ أواخره من أوائله، والمبتدَع منه والمخترع قليل إذا تصفحته وامتحنته . والمحترِس المتحفظ من المتقدمين والمتأخرين لا يسلم أن يكون آخذاً من كلام غيره، وإن اجتهد في الاحتراس، وتخلل طريق الكلام، وباعد في المعنى، وأقرب في اللفظ، وأفلت من شباك التداخل ... ومن ظن أن كلامه لا يلتبس بكلام غيره فقد كذب ظنه وفضحه امتحانه".

ينفي رجاء عيد في بحثه الذي أشرنا إليه أن تكون المعارضة الشعرية تناصية، معتمداً في ذلك، في استهلاله على رأي لكروتشه يدعو فيه إلى عدم المقارنة بين نص وآخر أو الموازنة بين عمل وعمل، وهو الذي حدد فيه إنه لا يجوز أن نقارن نصاً بنص أو نوازن عملاً بعمل، فليست كل معارضة يمكن أن تندرج تحت التناص. وأخرج بذلك أغلب معارضات البارودي وحافظ إبراهيم من هذا المصطلح.

ويمكن أن يندرج تحت ذلك ما رآه سعيد يقطين الذي وصف النقائض بين جرير والفرزدق خير مثال لمفهوم النصية الجامعة ( Hypertextuality )(13)، و هذه العلاقة هي التي تصل بين نص أدبي ( ب ) ونص أدبي سابق ( أ)، وهما يلتصقان ببعضهما . ويورد تركي المغيض العلاقة نفسها في دراسة عن شعر البارودي؛ بعد أن يحدد معاناة المصطلح في النقد العربي الحديث وذلك في تعدد الصياغات والترجمات التي شكلته عربياً، في عنوان بحث واحد جمع فيه التناص والمعارضات ( التناص في معارضات البارودي)(14).

جـ) الاقتباس والتضمين
يقترح عدد آخر من النقاد الاقتباس والتضمين بوصفهما فكرتين تحملان الملمح القديم للمصطلح الحديث ( التناصية )، ومن هؤلاء النقاد صبري حافظ الذي أشار نظرياً إلى ذلك. وقد عرض رجاء عيد للتضمين فيعده ألصق من غيره بالتناص وهو يراه حاملاً لوظائف عدة منها توثيق الدلالة أو تأكيد موقف أو ترسيخ المعنى أو لمؤازرة نص رفضاً لمقولة أو نفياً لمعتقد وهو يستبعد الاستشهاد المجاني والتداعي الذهني من ذلك. ويختلف رجاء عيد عن سابقه لكونه قام بإجراء بعض الممارسات النقدية على نماذج من شعر أمل دنقل وصلاح عبد الصبور وغيرهما من شعراء العصر الحديث.

ويعدد أحمد الزعبي مصطلحات الاقتباس والتضمين والاستشهاد على أنها نماذج من التناص يستحضرها الكاتب إلى نصه الأصلي لوظيفة فنية أو فكرية منسجمة مع السياق الروائي سواء كان هذا التناص نصاً تاريخياً أم دينياً أم أدبياً ويسمي هذا النوع ( التناص المباشر )، وهو الاقتباس بلغة النص نفسها التي ورد فيها، وضرب أمثلة من ذلك: الآيات القرآنية، والأحاديث والأشعار والقصص، أما ما يقتبس بروحه أو مضمونه عن طريق التلميح أو الإشارة أو الرمز فهم التناص غير المباشر(15).

إن بعض الدراسات التي وسمت نفسها بالقراءة التناصية التي ارتكنت إلى الاقتباس في النص المقروء، ما أدى إلى إلغاء وظيفة التناصية بوصفها قراءة متكاملة للنص، لا تميل إلى التجزئة أو الاقتباسات الظاهرة التي يشملها النص قدر توظيف ذلك كله في إطار نصي مقترح يتضمنه نص آخر.

د) الحفظ الجيد
كان لمرتاض إشارات أخرى في بحثه الذي عرضنا له سابقاً عن السرقات والتناصية مثل إشارته إلى المصطلح الذي ذكره القاضي الجرجاني ( لطيف السرق )، وإشارته إلى ( الحفظ الجيد لابن خلدون ). وفي مــقدمة ابن خلـــدون تتبلور تلك الأفكار السابقة، وتتجلى بصورة أكثر دقة، حيث يصدر آراء نقدية هــامة تتسم بالجــدة، فقد أكـّـد على(ثـقافــة الشاعر )، ورأى أن اللسـان لا يقوم إلا بالصناعة والتـدريب، وقد خصص فصـلاً ســـماه (في صناعة الشعر وتعلمه ) كان من أبرز ما أورده فيه ( والملكات اللسانـية كلــها إنما تكتسب بالصــناعة ).

لقد قدر " ابن خلدون " أهمية المحفوظ وجودته، فبقدر جودته يجيد المبدع استعمال تلك الملكات الشعرية، أو النثرية، حتى أن الشاعر يتميز عن غيره من العروضيين والفقهاء والبلاغيين، لأن له قوالب أجاد وضع كـلامه فــي إطارها ويبدو الحفظ الجيد ولطيف السرق كما نلحظ أمرين متصلين بالمؤلف الذي غلب على طابع المنجز النقدي العربي؛ فقد حث ابن رشيق الشعراء على حفظ الشعر والخبر ومعرفة النسب وأيام العرب.

قراءة الرحلة

إن جميع النقدات السابقة التي أوردتها ليست سوى نماذج من التناول النقدي لتلك الأفكار النقدية القديمة في ضوء مفهوم التناصية، فالتجربة النقدية الحديثة أنتجت عدداً كبيراً من الدراسات النقدية التي وظفت التناصية واستثمرتها نظرياً أو ممارسة، وتجدر الإشارة إلى هذه الآراء النقدية لها أثارها الإيجابية الكبيرة في إثراء التواصل مع هذا المصطلح الحديث.

أسهمت هذه الاستنتاجات في سهولة نقل المصطلح ذاته إلى القارئ العربي، ومكنت كثيراً من الدراسات التطبيقية أن تقوم على أساس من هذا التداخل بين المفاهيم، لكني أعود، بعد هذا الإيجاز للتجربة، لأقدم قراءة لهذه القراءات السابقة لمصطلح التناصية وما نتج منها من انثيال لحقول نقدية قديمة كانت مخبوءة عن النقد العربي الحديث، وهي قراءة تستبعد الموافقة مع تلك المقترحات، أو المواءمة فيما عرضنا له من نقدات، إنها محاولة تثير التساؤلات وتمتنع عن الإجابات المحددة، وستسعى إلى تشكيل بعض المحددات في سبيل نقد إضفاء ملمح تناصي على هذه الأفكار السابقة.

أوجد هذا المدخل الذي عرض لتجربة المصطلح النقدي وانعكاساته في الثقافة العربية عدداً من الأسئلة التي لا أخالها تقبل إجابات جاهزة وسريعة، ولكنها تأمل أن تضع بعض المحددات التي تنطلق من المصطلح النقدي الحديث في ذاته لتتجاوزه إلى ما تم عرضه من أفكار نقدية.

كان منطلق أغلب الباحثين الذين أحالوا إلى السرقات أو التضمين أو وقع الحافر عل الحافر مرتهناً إلى كون هذا المصطلح الحديث يحتاج إلى إعادة درسه في إطار من الوعي النقدي العربي ولذا كان الاستلهام السريع لصياغة المصطلح في وضع يتلاءم مع النقد العربي الحديث، وكانت أولى مراحل تلك الصياغة مع ( التناصية ) في الترجمة النهائية التي استقر بها الحال في النقد العربي للمصطلح النقدي الغربي Intertextuality هذا المصطلح الذي مر بترجمات كثيــرة ومنها (تداخل النصوص ) و ( التناص ). وقد ظهرت الحاجة إلى هذا الإلحاق في التناصية حينما تعددت المصطلحات التابعة له وتشعبت استخداماته، ويأتي ذلك في إطار ترويض الخطاب النقدي للمفهوم حتى يصبح متصرفاً فيه بالصوغ والاستنباط حتى ينصاع قالبه الصرفي ليفرز صوراً جديدة مبتكرة(16). في الجانب الآخر، وبنظرة إلى المصطلح الغربي نفسه، سنجد أنه يصل بمادته إلى مفردة لاتينية دالة على الاختلاط والنسج، ما يشي بنقل الفاعل إلى حقل مشترك، والفعل هنا مغيب الفاعل. وتستحضر مفردة التناصية في نطقها ذلك النسيج والاختلاط مع كون هذا يعود إلى مادة المفردة اللاتينية لكنه ينبئ عن تفاعل حي، لعله لا يتصل بالكاتب قدر اتصاله بالنص.

أما المصطلح العربي المقابل ( التناصية ) فقد انبثق من ( نص ) الفعل العربي الدال على الرفع والحركة والاستقصاء، وكلها أفعال تنقلنا إلى البعد الرأسي، وهي أفعال تشي بدور الفاعل. وتحمل هذه الصيغة علامات التداخل في صيغة ( تفاعل )، ما يشير إلى تنوع وتعدد في التفاعل الذي يوجد في المصطلح لا في الجذر، بينما وجد التفاعل هناك في المصطلح وفي الجذر أيضاً.

لقد حددت المعاجم العربية ملامح من هذا فأشارت إلى النص باعتباره الإسناد إلى الرئيس الأكبر، وإلى أصل النص بوصفه منتهى الأشياء، ومبلغ أقصاها، وهو تعريف يتوافق مع محاولات البحث الدائمة عن صاحب النص الأول الذي تتصل به النصوص، ومن ذلك السعي الحثيث وراء صاحب نص بدئي، يمكن وصفه بـالنص ( الجنيني ) والإغراق في محاولات تحديده؛ كان لذلك المسعى دوره الكبير في عدم الدقة في تلك العلاقات القائمة بين النصوص، إذا استثنينا علم العروض للخليل بن أحمد الفراهيدي.

بدت تلك التحولات في الترجمة منسجمة مع التدرج الجديد في نقل المصطلح من عنصر إلى آخر من عناصر الاتصال الستة، حيث نقل اهتمام الدراسات النقدية من المؤلف إلى النص ثم إلى المتلقي. كان هم الدرس النقدي التركيز على المؤلف، وفي هذا السياق دعا ما يكل ريفاتير إلى التمييز بين ما يتصل بدور القارئ وما يتصل بالنص، وذلك في بحثه الذي عنونه بـ ( دينامية التناصية الاستجابة الإلزامية للقارئ ) " وحين نتحدث عن معرفة التناص، فإننا يجب أن نميز بين المعرفة الحقيقية للشكل والمحتوى لذلك التناص ومجرد الإدراك بأن تناصا كهذا موجود ويمكن تقصيه تدريجيا في مكان ما. ربما كان هذا الوعي كافيا لصنع تجربة أدبية لدى القراء، و يمكنهم من ذلك إدراكهم بأن هناك بعض الأشياء مفقودة في النص: فجوات تحتاج إلى التعامل معها، مرجعيات لاتزال مجهولة، إحالات ترسم ترديداتها المتوالية في الشكل العام للنص الذي لم يكتشف بعد. في حالات كهذه يكون إحساس القراء بوجود تناص كامن كافياً للإشارة إلى الموقع الذي سيظهر به ذلك التناص شيئاً فشيئاً. هذا النوع من استجابة القارئ الأولية يحتم التمييز بين التناص والتناصية. فالتناصية هي شبكة الوظائف التي تعين وتنظم العلاقات بين النص والتناص" (17).

إذاً نحن أمام ثلاثة عناصر من عناصر الاتصال يمكن أن يتصل بها هذا المصطلح النقدي في صورة ما: المرسل والرسالة والمرسل إليه. فما يتصل بالمرسل ( المؤلف ) يندرج في إطار التأثير، وما اتصل بالرسالة ( النص ) يندرج في إطار التناص، وما يتصل بالمرسل إليه ( المتلقي ) يندرج في إطار التناصية، وهذا ما يجعلنا نعود لتلمس المفاهيم النقدية القديمة، ولكن ضمن التصور بالتركيز على المرسل إليه. وتبدو هذه الخطوة مهمة في التعرف على توضع ملامح من التناصية، لكونها فكرة قديمة في نقدنا العربي، في العنصر المتصل بالمؤلف، وهو أمر كان له آثاره التي سنلمح بعضاً منها. إن معرفة النقد العربي لظاهرة التداخل والتشعب في الكلام متعددة، لكن هذه المعرفة جاءت منصبة على المرسل، إذ أكدت على دور المؤلف ليس فيما ورد من مقاطع نقدية فحسب، ولكننا نلحظ ذلك في أسماء الحقول ذاتها، فالسرقات ووقع الحافر على الحافر وتوارد الخواطر والحفظ الجيد تعابير أولية انبثقت من التركيز على الذوات والاهتمام بهذا الجانب. إنها تستحضر المرسل وتؤكد على دوره الأهم.

يتحدد لدينا بعد ذلك سؤال الحقل النقدي القديم نفسه الذي كان مرتهناً إلى المؤلف، لنتجاوزه إلى الحقل موضوع التناول الذي يمكن وصفه بأنه مختلف، فبينما كان الشعر هو الحقل الذي اعتمدت عليه المفاهيم القديمة من سرقات ومعارضات وغيرهما، انطلقت دراسات التناصية من الحقل الروائي مع باختين الذي كان يبحث عن المكونات النصية للرواية، ومع كريستيفا التي اعتمدت في دراستها لهذا المصطلح على مجمل دراسات باختين في الرواية، حيث أقامته على البناء الباختيني حول مفهوم الحوارية، وخصصت جهدها لتعميقه وفحصه، فانبثق منه كثير من المصطلحات الإجرائية الفرعية المتنوعة. وقد عدت كريستيفا رواية ( جيهان دوسانتري ) الرواية الوحيدة من كتابات " دي لاسال " التي تكون نسخاً وتجميعاً أو مراسلات ســفر، أو رسائل مواساة، وهي حكايات تبنى كخطاب تاريخي، أو كفسيفساء لا متجانسة من النصوص. إن هذين المنطلقين يشكلان اختلافاً في التناول إلى حد كبير ويفضيان إلى تصورات سنعرض لها .

كان من المعتاد أن يتفاخر النقاد العرب القدماء بمعرفة ذلك النص الأول ويتنافسون في الكشف عنه بطريقتي الحفظ أو السماع بوصفهما وسيلتين لهما الدور الفاعل في حركة الثقافة آنذاك، إذ تزخر كتب الأدب العربي بالترويج لهاتين الطريقتين، فهذا " ابن الأثير " يسعد بتنبيه جمهور المتلقين حول شعر " ابن الخياط " معتمداً على حفظه لشعر المتنبي "وكنت سافرت إلى الشام في سنة سبع وثمانين وخمسمائة، ودخلت مدينة دمشق؛ فوجدت جماعة من أدبائها يلهجون ببيت من شعر ابن الخياط في قصيد له أولها: خذا من صبا نجد أماناً لقلبه، ويزعمون أنه من المعاني الغريبة، وهو:

أغار إذا آنست في الحي أنه حذاراً عليه أن تكون لحبه

فقلت لهم : هذا البيت مأخوذ من شعر أبي الطيّب المتنبي في قوله :

لو قلت للدنف المشوق فديته ممــا به لأغـــرته بفـــدائـه

وقول أبي الطيب أدق معنى، وإن كان قول ابن الخياط أرق لفظاً، ثم إني وقفتهم مواضع كثيرة من شعر ابن الخياط قد أخذها من شعر المتنبي"(18).

إن التركيز على دور المرسل في النقد القديم، ومعالجة التجربة الشعرية قد أوجدا ما يمكن الاصطلاح عليه ( تجزئة النصوص) في إطار ( التناول الجزئي) الذي يركز على اقتباس ما، وهو السائد في أغلب المنقول إلينا ويوظفه ويصله بغيره من الشواهد الجزئية أيضاً، وقد ساعدت القصيدة العربية لكونها أبياتاً شعرية على هذه التجزئة. ويرى بعض الباحثين العرب قد أولوا العناية الكبرى للصنف الخاص من التفاعل النصي وهي أن يقيم نص ما علاقة مع نص آخر محدد. وتظهر هذه العلاقة من خلال البيت الواحد أو القصيدة، ويعود السبب في ذلك إلى أن تحليلاتهم كانت جزئية للنصوص وليست كلية، فالعلاقة بين النصوص لم يكن ينظر إليها من خلال النص في كليته. كان البحث عن الشاهد أساسيا في نمط تفكيرهم. وقد أدى ذلك إلى وقوع بعض الدارسين المعاصرين في ممارساتهم في التجزئة ذاتها التي تمت بتوظيف شاهد أو شاهدين من النص وعد ذلك من القراءة التناصية. ما جعل نظرتهم في تلك الممارسة تجزيئية وخاصة جداً، لذلك كان هم الباحث في البيت الشعري الذي يستوقفه أن يجد له نظيراً في خلفيته الأدبية والنقدية فيجد له علاقة بسابقة ويحدد نوع العلاقة، ويوجد لها مصطلحاً . يبرز لنا هذا بجلاء في حديثهم عن النص المحلل من خلال الصيغة التي حددها يقطين نحو:

قال الشاعر …

ومنه قول الشاعر … (19).

وقد تعددت ملامح هذه الظاهرة في التراث النقدي ولو عدنا إلى ما يراه القاضي الجرجاني في ذلك لأدركنا كيفية التناول لهذه الظاهرة " وقد أحسن أحمد بن أبي طاهر في محاجة البحتري لما ادعى عليه السرق قوله:

والشعر ظهر طريق أنت راكبه فمنه منشعب و غير منشعب

وربما ضم بين الركب منهجه وألصق الطنب العالي على الطنب

وإنما أقول : قال فلان كذا، وقد سبقه إليه فلان فقال كذا" (20).

يمكننا أن نستخلص من ذلك : إن العناية بهذه الظاهرة على المستوى النقدي قد شابها في أغلب الأحيان نظرة جزئية توسلت إلى أن تفتش في جزئيات النصوص وتبتسر بعضها، كما ترمي إلى محاولة التوصل اللاهثة إلى النص الأساس أو ما يمكن وصفه بالنص الأول ( النص الفحل ) الذي انبثق منه بنيان النص الجديد. إن هذا الاهتمام لدى النقاد العرب القدامى لم يكن نابعاً من تصور للنص الشعري كاملاً، ولكنهم اهتموا بالبيت الشعري المجرد الذي يوشك أن يختزل من سياقه أحياناً.

ويضاف إلى تلك المحددات السابقة محدد آخر ويتبلور فيما أضافه التركيز على المتلقي في النقد الحديث الذي يشير إلى علاقة أخرى، لا تكتفي بتأثير السابق على اللاحق، فالمفهوم القديم لا يؤثر على المفهوم الجديد فحسب، ولكن التأثير يمتد إلى تأثير الجديد على القديم، وعلى ذلك كان من الضروري أن تهتم التناصية بالتبادل بين النصوص الذي لا يكون في إطار علاقة أحادية الاتجاه، بل يمتد إلى علاقات أوسع وأشمل، إنه يمتد ليكون ذا اتجاهات مختلفة، حين نقرأ رواية سقيفة الصفا بعد قراءتنا رواية العصفورية سيكون ذلك صانعاً لمرحلة جديدة من التلقي.

تظل التناصية مصطلحاً حديثاً كان له التأثير على المصطلحات السابقة ذاتها، إذ كان له القدرة على خلق اتجاه قرائي جديد للسرقات الأدبية التي تناولها القدماء. وينطبق الأمر نفسه على المعارضات الشعرية وغيرها من الأفكار النقدية في حقولها القديمة، ما يشير إلى كون التناصية مرحلة جديدة ينطلق فيها القارئ مع النص، وهذه المرحلة تمكنه من جعل النص مفتوحاً أمام اللاحق والسابق والمعاصر في علاقات تتجاوز الموافقة أو المعارضة أو السرقة.
المتيم
المتيم
المدير العام
المدير العام

عدد المساهمات : 10135
نقاط : 39923
السٌّمعَة : 4
تاريخ التسجيل : 11/04/2010
العمر : 37
الموقع : عيون من أحب

https://eyesloveclub.yoo7.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

مقالات  و دراسات أدبية Empty رد: مقالات و دراسات أدبية

مُساهمة من طرف اسكندر الكبير الجمعة سبتمبر 17, 2010 12:40 am

الله يعطيك العافية
اسكندر الكبير
اسكندر الكبير

عدد المساهمات : 1783
نقاط : 27217
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 07/08/2010
العمر : 35

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى