بحـث
المواضيع الأخيرة
أفضل 10 أعضاء في هذا المنتدى
المتيم | ||||
لوليتا | ||||
الجيشاوي | ||||
الليدي | ||||
اسكندر الكبير | ||||
ميريلا | ||||
شبح الليل | ||||
العاشق | ||||
k-starnight | ||||
دمعة أمل |
كتاب الشعر و الشعراء...
3 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
كتاب الشعر و الشعراء...
هذا الكتب من روائع الكتب في أدبنا العربي..و أحببت أن أشارككم قراءته...سوف أضع مشاركة في كل مرة أتواجد فيها في المنتدى..أتمنى لكم متابعة و قراءة شيقة..
الكتاب اسمه الشعر و الشعراء لابن قتيبة الدينوري...
الجزء الأول
مقدمة المؤلف
قال أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة: هذا كتاب ألفته في الشعراء، أخبرت فيه عن الشعراء وأزمانهم، وأقدارهم، وأحوالهم في أشعارهم، وقبائلهم، وأسماء آبائهم، ومن كان يعرف باللقب أو بالكنية منهم. وعما يستحسن من أخبار الرجل ويستجاد من شعره، وما أخذته العلماء عليهم من الغلط والخطاء في ألفاظهم أو معانيهم، وما سبق إليه المتقدمون فأخذه عنهم المتأخرون. وأخبرت فيه عن أقسام الشعر وطبقاته، وعن الوجوه التي يختار الشعر عليها ويستحسن لها إلى غير ذلك مما قدمته في هذا الجزء الأول.
قال أبو محمد: وكان أكثر قصدي للمشهورين من الشعراء، الذين يعرفهم جل أهل الأدب، والذين يقع الاحتجاج بأشعارهم في الغريب، وفي النحو، وفي كتاب الله عز وجل، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأما من خفي اسمه، وقل ذكره، وكسد شعره، وكان لا يعرفه إلا بعض الخواص، فما أقل من ذكرت من هذه الطبقة. إذ كنت لا أعرف منهم إلا القليل، ولا أعرف لذلك القليل أيضاً أخباراً من هذه الطبقة، وإذ كنت أعلم أنه لا حاجة بك إلى أن أسمى لك أسماء لا أدل عليها بخبرٍ أو زمانٍ، أو نسبٍ أو نادرةٍ، أو بيتٍ يستجاد، أو يستغرب.
ولعلك تظن رحمك الله أنه يجب على من ألف مثل كتابنا هذا ألا يدع شاعراً قديماً ولا حديثاً إلا ذكره ودلك عليه، وتقدر أن يكون الشعراء بمنزلة رواة الحديث والأخبار، والملوك والأشراف، الذين يبلغهم الإحصاء، ويجمعهم العدد.
والشعراء المعروفون بالشعر عند عشائرهم وقبائلهم في الجاهلية والإسلام، أكثر من أن يحيط بهم محيطٌ أو يقف من وراءِ عددهم واقفٌ، ولو أنفد عمره في التنقير عنهم، واستفرغ مجهوده في البحث والسؤال. ولا أحسب أحداً من علمائنا استغرق شعر قبيلة حتى لم يفته من تلك القبيلة شاعرٌ إلا عرفه، ولا قصيدةٌ إلا رواها.
حدثنا سهل بن محمد حدثنا الأصمعي، حدثنا كردينُ بن مسمعٍ، قال: جاء فتيانٌ إلى أبي ضمضمٍ بعد العشاء، فقال لهم: ما جاء بكم يا خبثاء؟ قالوا: جئناك نتحدث، قال: كذبتم، ولكن قلتم، كبر الشيخ فنتلعبه عسى أن نأخذ عليه سقطةٌ ! فأنشدهم لمائة شاعرٍ، وقال مرة أخرى، لثمانين شاعراً، كلهم اسمه عمروٌ.
قال الأصمعي: فعددتُ أنا وخلفٌ الأحمر فلم نقدر على ثلاثين.
فهذا ما حفظه أبو ضمضم، ولم يكن بأروى الناس، وما أقرب أن يكون من لا يعرفه من المسمين بهذا الاسم أكثر ممن عرفه.
هذا إلى من سقط شعره من شعراء القبائل، ولم يحمله إلينا العلماء والنقلة.
أخبرنا أبو حاتم حدثنا الأصمعي قال: كان ثلاثةٌ إخوة من بني سعد لم يأتوا الأمصار، فذهب رجزهم، يقال لهم منذرٌ ونذير ومنتذرٌ، ويقال إن قصيدة رؤبة التي أولها:
وقَاتِم الْأعْمَاق خَاوِى الُمخْتَرَقْ ... ........لِمُنْتذِر
قال أبو محمد: ولم أعرض في كتابي هذا لمن كان غلب عليه غير الشعر. فقد رأينا بعض من ألف في هذا الفن كتاباً يذكر في الشعراء من لا يعرف بالشعر ولم يقل منه إلا الشذ اليسير، كابن شبرمة القاضي، وسليمان بن قتة التيمي المحدث. ولو قصدنا لذكر مثل هؤلاء في الشعر لذكرنا أكثر الناس، لأنه قلَّ أحدٌ له أدنى مسكة من أدب. وله أدنى حظ من طبعٍ، إلا وقد قال من الشعر شيئاً. ولاحتجنا أن نذكر صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجلة التابعين، وقوماً كثيراً من حملة العلم، ومن الخلفاء والأشراف، ونجعلهم في طبقات الشعراء.
ولم أسلك فيما ذكرته من شعر كلٌ شاعر مختاراً له، سبيل من في قلد، أو استحسن باستحسان غيره. ولا نظرت إلى المتقدم منهم بعين الجلالة لتقدمه، وإلى المتأخر منهم بعين الاحتقار لتأخره. بل نظرت بعين العدل على الفريقين، وأعطيت كلا حظه، ووفرتُ عليه حقه.
فإني رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله، ويضعه في متخيره، ويرذل الشعر الرصين، ولا عيب له عنده إلا أنه قيل في زمانه، أو أنه رأى قائله ولم يقصر الله العلم والشعر والبلاغة على زمن دون زمن ولا خص به قوماً دون قومٍ، بل جعل ذلك مشتركاً مقسوماً بين عباده في كل دهر، وجعل كل قديم حديثاً في عصره، وكل شرفٍ خارجيةً في أوله، فقد كان جريرٌ والفرزدق والأخطل وأمثالهم يعدون محدثين. وكان أبو عمر وابن العلاء يقول: لقد كثر هذا المحدث وحسن حتى لقد هممت بروايته.
ثم صار هؤلاء قدماء عندنا ببعد العهد منهم، وكذلك يكون من بعدهم لمن بعدنا، كالخريمي والعتابي والحسن بن هانىءٍ وأشباههم. فكل من أتى بحسنٍ من قول أو فعل ذكرناه له، وأثنينا به عليه، ولم يضعه عندنا تأخر قائله أو فاعله، ولا حداثة سنه. كما أن الردىء إذا ورد علينا للمتقدم أو الشريف لم يرفعه عندنا شرف صاحبه ولا تقدمه.
وكان حق هذا الكتاب أن أودعه الأخبار عن جلالة قدر الشعر وعظيم خطره، وعمن رفعه الله بالمديح، وعمن وضعه بالهجاء وعما أودعته العرب من الأخبار النافعة، والأنساب الصحاح، والحكم المضارعة لحكم الفلاسفة، والعلوم في الخيل، والنجوم وأنوائها والاهتداء بها، والرياح وما كان منها مبشراً أو جائلا، والبروق وما كان منها خلباً أو صادقاً، والسحاب وما كان منها جهاماً أو ماطراً، وعما يبعث منه البخيل على السماح، والجبان على اللقاء، والدنى على السمو.
غير أني رأيت ما ذكرت من ذلك في كتاب العرب كثيراً، كافياً، فكرهت الإطاعة بإعادته، فمن أحب أن يعرف ذلك، ليستدل به على حلو الشعر ومره. نظر في ذلك الكتاب، إن شاء الله تعالى.
الكتاب اسمه الشعر و الشعراء لابن قتيبة الدينوري...
الجزء الأول
مقدمة المؤلف
قال أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة: هذا كتاب ألفته في الشعراء، أخبرت فيه عن الشعراء وأزمانهم، وأقدارهم، وأحوالهم في أشعارهم، وقبائلهم، وأسماء آبائهم، ومن كان يعرف باللقب أو بالكنية منهم. وعما يستحسن من أخبار الرجل ويستجاد من شعره، وما أخذته العلماء عليهم من الغلط والخطاء في ألفاظهم أو معانيهم، وما سبق إليه المتقدمون فأخذه عنهم المتأخرون. وأخبرت فيه عن أقسام الشعر وطبقاته، وعن الوجوه التي يختار الشعر عليها ويستحسن لها إلى غير ذلك مما قدمته في هذا الجزء الأول.
قال أبو محمد: وكان أكثر قصدي للمشهورين من الشعراء، الذين يعرفهم جل أهل الأدب، والذين يقع الاحتجاج بأشعارهم في الغريب، وفي النحو، وفي كتاب الله عز وجل، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأما من خفي اسمه، وقل ذكره، وكسد شعره، وكان لا يعرفه إلا بعض الخواص، فما أقل من ذكرت من هذه الطبقة. إذ كنت لا أعرف منهم إلا القليل، ولا أعرف لذلك القليل أيضاً أخباراً من هذه الطبقة، وإذ كنت أعلم أنه لا حاجة بك إلى أن أسمى لك أسماء لا أدل عليها بخبرٍ أو زمانٍ، أو نسبٍ أو نادرةٍ، أو بيتٍ يستجاد، أو يستغرب.
ولعلك تظن رحمك الله أنه يجب على من ألف مثل كتابنا هذا ألا يدع شاعراً قديماً ولا حديثاً إلا ذكره ودلك عليه، وتقدر أن يكون الشعراء بمنزلة رواة الحديث والأخبار، والملوك والأشراف، الذين يبلغهم الإحصاء، ويجمعهم العدد.
والشعراء المعروفون بالشعر عند عشائرهم وقبائلهم في الجاهلية والإسلام، أكثر من أن يحيط بهم محيطٌ أو يقف من وراءِ عددهم واقفٌ، ولو أنفد عمره في التنقير عنهم، واستفرغ مجهوده في البحث والسؤال. ولا أحسب أحداً من علمائنا استغرق شعر قبيلة حتى لم يفته من تلك القبيلة شاعرٌ إلا عرفه، ولا قصيدةٌ إلا رواها.
حدثنا سهل بن محمد حدثنا الأصمعي، حدثنا كردينُ بن مسمعٍ، قال: جاء فتيانٌ إلى أبي ضمضمٍ بعد العشاء، فقال لهم: ما جاء بكم يا خبثاء؟ قالوا: جئناك نتحدث، قال: كذبتم، ولكن قلتم، كبر الشيخ فنتلعبه عسى أن نأخذ عليه سقطةٌ ! فأنشدهم لمائة شاعرٍ، وقال مرة أخرى، لثمانين شاعراً، كلهم اسمه عمروٌ.
قال الأصمعي: فعددتُ أنا وخلفٌ الأحمر فلم نقدر على ثلاثين.
فهذا ما حفظه أبو ضمضم، ولم يكن بأروى الناس، وما أقرب أن يكون من لا يعرفه من المسمين بهذا الاسم أكثر ممن عرفه.
هذا إلى من سقط شعره من شعراء القبائل، ولم يحمله إلينا العلماء والنقلة.
أخبرنا أبو حاتم حدثنا الأصمعي قال: كان ثلاثةٌ إخوة من بني سعد لم يأتوا الأمصار، فذهب رجزهم، يقال لهم منذرٌ ونذير ومنتذرٌ، ويقال إن قصيدة رؤبة التي أولها:
وقَاتِم الْأعْمَاق خَاوِى الُمخْتَرَقْ ... ........لِمُنْتذِر
قال أبو محمد: ولم أعرض في كتابي هذا لمن كان غلب عليه غير الشعر. فقد رأينا بعض من ألف في هذا الفن كتاباً يذكر في الشعراء من لا يعرف بالشعر ولم يقل منه إلا الشذ اليسير، كابن شبرمة القاضي، وسليمان بن قتة التيمي المحدث. ولو قصدنا لذكر مثل هؤلاء في الشعر لذكرنا أكثر الناس، لأنه قلَّ أحدٌ له أدنى مسكة من أدب. وله أدنى حظ من طبعٍ، إلا وقد قال من الشعر شيئاً. ولاحتجنا أن نذكر صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجلة التابعين، وقوماً كثيراً من حملة العلم، ومن الخلفاء والأشراف، ونجعلهم في طبقات الشعراء.
ولم أسلك فيما ذكرته من شعر كلٌ شاعر مختاراً له، سبيل من في قلد، أو استحسن باستحسان غيره. ولا نظرت إلى المتقدم منهم بعين الجلالة لتقدمه، وإلى المتأخر منهم بعين الاحتقار لتأخره. بل نظرت بعين العدل على الفريقين، وأعطيت كلا حظه، ووفرتُ عليه حقه.
فإني رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله، ويضعه في متخيره، ويرذل الشعر الرصين، ولا عيب له عنده إلا أنه قيل في زمانه، أو أنه رأى قائله ولم يقصر الله العلم والشعر والبلاغة على زمن دون زمن ولا خص به قوماً دون قومٍ، بل جعل ذلك مشتركاً مقسوماً بين عباده في كل دهر، وجعل كل قديم حديثاً في عصره، وكل شرفٍ خارجيةً في أوله، فقد كان جريرٌ والفرزدق والأخطل وأمثالهم يعدون محدثين. وكان أبو عمر وابن العلاء يقول: لقد كثر هذا المحدث وحسن حتى لقد هممت بروايته.
ثم صار هؤلاء قدماء عندنا ببعد العهد منهم، وكذلك يكون من بعدهم لمن بعدنا، كالخريمي والعتابي والحسن بن هانىءٍ وأشباههم. فكل من أتى بحسنٍ من قول أو فعل ذكرناه له، وأثنينا به عليه، ولم يضعه عندنا تأخر قائله أو فاعله، ولا حداثة سنه. كما أن الردىء إذا ورد علينا للمتقدم أو الشريف لم يرفعه عندنا شرف صاحبه ولا تقدمه.
وكان حق هذا الكتاب أن أودعه الأخبار عن جلالة قدر الشعر وعظيم خطره، وعمن رفعه الله بالمديح، وعمن وضعه بالهجاء وعما أودعته العرب من الأخبار النافعة، والأنساب الصحاح، والحكم المضارعة لحكم الفلاسفة، والعلوم في الخيل، والنجوم وأنوائها والاهتداء بها، والرياح وما كان منها مبشراً أو جائلا، والبروق وما كان منها خلباً أو صادقاً، والسحاب وما كان منها جهاماً أو ماطراً، وعما يبعث منه البخيل على السماح، والجبان على اللقاء، والدنى على السمو.
غير أني رأيت ما ذكرت من ذلك في كتاب العرب كثيراً، كافياً، فكرهت الإطاعة بإعادته، فمن أحب أن يعرف ذلك، ليستدل به على حلو الشعر ومره. نظر في ذلك الكتاب، إن شاء الله تعالى.
رد: كتاب الشعر و الشعراء...
أقسام الشعر
قال أبو محمد: تدبرت الشعر فوجدته أربعة أضرب.
ضربٌ منه حسن لفظه وجاد معناه، كقول القائل في بعض بني أمية:
في كَفِّهِ خَيْزُرَانٌ رِيحُهُ عَبقٌ ... مِنْ كَفِّ أَرْوَعَ في عرْنِينِهِ شممُ
يغْضِى حَيَاءً ويُغْضَى مِنْ مَهَابَتِةِ ... فَما يُكلَّمُ إلَّا حِينَ يَبْتَسِمُ
لم يقل في الهيبة شيءٌ أحسن منه.
وكقول أوس بن حجر:
أيَّتُهَا النَّفْسُ أَجْمِلى جَزَعَا ... إنَّ الَّذِي تَحْذرِينَ قَدْ وَقَعَا
لم يبتدى أحدٌ مرثيةٌ بأحسن من هذا.
وكقول أبي ذؤيبٍ:
والَّنْفُس رَاغِبَةٌ إذَا رَغَّبْتَهَا ... وإذَا تُرَد إلَى قَلِيلٍ تَقْنَعُ
حدثني الرياشي عن الأصمعي، قال: هذا أبدع بيت قاله العرب.
وكقول حميد بن ثورٍ:
أَرَى بَصَرِي قَدْ رَابَني بَعْدَ صِحَّةٍ ... وحَسْبُكَ دَاءً أَنْ تَصِحَّ وتَسْلَمَا
ولم يقل في الكبر شيءٌ أحسن منه.
وكقول النابغة:
كِلِينِي لِهَمٍّ يَا أُمَيْمَةَ نَاصِبِ ... ولَيْلٍ أُقَاسِيهِ بَطِىءِ الكَوَاكِب
لم يبتدى أحدٌ من المتقدمين بأحسن منه ولا أغرب.
ومثل هذا في الشعر كثيرٌ، ليس للإطالة به في هذا الموضع وجهٌ، وستراه عنه ذكرنا أخبار الشعراء.
وضربٌ منه حسن لفظه وحلا، فإذا أنت فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى، كقول القائل:
ولَمَّا قَضَيْنَا مِنْ مِنًى كُلَّ حَاجةٍ ... ومَسَّحَ بِالأَرْكانِ مَنْ هُوَ مَاسِحُ
وشُدَّتٌ على حُدْبِ المَهَارِى رحَالُنَا ... ولا يَنْظُرُ الغَادِي الذي هُوَ رَائحُ
أَخَذْنَا بِأَطْرافِ الأَحَادِيثِ بَيْنَنَاوسَالَتْ بِأَعْنَاقِ المَطِىِّ الأَبَاطِحُ
هذه الألفاظ كما ترى أحسن شيءٍ مخارج ومطالع ومقاطع، وإن نظرت إلى ما تحتها من المعنى وجدته: ولما قطعنا أيام منى، واستلمنا الأركان، وعالينا إبلنا الأنضاء، ومضى الناس لا ينتظر الغادي الرائح، ابتدأنا في الحديث وسارت المطي في الأبطح.
وهذا الصنف في الشعر كثيرٌ.
ونحوه قول المعلوط:
إِنَّ الذين غَدَوْا بُلِّبكَ غادَرُوا ... وَشَلاً بِعَيْنِكَ مَا يَزَالُ مَعِينَا
غيَّضْنَ مِنْ عَبَرَاتِهِنَّ وقُلْنَ لي ... مَاذَا لَقِيتَ مِنَ الْهَوَى ولَقِينَا
ونحوه قول جريرٍ:
يا أُخْتَ نَاجِيَةَ السَّلَامُ عَلَيْكُمُ ... قَبْلَ الرَّحِيلِ وقَبْلَ لَوْمِ العُذَّل
لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّ آخِرَ عَهْدكُمْ ... يَوْمُ الرَّحِيل فَعَلْتُ ما لم أَفْعَل
وقوله:
بَانَ الخلِيطُ ولوْ طُوِّعْتُ ما بَانَا ... وقَطَعُوا مِنْ حِبَالِ الوَصْل أَقْرَانَا
إِنَّ العُيُونَ التي في طَرْفِهَا مَرَضٌ ... قَتَّلْنَنَا ثُمَّ لم يُحيينَ قَتْلاَنَا
يَصْرَعْنَ ذَا اللُّبِّ حتى لَا حَرَاكَ بِهِ ... وهُنَّ أَضْعَفُ خَلْق اللهِ أَرْكانا
وضربٌ منه جاد معناه وقصرت ألفاظه عنه، كقول لبيد بن ربيعة:
ما عَاتَبَ المَرْءَ الْكَريمَ كَنَفْسِهِ ... والمَرْءُ يُصْلِحُهُ الجَلِيسُ الصَّالِحُ
هذا وإن كان جيد المعنى والسبك فإنه قليل الماء والرونق.
وكقول النابغة للنعمان:
خَطَاطِيفُ حُجْنٌ في حِبَالٍ مَتِينَةٍ ... تَمُدُّ بِهَا أَيْدٍ إلَيْكَ نَوَازِعُ
قال أبو محمد: رأيت علماءنا يستجدون معناه، ولست أرى ألفاظه جياداً ولا مبينةً لمعناه، لأنه أراد: أنت في قدرتك على كخطاطيف عقفٍ يمد بها، وأنا كدلوٍ تمد بتلك الخطاطيف، وعلى أني أيضاً لست أرى المعنى جيداً.
وكقول الفرزدق:
والشَّيْبُ يَنْهَضُ في الشَّبَاب كأَنَّه ... لَيْلٌ يَصِيحُ بجَانِبَيْهِ نَهَارُ
وضربٌ منه تأخر معناه وتأخر لفظه، كقول الأعشى في امرأةٍ:
وفُوها.....كَأَقَاحِيَّ ... غَذَاهُ دَائمُ الهَطْلِ
كما شِيبَ برَاحٍ بَا ... رِد مِنْ عَسَل النَّحْل
وكقول:
إنَّ مَحَلاًّ وإِنَّ مُرْتَحَلا ... وإِنَّ في السَّفْرِ ما مَضَى مَهَلا
اسْتَأْثَرَ اللهُ بِالوَفَاءِ وَبِاْل ... حَمْدِ وَوَلَّى المَلَامَةَ الرَّجُلا
والأَرْضُ حَمَّالَةٌ لمَا حَمَّلَ الَّل ... هُ وَمَا إِنْ تَرُدُّ ما فَعَلَا
يَوْماً تَرَاهَا كَشِبْهِ أَرْدِيَةِ الْ ... عَصْب ويَوْماً أَدِيمُهَا نَغِلَا
وهذا الشعر منحولٌ، ولا أعلم فيه شيئاً يستحسن إلا قوله:
يَا خَيْرَ مَنْ يَرْكَبُ الْمَطِىَّ ولَا ... يَشْرَبُ كَأْساً بِكَفِّ مَنْ بَخِلَا
يريد أن كل شاربٍ يشرب بكفه، وهذا ليس ببخيل فيشرب بكف من بخل، وهو معنًى لطيف.
وكقول الخليل بن أحمد العروضي:
إِنَّ الخَليطَ تَصَدَّعْ ... فَطِرْ بِدَائِكَ أَوْقَعْ
لَوْلَا جَوَارٍ حِسَانٌ ... حُورُ الْمَدَامِع أَرْبَعْ
أُمُّ البَنِينَ وأَسْمَا ... ءٌ والرَّبَابُ وبَوْزَعْ
لَقُلْتُ لِلرَّاحِلِ ارْحَلْ ... إِذَا بدا لَكَ أَوْ دَعْ
وهذا الشعر بين التكلف ردىء الصنعة. وكذلك أشعار العلماء، ليس فيها شيءٌ جاء عن إسماحٍ وسهولة، كشعر الأصمعي، وشعر ابن المقفع وشعر الخليل، خلا خلفٍ الأحمر، فإنه كان أجودهم طبعاً وأكثرهم شعراً. ولو لم يكن في هذا الشعر إلا أم البنين وبوزع لكفاه! فقد كان جررٌ أنشد بعض خلفاء بني أمية قصيدته التي أولها:
بانَ الخَلِيطُ بِرَامَتَيْنِ فَوَدَّعُوا ... أَوَ كُلَّمَا جَدُّوا لِبَيْنٍ تَجْزَعُ
كَيْفَ العَزَاءُ ولم أَجِدْ مُذْ بِنْتُمُ ... قَلْباً يَقِرُّ ولا شَرَاباً يَنْقَعُ
وهو يتحفز ويزحف من حسن الشعر، حتى إذا بلغ إلى قوله:
وتَقُولُ بَوْزَعُ قَدْ دَبَبْتَ عَلَى العَصَاهَلاَّ هَزِئْتِ بِغَيْرِنَا يَا بَوْزَعُ
قال له: أفسدت شعرك بهذا الاسم وفتر.
قال أبو محمد: وقد يقدح في الحسن قبح اسمه، كما ينفع القبيح حسن اسمه، ويزيد في مهانة الرجل فظاعة اسمه، وترد عدالة الرجل بكنيته ولقبه. ولذلك قيل: اشفعوا بالكنى، فإنها شبهةٌ.
وتقدم رجلان إلى شريحٍ، فقال أحدهما: ادع أبا الكويفر ليشهد، فتقدم شيخٌ فرده شريحٌ ولم يسأل عنه، وقال: لو كنت عدلاً لم ترض بها، ورد آخر يلقب أبا الذبان ولم يسأل عنه.
وسأل عمر رجلاً أراد أن يستعين به على أمرٍ عن اسمه واسم أبيه، فقال: ظالم بن سراق، فقال: تظلم أنت ويسرق أبوك ولم يستعن به.
وسمع عمر بن عبد العزيز رجلاً يدعو رجلاً: يأبا العمرين، فقال: لو كان له عقلٌ كفاه أحدهما! ومن هذا الضرب قول الأعشى:
وقَدْ غَدَوْتُ إلى الحَانُوتِ يتْبَعُني ... شَاوٍ مِشَلٌّ شَلُولٌ شُلْشَلٌ شَوِل
وهذه الألفاظ الأربعة في معنىً واحد، وكان قد يستغنى بأحدها عن جميعها، وماذا يزيد هذا البيت أن كان للأعشى أو ينقص؟ وقول أبي الأسد، وهو من المتأخرين الأخفياء:
ولَائِمَة لَامَتْكَ يَا فَيْضُ في النَّدَىفَقُلْتَ لَها لَنْ يَقْدَحَ اللَّوْمُ في البَحْرِ
أَرَادَتْ لِتَثْنِي الفَيْضَ في كُلِّ بَلْدَةٍمَوَاقِعُ ماءِ المُزْنِ في البَلَدِ القَفْر
لتثنى الغيض عن عادة الندى ... ومن ذا الذي يثني السحاب عن القطر
مَوَاقِعُ جَوُدِ الفَيْضِ في كُلِّ بَلْدَةٍمَوَاقِعُ ماءِ المُزْنِ في البَلَدِ القَفْر
كَأَنَّ وُفُودَ الفَيْضِ حِينَ تَحَمَّلُواإلى الْفَيِض وَافَوْا عْندَةُ لَيْلَةَ القَدْرِ
وهو القائل:
لَيْتَكَ آذَنْتَنِي بِوَاحدَاةٍ ... تَكُونُ لي مِنْكَ سَائِرَ الأَبَدِ
تَحْلِفُ أَلاَّ تَبَرَني أَبَداً ... فَإنَّ فِيهَا بَرْداً على كَبدِي
إِنْ كانَ رِزْقي إِلَيْكَ فَارْمِ بِهِ ... في نَاظِرَيْ حَيَّةٍ على رَصَدِ
ومن هذا الضرب أيضاً قول المرقش:
هَلْ بِالدِّيَارِ أَنْ تُجِيبَ صَمَمْ ... لَوْ أَنَّ حَيًّا نَاطِقاً كَلمْ
يَأْبي الشَّبَابُ الأَقْوَرِينَ ولاَ ... تَغْبِطْ أَخَاكَ أَنْ يُقَالَ حَكَمْ
والعجب عندي من الأصمعي، إذ أدخله في متخيره، وهو شعرٌ ليس بصحيح الوزن ولا حسن الروى، ولا متخير اللفظ، ولا لطيف المعنى ولا أعلم فيه شيئاً يستحسنُ إلا قوله:
النَّشرُ مِسْك والوُجُوهُ دنَا ... نِيرُ وأَطْرَاف الأَكُفِّ عَنَمْ
ويستجاد منه قوله:
لَيْسَ على طُولِ الحيَاةِ نَدَمْ ... ومنْ وَرَاءِ المَرْء مَا يُعْلَمْ
وكان الناس يستجيدون للأعشى قوله:
وكَأْسٍ شَرِبْتُ على لَذةٍ ... وأُخْرَى تَدَاوَيْتُ منْهَا بهَا
حتى قال أبو نواس:
دَعْ عَنْكَ لَوْمي فَإنَّ اللَّوْمَ إِغْرَاءُ ... وَدَاوِني بالتي كانَتْ هِي الدَّاءُ
فسلخه وزاد فيه معنًى آخر، اجتمع له به الحسنُ في صدره وعجزه، فللأعشى فضل السبق إليه، ولأبي نواسٍ فضل الزيادة فيه.
وقال الرشيد للمفضل الضبي: اذكر لي بيتاً جيد المعنى يحتاج إلى مقارعة الفكر في استخراج خبيئه ثم دعني وإياه، فقال له المفضل: أتعرف بيتاً أوله أعرابي في شملته، هاب من نومته، كأنما صدر عن ركبٍ جرى في أجفانهم الوسن فركد، يستفزهم بعنجهية البدو، وتعجرف الشدو، وآخره مدني رقيق، قد غذى بماء العقيق؟ قال: لا أعرفه، قال: هو بيت جميل بن معمر:
أَلاَ أَيُّهَا الرَّكْبُ النيَامُ أَلاَ هُبُّوا
ثم أدركته رقة المشوق، فقال:
أسائلكم: هل يقتل الرجل الحب؟
قال: صدقت، فهل تعرف أنت الآن بيتاً أوله أكثم بن صيفي في إصالة الرأي ونبل العظة، وآخره إبقراط في معرفته بالداء والدواء؟ قال المفضل: قد هولت علي، فليت شعري بأي مهرٍ تفترع عروس هذا الخدر؟ قال: بإصغائك وإنصافك، وهو قول الحسن بن هاني:
دَعْ عَنْكَ لَوْمي فَإنَّ اللَّوْمَ إِغْرَاءُ ... وَدَاوِني بالتي كانَتْ هِي الدَّاءُ
قال أبو محمد: تدبرت الشعر فوجدته أربعة أضرب.
ضربٌ منه حسن لفظه وجاد معناه، كقول القائل في بعض بني أمية:
في كَفِّهِ خَيْزُرَانٌ رِيحُهُ عَبقٌ ... مِنْ كَفِّ أَرْوَعَ في عرْنِينِهِ شممُ
يغْضِى حَيَاءً ويُغْضَى مِنْ مَهَابَتِةِ ... فَما يُكلَّمُ إلَّا حِينَ يَبْتَسِمُ
لم يقل في الهيبة شيءٌ أحسن منه.
وكقول أوس بن حجر:
أيَّتُهَا النَّفْسُ أَجْمِلى جَزَعَا ... إنَّ الَّذِي تَحْذرِينَ قَدْ وَقَعَا
لم يبتدى أحدٌ مرثيةٌ بأحسن من هذا.
وكقول أبي ذؤيبٍ:
والَّنْفُس رَاغِبَةٌ إذَا رَغَّبْتَهَا ... وإذَا تُرَد إلَى قَلِيلٍ تَقْنَعُ
حدثني الرياشي عن الأصمعي، قال: هذا أبدع بيت قاله العرب.
وكقول حميد بن ثورٍ:
أَرَى بَصَرِي قَدْ رَابَني بَعْدَ صِحَّةٍ ... وحَسْبُكَ دَاءً أَنْ تَصِحَّ وتَسْلَمَا
ولم يقل في الكبر شيءٌ أحسن منه.
وكقول النابغة:
كِلِينِي لِهَمٍّ يَا أُمَيْمَةَ نَاصِبِ ... ولَيْلٍ أُقَاسِيهِ بَطِىءِ الكَوَاكِب
لم يبتدى أحدٌ من المتقدمين بأحسن منه ولا أغرب.
ومثل هذا في الشعر كثيرٌ، ليس للإطالة به في هذا الموضع وجهٌ، وستراه عنه ذكرنا أخبار الشعراء.
وضربٌ منه حسن لفظه وحلا، فإذا أنت فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى، كقول القائل:
ولَمَّا قَضَيْنَا مِنْ مِنًى كُلَّ حَاجةٍ ... ومَسَّحَ بِالأَرْكانِ مَنْ هُوَ مَاسِحُ
وشُدَّتٌ على حُدْبِ المَهَارِى رحَالُنَا ... ولا يَنْظُرُ الغَادِي الذي هُوَ رَائحُ
أَخَذْنَا بِأَطْرافِ الأَحَادِيثِ بَيْنَنَاوسَالَتْ بِأَعْنَاقِ المَطِىِّ الأَبَاطِحُ
هذه الألفاظ كما ترى أحسن شيءٍ مخارج ومطالع ومقاطع، وإن نظرت إلى ما تحتها من المعنى وجدته: ولما قطعنا أيام منى، واستلمنا الأركان، وعالينا إبلنا الأنضاء، ومضى الناس لا ينتظر الغادي الرائح، ابتدأنا في الحديث وسارت المطي في الأبطح.
وهذا الصنف في الشعر كثيرٌ.
ونحوه قول المعلوط:
إِنَّ الذين غَدَوْا بُلِّبكَ غادَرُوا ... وَشَلاً بِعَيْنِكَ مَا يَزَالُ مَعِينَا
غيَّضْنَ مِنْ عَبَرَاتِهِنَّ وقُلْنَ لي ... مَاذَا لَقِيتَ مِنَ الْهَوَى ولَقِينَا
ونحوه قول جريرٍ:
يا أُخْتَ نَاجِيَةَ السَّلَامُ عَلَيْكُمُ ... قَبْلَ الرَّحِيلِ وقَبْلَ لَوْمِ العُذَّل
لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّ آخِرَ عَهْدكُمْ ... يَوْمُ الرَّحِيل فَعَلْتُ ما لم أَفْعَل
وقوله:
بَانَ الخلِيطُ ولوْ طُوِّعْتُ ما بَانَا ... وقَطَعُوا مِنْ حِبَالِ الوَصْل أَقْرَانَا
إِنَّ العُيُونَ التي في طَرْفِهَا مَرَضٌ ... قَتَّلْنَنَا ثُمَّ لم يُحيينَ قَتْلاَنَا
يَصْرَعْنَ ذَا اللُّبِّ حتى لَا حَرَاكَ بِهِ ... وهُنَّ أَضْعَفُ خَلْق اللهِ أَرْكانا
وضربٌ منه جاد معناه وقصرت ألفاظه عنه، كقول لبيد بن ربيعة:
ما عَاتَبَ المَرْءَ الْكَريمَ كَنَفْسِهِ ... والمَرْءُ يُصْلِحُهُ الجَلِيسُ الصَّالِحُ
هذا وإن كان جيد المعنى والسبك فإنه قليل الماء والرونق.
وكقول النابغة للنعمان:
خَطَاطِيفُ حُجْنٌ في حِبَالٍ مَتِينَةٍ ... تَمُدُّ بِهَا أَيْدٍ إلَيْكَ نَوَازِعُ
قال أبو محمد: رأيت علماءنا يستجدون معناه، ولست أرى ألفاظه جياداً ولا مبينةً لمعناه، لأنه أراد: أنت في قدرتك على كخطاطيف عقفٍ يمد بها، وأنا كدلوٍ تمد بتلك الخطاطيف، وعلى أني أيضاً لست أرى المعنى جيداً.
وكقول الفرزدق:
والشَّيْبُ يَنْهَضُ في الشَّبَاب كأَنَّه ... لَيْلٌ يَصِيحُ بجَانِبَيْهِ نَهَارُ
وضربٌ منه تأخر معناه وتأخر لفظه، كقول الأعشى في امرأةٍ:
وفُوها.....كَأَقَاحِيَّ ... غَذَاهُ دَائمُ الهَطْلِ
كما شِيبَ برَاحٍ بَا ... رِد مِنْ عَسَل النَّحْل
وكقول:
إنَّ مَحَلاًّ وإِنَّ مُرْتَحَلا ... وإِنَّ في السَّفْرِ ما مَضَى مَهَلا
اسْتَأْثَرَ اللهُ بِالوَفَاءِ وَبِاْل ... حَمْدِ وَوَلَّى المَلَامَةَ الرَّجُلا
والأَرْضُ حَمَّالَةٌ لمَا حَمَّلَ الَّل ... هُ وَمَا إِنْ تَرُدُّ ما فَعَلَا
يَوْماً تَرَاهَا كَشِبْهِ أَرْدِيَةِ الْ ... عَصْب ويَوْماً أَدِيمُهَا نَغِلَا
وهذا الشعر منحولٌ، ولا أعلم فيه شيئاً يستحسن إلا قوله:
يَا خَيْرَ مَنْ يَرْكَبُ الْمَطِىَّ ولَا ... يَشْرَبُ كَأْساً بِكَفِّ مَنْ بَخِلَا
يريد أن كل شاربٍ يشرب بكفه، وهذا ليس ببخيل فيشرب بكف من بخل، وهو معنًى لطيف.
وكقول الخليل بن أحمد العروضي:
إِنَّ الخَليطَ تَصَدَّعْ ... فَطِرْ بِدَائِكَ أَوْقَعْ
لَوْلَا جَوَارٍ حِسَانٌ ... حُورُ الْمَدَامِع أَرْبَعْ
أُمُّ البَنِينَ وأَسْمَا ... ءٌ والرَّبَابُ وبَوْزَعْ
لَقُلْتُ لِلرَّاحِلِ ارْحَلْ ... إِذَا بدا لَكَ أَوْ دَعْ
وهذا الشعر بين التكلف ردىء الصنعة. وكذلك أشعار العلماء، ليس فيها شيءٌ جاء عن إسماحٍ وسهولة، كشعر الأصمعي، وشعر ابن المقفع وشعر الخليل، خلا خلفٍ الأحمر، فإنه كان أجودهم طبعاً وأكثرهم شعراً. ولو لم يكن في هذا الشعر إلا أم البنين وبوزع لكفاه! فقد كان جررٌ أنشد بعض خلفاء بني أمية قصيدته التي أولها:
بانَ الخَلِيطُ بِرَامَتَيْنِ فَوَدَّعُوا ... أَوَ كُلَّمَا جَدُّوا لِبَيْنٍ تَجْزَعُ
كَيْفَ العَزَاءُ ولم أَجِدْ مُذْ بِنْتُمُ ... قَلْباً يَقِرُّ ولا شَرَاباً يَنْقَعُ
وهو يتحفز ويزحف من حسن الشعر، حتى إذا بلغ إلى قوله:
وتَقُولُ بَوْزَعُ قَدْ دَبَبْتَ عَلَى العَصَاهَلاَّ هَزِئْتِ بِغَيْرِنَا يَا بَوْزَعُ
قال له: أفسدت شعرك بهذا الاسم وفتر.
قال أبو محمد: وقد يقدح في الحسن قبح اسمه، كما ينفع القبيح حسن اسمه، ويزيد في مهانة الرجل فظاعة اسمه، وترد عدالة الرجل بكنيته ولقبه. ولذلك قيل: اشفعوا بالكنى، فإنها شبهةٌ.
وتقدم رجلان إلى شريحٍ، فقال أحدهما: ادع أبا الكويفر ليشهد، فتقدم شيخٌ فرده شريحٌ ولم يسأل عنه، وقال: لو كنت عدلاً لم ترض بها، ورد آخر يلقب أبا الذبان ولم يسأل عنه.
وسأل عمر رجلاً أراد أن يستعين به على أمرٍ عن اسمه واسم أبيه، فقال: ظالم بن سراق، فقال: تظلم أنت ويسرق أبوك ولم يستعن به.
وسمع عمر بن عبد العزيز رجلاً يدعو رجلاً: يأبا العمرين، فقال: لو كان له عقلٌ كفاه أحدهما! ومن هذا الضرب قول الأعشى:
وقَدْ غَدَوْتُ إلى الحَانُوتِ يتْبَعُني ... شَاوٍ مِشَلٌّ شَلُولٌ شُلْشَلٌ شَوِل
وهذه الألفاظ الأربعة في معنىً واحد، وكان قد يستغنى بأحدها عن جميعها، وماذا يزيد هذا البيت أن كان للأعشى أو ينقص؟ وقول أبي الأسد، وهو من المتأخرين الأخفياء:
ولَائِمَة لَامَتْكَ يَا فَيْضُ في النَّدَىفَقُلْتَ لَها لَنْ يَقْدَحَ اللَّوْمُ في البَحْرِ
أَرَادَتْ لِتَثْنِي الفَيْضَ في كُلِّ بَلْدَةٍمَوَاقِعُ ماءِ المُزْنِ في البَلَدِ القَفْر
لتثنى الغيض عن عادة الندى ... ومن ذا الذي يثني السحاب عن القطر
مَوَاقِعُ جَوُدِ الفَيْضِ في كُلِّ بَلْدَةٍمَوَاقِعُ ماءِ المُزْنِ في البَلَدِ القَفْر
كَأَنَّ وُفُودَ الفَيْضِ حِينَ تَحَمَّلُواإلى الْفَيِض وَافَوْا عْندَةُ لَيْلَةَ القَدْرِ
وهو القائل:
لَيْتَكَ آذَنْتَنِي بِوَاحدَاةٍ ... تَكُونُ لي مِنْكَ سَائِرَ الأَبَدِ
تَحْلِفُ أَلاَّ تَبَرَني أَبَداً ... فَإنَّ فِيهَا بَرْداً على كَبدِي
إِنْ كانَ رِزْقي إِلَيْكَ فَارْمِ بِهِ ... في نَاظِرَيْ حَيَّةٍ على رَصَدِ
ومن هذا الضرب أيضاً قول المرقش:
هَلْ بِالدِّيَارِ أَنْ تُجِيبَ صَمَمْ ... لَوْ أَنَّ حَيًّا نَاطِقاً كَلمْ
يَأْبي الشَّبَابُ الأَقْوَرِينَ ولاَ ... تَغْبِطْ أَخَاكَ أَنْ يُقَالَ حَكَمْ
والعجب عندي من الأصمعي، إذ أدخله في متخيره، وهو شعرٌ ليس بصحيح الوزن ولا حسن الروى، ولا متخير اللفظ، ولا لطيف المعنى ولا أعلم فيه شيئاً يستحسنُ إلا قوله:
النَّشرُ مِسْك والوُجُوهُ دنَا ... نِيرُ وأَطْرَاف الأَكُفِّ عَنَمْ
ويستجاد منه قوله:
لَيْسَ على طُولِ الحيَاةِ نَدَمْ ... ومنْ وَرَاءِ المَرْء مَا يُعْلَمْ
وكان الناس يستجيدون للأعشى قوله:
وكَأْسٍ شَرِبْتُ على لَذةٍ ... وأُخْرَى تَدَاوَيْتُ منْهَا بهَا
حتى قال أبو نواس:
دَعْ عَنْكَ لَوْمي فَإنَّ اللَّوْمَ إِغْرَاءُ ... وَدَاوِني بالتي كانَتْ هِي الدَّاءُ
فسلخه وزاد فيه معنًى آخر، اجتمع له به الحسنُ في صدره وعجزه، فللأعشى فضل السبق إليه، ولأبي نواسٍ فضل الزيادة فيه.
وقال الرشيد للمفضل الضبي: اذكر لي بيتاً جيد المعنى يحتاج إلى مقارعة الفكر في استخراج خبيئه ثم دعني وإياه، فقال له المفضل: أتعرف بيتاً أوله أعرابي في شملته، هاب من نومته، كأنما صدر عن ركبٍ جرى في أجفانهم الوسن فركد، يستفزهم بعنجهية البدو، وتعجرف الشدو، وآخره مدني رقيق، قد غذى بماء العقيق؟ قال: لا أعرفه، قال: هو بيت جميل بن معمر:
أَلاَ أَيُّهَا الرَّكْبُ النيَامُ أَلاَ هُبُّوا
ثم أدركته رقة المشوق، فقال:
أسائلكم: هل يقتل الرجل الحب؟
قال: صدقت، فهل تعرف أنت الآن بيتاً أوله أكثم بن صيفي في إصالة الرأي ونبل العظة، وآخره إبقراط في معرفته بالداء والدواء؟ قال المفضل: قد هولت علي، فليت شعري بأي مهرٍ تفترع عروس هذا الخدر؟ قال: بإصغائك وإنصافك، وهو قول الحسن بن هاني:
دَعْ عَنْكَ لَوْمي فَإنَّ اللَّوْمَ إِغْرَاءُ ... وَدَاوِني بالتي كانَتْ هِي الدَّاءُ
رد: كتاب الشعر و الشعراء...
قال أبو محمد: وسمعت بعض أهل الأدب يذكر أن مقصد القصيد إنما ابتدأ فيها بذكر الديار والدمن والآثار، فبكى وشكا، وخاطب الربع، واستوقف الرفيق، ليجعل ذلك سبباً لذكر أهلها الظاعنين عنها، إذ كان نازلة العمد في الحلول والظغن على خلاف ما عليه نازلة المدر، لانتقالهم عن ماءٍ إلى ماءٍ، وانتجاعهم الكلأ، وتتبعهم مساقط الغيث حيث كان. ثم وصل ذلك بالنسيب، فشكا شدة الوجد وألم الفراق وفرط الصبابة، والشوق، ليميل نحوه القلوب، ويصرف إليه الوجوه، وليستدعي به إصغاء الأسماع إليه، لأن التشبيب قريبٌ من النفوس، لأئطٌ بالقلوب، لما قد جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل، وإلف النساء، فليس يكاد أحدٌ يخلو من أن يكون متعلقاً منه بسببٍ، وضارباً فيه بسهمٍ، حلالٍ أو حرامٍ، فإذا علم أنه قد استوثق من الإصغاء إليه، والاستماع له، عقب بإيجاب الحقوق، فرحل في شعره، وشكا النصب والسهر وسرى الليل وحل الهجير، وإنضاء الراحلة والبعير، فإذا علم أنه قد أوجب على صاحبه حق الرجاء، وذمامة التأميل وقرر عنده ما ناله من المكاره في المسير، بدأ في المديح، فبعثه على المكأفاة، وهزه للسماح، وفضله على الأشباه، وصغر في قدره الجزيل.
فالشاعر المجيد من سلك هذه الأسالب، وعدل بين هذه الأقسام، فلم يجعل واحداً منها أغلب على الشعر، ولم يطل فيمل السامعين، ولم يقطع وبالنفوس ظمآءٌ إلى المزيد.
فقد كان بعض الرجاز أتى نصر بن سيارٍ وإلى خراسان لبنى أمية، فمدحه بقصيدةٍ، تشبيبها مائة بيتٍ، ومديحها عشرة أبياتٍ، فقال نصرٌ: والله ما بقيت كلمةٌ عذبةً ولا معنى لطيفاً إلا وقد شغلته عن مديحي بتشبيبك، فإن أردت مديحي فاقتصد في التسيب، فأتاه فأنشده،
هَلْ تَعْرِفُ الدَّارَ لأُمِّ الغَمْرِ ... دَعْ ذَا وحَبّرْ مدْحَةً في نَصْرِ
فقال نصر: لا ذلك ولا هذا ولكن بين الأمرين.
وقيل لعقيل بن علفة: ما لك لا تطيل الهجاء؟ فقال: يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق.
وقيل لأبي المهوش الأسدي: لم لا تطيل الهجاء؟ فقال: لم أجد المثل السائر إلا بيتاً واحداً.
وليس لمتأخر الشعراء أن يخرج عن مذهب المتقدمين في هذه الأقسام، فيقف على منزلٍ عامر، أو يبكى عند مشيد البنيان، لأن المتقدمين وقفوا على المنزل الداثر، والرسم العافي. أو يرحل على حمارٍ أو بغلٍ ويصفهما، لأن المتقدمين رحلوا على الناقة والبعير، أو يرد على المياه العذاب الجواري، لأن المتقدمين وردوا على الأواجن الطوامي. أو يقطع إلى الممدوح منابت النرجس والآس والورد، لأن المتقدمين جروا على قطع منابت الشيح والحنوة والعرارة.
قال خلفٌ الأحمر: قال لي شيخٌ من أهل الكوفة، أما عجبت من الشاعر قال:
أَنْبَتَ قَيْصُوماً وجَثْجَاثَا
فاحتمل له، وقلت أنا:
أَنْبَتَ إِجَّاصاً وتُفَّاحَا
فلم يحتمل لي؟ وليس له أن يقيس على اشتقاقهم، فيطلق ما لم يطلقوا.
قال الخليل بن أحمد: أنشدني رجلٌ:
تَرَافعَ العِزٌّ بِنَا فارْفَنْعَعا
فقلت. ليس هذا شيئاً، فقال: كيف جاز للعجاج أن يقول:
تَقاعَسَ العزُّ بِنَا فَاقْعَنْسَسا
ولا يجوز لي؟! ومن الشعراء المتكلف والمطبوع: فالمتكلف هو الذي قوم شعره بالثقاف، ونقحه بطول التفتيش، وأعاد فيه النظر بعد النظر، كزهيرٍ والحطيئة، وكان الأصمعي يقول: زهيرٌ والحطيئة وأشباههما من الشعراء عبيد الشعر، لأنهم نقحوه ولم يذهبوا فيه مذهب المطبوعين، وكان الحطيئة يقول: خير الشعر الحولي المنقح الممحكك. وكان زهيرٌ يسمى كبر قصائده الحوليات.
وقال سويد بن كراعٍ، يذكر تنقيحه شعره:
أَبِيتُ بِأَبْوابِ القَوَافي كَأَنَّمَا ... أُصَادي بها سِرْباً مِنَ الوَحْش نُزَّعَا
أُكَالِئُهَا حَتَّى أعَرِّسَ بَعْدَ ما ... يكُونُ سُحَيْراً أَوْ بُعْيَدُ فأَهْجَعا
إِذَا خفْتُ أَنْ تُرْوَى علَّى رَدَتْتُهَاوَرَاءَ التَّرَاقيِ خَشْيَةً أَنْ تَطَلَّعا
وَجَشَّمَني خَوفُ ابْنِ عَفَّانَ رَدَّهَا ... فَثَقَّفْتُهَا حَوْلاً جَرِيداً ومَرْبَعا
وقَدْ كان في نَفْسِي عليْها زِيَادَةٌ ... فَلَمْ أَرَ إلاَّ أَنْ أُطِيعَ وأَسْمَعا
وقال عدي بن الرقاع:
وإنما يكون الشعر بواحدة من هذه.
وقيل للشنفري حين أسر: أنشد، فقال: الإنشاد على حين المسرة، ثم قال:
فَلاَ تَدْفنُوني إِنَّ دَفني مُحَرَّمٌ ... عليْكُمْ ولكِنْ خَامِرِي أَمَّ عَامِر
إِذَا حَمَلُوا رأسِي وفي الرأسِ أَكثَرِى ... وغودِرَ عِنْدَ المُلْتَقَى ثَمَّ سَائِرى
هُنالِكَ لاَ أَرْجُو حَيَاةً تَسُرُّني ... سَميَر الليالي مُبْسَلاً بالجَرَائرِ
وللشعر تاراتٌ يبعد فيها قريبه، ويستصعب فيها ريضه. وكذلك الكلام المنثور في الرسائل والمقامات والجوابات، فقد يتعذر على الكاتب الأديب وعلى البليغ الخطيب، ولا يعرف لذلك سببٌ، إلا أن يكون من عارض يعترض على الغريزة من سوء غذاءٍ أو خاطر غم.
وكان الفرزدق يقول: أنا أشعر تميمٍ عند تميمٍ، وربما أتت على ساعةٌ ونزع ضرس أسهل على من قول بيت.
وللشعر أوقاتٌ يسرع فيها أتيه، ويسمح فيها أبيه. منها أول الليل قبل تغشى الكرى، ومنها صدر النهار قبل الغداء، ومنها يوم شرب الدواء، ومنها الخلوة في الحبس والمسير.
ولهذه العلل تختلف أشعار الشاعر ورسائل الكتاب.
وقالوا في شعر النابغة الجعدي: خمارٌ بواف ومطرفٌ بآلاف.
ولا أرى غير الجعدي في هذا الحكم إلا كالجعدي، ولا أحسب أحداً من أهل التمييز والنظر، نظر بعين العدل وترك طريف التقليد، يستطيع أن يقدم أحداً من المتقدمين المكثرين على أحد من إلا بأن يرى الجيد في شعره أكثر من الجيد في شعر غيره.
ولله در القائل: أشعر الناس من أنت في شعره حتى تفرغ منه.
وقال العتبي: أنشد مروان بن أبي حفصة لزهير فقال: زهير أشعر الناس، ثم أنشد للأعشى فقال: بل هذا أشعر الناس، ثم أنشد لامرىء القيس فكأنما سمع به غناءً على شراب، فقال: امرؤ القيس والله أشعر الناس.
وكل علمٍ محتاجٌ إلى السماع. وأحوجه إلى ذلك علم الدين، ثم الشعر، لما فيه من الألفاظ الغريبة، واللغات المختلفة، والكلام الوحشي، وأسماء الشجر والنبات والمواضع والمياه. فإنك لا تفصل في شعر الهذليين إذا أنت لم تسمعه بين شابة وساية وهما موضعان ولا تثق بمعرفتك في حزم نبايع، وعروان الكراث، وشسى عبقر، وأسد حلية، وأسد ترجٍ، ودفاقٍ، وتضارع، وأشباه هذا لأنه لا يلحق بالذكاء والفطنة، كما يلحق مشتق الغريب.
وقرىء يوماً على الأصمعي في شعر أبي ذؤيب:
بِأَسْفَل ذاتِ الدَّيْرِ أُفْرِدَ جَحْشُهَا
فقال أعرابي حضر المجلس للقارىء: ضل ضلالك أيها القارىء! إنما هي ذات الدبر وهي ثنيةٌ عندنا، فأخذ الأصمعي بذلك فيما بعد.
ومن ذا من الناس يأخذ من دفتر شعر المعذل بن عبد الله في وصف الفرس:
مِنَ السُّحِّ جَوالاً كَأَنَّ غُلاَمَهُ ... يُصَرِّف سِبْداً في العنَان عَمَّردَا
إلا قرأه سيداً يذهب إلى الذئب، والشعراء قد تشبه الفرس بالذئب وليست الرواية المسموعة عنهم إلا سبداً قال أبو عبيدة: المصحفون لهذا الحرف كثير، يروونه سيداً أي ذئباً، وإنما هو سبدٌ بالباء معجمة بواحدة، يقال فلانٌ سبدٌ أسبادٍ أي داهية دواه.
وكذلك قول الآخر:
زَوْجُكِ يا ذاتَ الثَّنَايَا الغُرِّ ... الرِّتِلاَتِ والجَبِينِ الحُرِّ
يرويه المصحفون والآخذون عن الدفاتر الربلات وما الربلات من الثنايا والجبين؟ وهي أصول الفخذين، يقال: رجل أربل إذا كان عظيم الربلتين، أي عظيم الفخذين وإنما هي الرتلات بالتاء يقال: ثغرٌ رتلٌ إذا كان مفلجاً.
وليس كل الشعر يختار ويحفظ على جودة اللفظ والمعنى، ولكنه قد يختار ويحفظ على أسبابٍ: منها الإصابة في التشبيه، كقول القائل في وصف القمر:
بَدَأَنَ بنا وابْنُ اللَّيَالي كَأَنَّهُ ... حُسَامٌ جَلَتْ عَنْهُ القُيُونُ صَقِيلُ
فما زِلْتُ أُفْنى كُلَّ يَوْمٍ شَبَابَهُ ... إلى أَنْ أَتَتْكَ العيسُ وهْوَ ضَئِيلُ
وكقول الآخر في مغن:
كَأَنَّ أَبَا الشُّمُوس إِذَا تَغَنَّى ... يُحَاكي عَاطِساً في عَيْنِ شَمْسِ
يَدُوكُ بلَحْيِهِ طَوْراً وطَوْراً ... كَأَنَّ بلَحْيِهِ ضَرَبَانَ ضِرْسِ
وقد يحفظ ويختار على خفة الروى، كقول الشاعر:
يا تَمْلكُ يَا تَمْلي ... صِليني وذَرِى عَذْلِى
ذَريني وسِلاَحي ثُ ... مَّ شُدَّى الكفَّ بِالغَزْلِ
ونَبْلى وفُقَاهَا كَعَ ... رَاقِيبِ قَطاً طُحْلِ
ومِنِّى نَظْرَةٌ بَعْدِي ... ومِنَّى نَظْرَةٌ قَبْلي
وثَوْبَاىَ جَدِيدَانِ ... وأُرْخِى شُرْكَ النَّعْل
وإِمَّا مُتُّ يا تَمْلي ... فَكُونِي حُرَّةً مِثْلي
وهذا الشعر مما اختاره الأصمعي بخفة رويه.
وكقول الآخر:
ولَو أُرْسِلْتُ مِنْ حُب ... كِ مَبْهُوتاً مِنَ الصِّينْ
لَوَافَيْتُكِ قَبْل الصُّب ... حِ أَوْ حِينَ تُصَلِّينْ
وكان يتمثل بهذا كثيراً وقال: المبهوت من الطير الذي يرسل من بعد قبل أن يدرج.
وقد يختار ويحفظ لأن قائله لم يقل غيره، أو لأن شعره قليلٌ عزيز، كقول عبد الله بن أبي بن سلولٍ المنافق:
مَتَى ما يَكُنْ مَوْلاَكَ خَصْمَكَ لا تَزَلْ ... تَذِلُّ ويَعْلُوكَ الَّذِينَ تُصَارِعُ
وهلْ ينْهَضُ البَازِي بَغْيرِ جَنَاحِهِ ... وإنْ قُصَّ يَوْماً رِيشُهُ فَهْوَ وَاقِعُ
وقد يختار ويحفظ لأنه غريبٌ في معناه، كقول القائل في الفتى:
لَيَس الفَتَى بفتًى لا يُسْتَضَاءُ بِهِ ... ولا يكُونُ له في الأَرْضِ آثَارُ
وكقول آخر في مجوسي:
شهدْتُ عَلَيْكَ بِطِيب المُشَاشِ ... وأَنَّكَ بَحْرٌ جَوَادٌ خِضَمْ
وأَنَّكَ سَيِّدُ أَهْلِ الجَحِيمِ ... إذَا مَا تَرَدَّيْتَ فِيمَنْ ظَلَمْ
قَرينٌ لِهَامَانَ في قَعْرِهَا ... وفِرْعَوْنَ والمُكْتَنى بالحَكَمْ
وقد يختار ويحفظ أيضاً لنبل قائله، كقول المهدي:
تُفَّاحَةٌ مِنْ عِنْدِ تُفّاحَةِ ... جَاءَتْ فماذا صَنَعَتْ بالفُؤادْ
واللِه ما أَدْرِي أَأَبْصَرْتُها ... يَقْظَانَ أَمْ أَبْصَرْتُهَا في الرُّقَادْ
وكقول الرشيد:
النَّفْسُ تَطْمَعُ والأَسْبَابٌ عاجِزَةٌوالَّنْفسُ تَهْلِكُ بَيْنَ اليَأْسِ والطَّمعِ
وكقول المأمون في رسول:
بعَثَتُكَ مُشْتَاقاً فَفُزْتَ بِنَظْرَةٍ ... وأَغْفَلْتَني حتَّى أَسَأْتُ بِكَ الظَّنَّا
ونَاجَيْتَ مَنْ أَهْوَى وكُنْتَ مُقَرَّباًفَيَالَيْتَ شِعْرِي عَنْ دُنُوِّكَ ما أَغْنَى
ورَدَّدْتَ طَرْفاً في مَحَاسِنِ وجْهِهَا ... ومَتَّعْتَ باسْتماعِ نَغْمتِهَا أَذُنَا
أَرَى أَثَراً مِنْها بِعَيْنَيْكَ لَمْ يَكُنْلقد سَرقَتْ عَيْنَاكَ مِنْ وجْههَا حُسْنَ
وكقول عبد الله بن طاهر:
أَمِيلٌ مَعَ الذَّمَامِ على ابْنِ عَمِّى ... وأَحْمِلُ للِصَّدِيقِ على الَّشقِيق
وإنْ أَلْفَيْتَني مَلِكاً مُطَاعاً ... فإِنَّكَ واجِدِي عَبْدَ الصَّدِيقِ
أُفَرِّقُ بَيْنَ مَعْرُوِفي ومَنِّى ... وأَجْمَعُ بَيْنَ مَالي والحُقُوقِ
وهذا الشعر شريفٌ بنفسه وبصاحبه.
وكقوله:
مُدْمِنُ الإِغْضَاء مَوْصُولُ ... ومُدِيمُ العَتْبِ مَمْلُولُ
ومَدِينُ البِيضِ في تَعَبٍ ... وغَرِيمُ البِيضِ مَمْطُولُ
وأَخُو الوَجْهَيْنِ حَيْثُ وهَي ... بَهَواهُ فَهْوَ مَدْخُولُ
وكقول إبراهيم بن العباس لابن الزيات:
أَبَا جَعْفَرٍ عَرِّجْ عَلَى خُلَطَائِكَا ... وأقْصِرْ قَلِيلاً مِنْ مَدَى غُلَوَائكا
فإِنْ كُنْتَ قَدْ أُوتِيتَ في اليَوْمِ رِفْعَة ... فإِنَّ رَجَائي في غَدِ كَرَجَائِكا
والمتكلف من الشعر وإن كان جيداً محكماً فليس به خفاءٌ على ذوي العلم، لتبينهم فيه ما نزل بصاحبه من طول التفكر، وشدة العناء، ورشح الجبين، وكثرة الضرورات، وحذف ما بالمعاني حاجةٌ إليه، وزيادة ما بالمعاني غنًى عنه. كقول الفرزدق في عمر بن هبيرة لبعض الخلفاء:
أَوَلَّيْتَ العِرَاقَ ورَافِدَيْهِ ... فَزَارِيَّا أَحَذَّ يَدِ القَمِيصِ
يريد: أوليتها خفيف اليد، يعني في الخيانة، فاضطرته القافية إلى ذكر القميص، ورافداه: دجلة والفرات.
وكقول الآخر:
مِنَ اللَّوَاتي والتي والَّلاتي ... زَعَمْنَ أَنى كَبَرتْ لِدَاتي
وكقول الفرزدق:
وعَضُّ زَمَانٍ يا ابْنَ مَرْوانَ لم يَدَعْمِنَ المَالِ إِلاَّ مُسْحَتاً أَوْ مُجَلَّفُ
فرفع آخر البيت ضرورةً، وأتعب أهل الإعراب في طلب العلة، فقالوا وأكثروا، ولم يأتوا فيه بشيءٍ يرضي، ومن ذا يخفى عليه من أهل النظر أن كل ما أتوا به من العلل احتيالٌ وتمويه؟ وقد سأل بعضهم الفرزدق عن رفعه إياه فشتمه وقال: علي أن أقول وعليكم أن تحتجوا! وقد أنكر عليه عبد الله بن إسحق الحضرمي من قوله:
مُسْتَقْبِلِين شَمالَ الشَّأْم تَضْرِبُنَا ... بحَاصِبٍ مِن نَديفِ القُطْن مَنْثُورِ
على عَمَاعنا تُلْقِى وأَرْحُلُنا ... على زَوَاحِفَ تُزْجَى مُخُّهَا رِيرُ
مرفوعٌ فقال أَلاَّ قلتَ ... على زَوَاحِفَ نُزْجِيهَا مَحَاسيرِ
فغضب وقال:
فلَوْ كانَ عَبْدُ اللهِ مَوْلًى هَجَوْتُهُ ... ولكِنَّ عبدَ الله مَوْلَى مَوَالِيَا
وهذا كثير في شعره على جودته.
وتتبين التكلف في الشعر أيضاً بأن ترى البيت فيه مقروناً بغير جاره، ومضموماً إلى غير لفقه، ولذلك قال عمر بن لجإٍ لبعض الشعراء: أنا أشعر منك، قال: وبم ذلك؟ فقال: لأني أقول البيت وأخاه، ولأنك تقول البيت وابن عمه.
وقال عبد بن سالم لرؤبة: مت يأبا الجحاف إذا شئت! فقال رؤبة: وكيف ذلك؟ قال: رأيت ابنك عقبة ينشد شعراً له أعجبني، قال رؤبة: نعم، ولكن ليس لشعره قرانٌ. يريد أنه لا يقارن البيت بشبهه. وبعض أصحابنا يقول قرآن بالضم، ولا أرى الصحيح إلا الكسر وترك الهمز على ما بينت.
والمطبوع من الشعراء من سمح بالشعر واقتدر على القوافي، وأراك في صدر بيته عجزه، وفي فاتحته قافيته، وتبينت على شعره رونق الطبع ووشى الغزيرة، وإذا امتحن لم يتعلثم ولم يتزحر.
وقال الرياشي حدثني أبو العالية عن أبي عمران المخزومي قال: أتيت مع أبي والياً على المدينة من قريش، وعنده ابن مطيرٍ، وإذا مطرٌ جودٌ، فقال له الوالي، صفه، فقال: دعني حتى أشرف وأنظر، فأشرف ونظر، ثم نزل فقال:
كَثْرَتْ لِكَثْرَةِ قَطْرِهِ أطْبَاؤُهُ ... فإِذَا تَحَلَّبَ فَاضَتِ الأَطْبَاءُ
وكَجَوْفِ ضَرَّتِهِ التي في جَوْفهِ ... جَوْفُ السَّمَاءِ سِبَحْلَةٌ جَوْفَاءُ
ولَهُ رَبَابٌ هَيْدَبٌ لِرَفيفِهِ ... قَبلَ التَّبَعُّق ديمَةٌ وطْفَاءُ
وكأَنَّ بَارِقَهُ حَرِيقٌ يَلتَقي ... رِيحٌ عليهِ وعَرْفَجٌ وأَلاَءُ
وكَأَنَّ رَيّقِهُ ولَمَّا يَحْتَفِلْ ... وَدْقُ السَمَاء عَجَاجَةٌ كَدْرَاءُ
مُسْتَضْحِكٌ بِلَوَامِع مُسْتَعْبِرٌ ... بِمَدَامِعٍ لَمْ تَمْرِهَا الأَقْذَاءُ
فَلَهُ بِلاَ حُزْنٍ ولا بِمَسَرَّةٍ ... ضَحْكٌ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ وبُكاءُ
حَيْرَانُ مُتَّبَعٌ صَبَاهُ تَقُودُهُ ... وجَنُوبُهُ كِنْفٌ لَهُ ووِعاءُ
ودَنَتْ لَهُ نَكْبَاؤُهُ حتَّى إِذا ... مِنْ طُولِ مَا لَعِبَتْ بِهِ النَّكْبَاءُ
ذَابَ السَّحَابُ فَهُو بَحْرُ كُلُّهُ ... وعلى البُحُور مِنَ السَّحَابِ سَمَاءُ
ثَقُلَتْ كُلاَهُ فنَهَّرَتْ أَصْلاَبَهُ ... وتَبَعَّجَتْ مِنْ مَائِهِ الأَحْشَاءُ
غَدَقٌ يُنَتِّجُ بالأَبَاطِحِ فُرَّقاً ... تَلِدُ السُيُولَ وما لَهَا أَسْلاَءُ
غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ دوَالحُِ ضُمِّنَتْ ... حَمْلَ اللِّقَاحِ وكُلُّهَا عَذْرَاءُ
سُحْمٌ فَهُنَّ إِذَا كَظَمْنَ فَوَاحِمٌ ... سُودٌ وهُنَّ إِذَا ضَحِكْنَ وِضَاءُ
لَوْ كانَ مِن لُجَجِ السَّوَاحِلِ مَاؤُهُ ... لم يَبْقَ مِن لُجَجِ السَّوَاحِل مَاءُ
قال أبو محمد: وهذا الشعر، مع إسراعه فيه كما ترى، كثير الوشي لطيف المعاني.
وكان الشماخ في سفرٍ مع أصحابٍ له، فنزل يحدو بالقوم فقال:
لم يَبْقَ إِلاَّ مِنْطَقٌ وأَطْرَافْ ... ورَيْطَتَانِ وقَمِيصٌ هَفْهَافْ
وشُعْبَتَا مَيسٍ بَرَاهَا إِسْكَافْ ... يَا رُبَّ غَازٍ كارِهٍ للأِيجَافْ
أَغْدَرَ في الحَيِّ بَرُودَ الأَصْيَافْ ... مُرْتَجَّةَ البُوِص خَضِيبَ الأَطْرافْ
ثم قطع به هذا الروى وتعذر عليه، فتركه وسمح بغيره على إثره، فقال:
لَمَّا رَأَتْنَا وَاقِفِي المَطِيَّاتْ ... قَامَتْ تَبَدَّى لي بِأَصْلَتِيَّاتْ
غُرٍ أَضَاءَ ظَلْمُهَا الثَّنِيَّاتْ ... خَوْدٌ مِنَ الظَّعَائِنِ الضَّمْرِيَّاتْ
حَلاّلَةُ الأَوْدِيِة الغَوْرِيَّاتْ ... صَفِىُّ أَتْرَابٍ لَهَا حَيِيَّاتْ
مِثْلِ الأَشَاءَاتِ أَوِ البَرْدِيَّاتْ ... أَوِ الغَمَامَاتِ أَو الوَدِيَّات
أَوْ كَظِبَاءِ السِّدْرِ العُبْرِيَّاتْ ... يَحْضُنَ بِالقَيْظِ على رَكِيَّاتْ
وَضَعْنَ أَنْمَاطاً على زرْبِيَّاتْ ... ثُمَّ جلسْنَ بِرْكَةَ البُخْتِيَّاتْ
مَنْ رَاكِبٌ يُهْدِي لَهَا التَّحِيَّاتْ ... أَرْوَعُ خَرَّاجٌ مِنَ الدَّاوِيَّاتْ
يَسْرِى إِذَا نَامَ بَنُو السَّرِيَّاتْ
قال أبو عبيدة: اجتمع ثلاثةٌ من بني سعد يراجزون بني جعدة، فقيل لشيخٍ من بني سعدٍ: ما عندك؟ قال: أرجز بهم يوماً إلى الليل لا أفثج، وقيل لآخر: ما عندك؟ قال: أرجز بهم يوماً إلى الليل ولا أنكف، وقيل للثالث: ما عندك؟ قال: أرجز بهم يوماً إلى الليل ولا أنكش، فلما سمعت بنو جعدة كلامهم انصرفوا ولم يراجزوهم.
والشعراء أيضاً في الطبع مختلفون: منهم من يسهل عليه المديح ويعسر عليه الهجاء. ومنهم من يتيسر له المراثي ويتعذر عليه الغزل.
وقيل للعجاج: إنك لا تحسن الهجاء؟ فقال: إن لنا أحلاماً تمنعنا من أن نظلم، وأحساباً تمنعنا من أن نظلم، وهل رأيت بانياً لا يحسن أن يهدم.
وليس هذا كما ذكر العجاج، ولا المثل الذي ضربه للهجاء والمديح بشكل، لأن المديح بناءٌ والهجاء بناءٌ، وليس كل بانٍ بضربٍ بانياً بغيره. ونحن نجد هذا بعينه في أشعارهم كثيراً، فهذا ذو الرمة، أحسن الناس تشبيهاً، وأجودهم تشبيباً، وأوصفهم لرمل وهاجرةٍ وفلاةٍ وماءٍ وقرادٍ وحيةٍ، فإذا صار إلى المديح والهجاء خانه الطبع. وذاك أخره عن الفحول، فقالوا: في شعره أبعار غزلانٍ ونقط عروسٍ! وكان الفرزدق زير نساءٍ وصاحب غزل، وكان مع ذلك لا يجيد التشبيب. وكان جريرٌ عفيفاً عزهاةً عن النساء، وهو مع ذلك أحسن الناس تشبيباً، وكان الفرزدق يقول: ما أحوجه مع عفته إلى صلابة شعري، وما أحوجني إلى رقة شعره لما ترون.
عيوب الشعر
الإقواء والإكفاء
قال أبو محمد: كان أبو عمرو بن العلاء يذكر أن الإقواء: هو اختلاف الإعراب في القوافي، وذلك أن تكون قافيةٌ مرفوعةً وأخرى مخفوضةً، كقول النابغة:
قالتْ بَنُو عامِرٍ خَالُوا بَني أَسَدٍ ... يا بُؤْس للجَهْلِ ضَرَّاراً لِأَقْوَامِ
وقال فيها:
تَبْدُو كَوَاكِبُهُ والشَّمْسُ طَالِعَةٌ ... لاَ النُّورُ نُورٌ ولا الإظْلَامُ إِظْلَامُ
وكان يقال إن النابغة الذبياني وبشر بن أبي خازم كانا يقويان، فأما النابغة فدخل يثرب فغنى بشعره ففطن فلم يعد للإقواء.
وبعض الناس يسمى هذا الإكفاء ويزعم أن الإقواء نقصان حرف من فاصلة البيت، كقول حجل بن نضلة، وكان أسر بنت عمرو ابن كلثوم وركب بها المفاوز، واسمها النوار:
حَنَّتْ نَوَارُ ولاتَ هَنَّا حَنَّتِ ... وبَدَا الَّذِي كانَتْ نَوَارُ أَجَنْتِ
لمَّا رَأَتْ مَاءَ السَّلاَ مَشْرُوباً ... والفَرْثَ يُعْصَرُ في الإنَاءِ أَرَنِّتِ
سمى إقواءً لأنه نقص من عروضه قوةٌ. وكان يستوي البيت بأن تقول متشرباً. يقال أقوى فلانٌ الحبل إذا جعل إحدى قواه أغلظ من الأخرى، وهو حبلٌ قوٍ.
مثل قول حميد:
إنَّي كبِرْتُ وإنَّ كُلَ كَبِيرٍ ... مِمَّا يُضَنُّ بِهِ يَمَلُّ ويَفْتُرُ
وكقول الربيع بن زيادٍ:
أَفَبَعْدَ مَقْتَلِ مَالِكِ بْنِ زُهَيْرٍ ... تَرْجُو النسَاءُ عَوَاقِبَ الأَطْهَارْ
ولو كان بن زهيرة لاستوى البيت.
والسناد: هو أن يختلف إرداف القوافي، كقولك علينا في قافيةٍ وفينا في أخرى، كقول عمرو بن كلثوم:
أَلاَ هُبّي بِصَحْنِكِ فاصْبَحينَا
فالحاء مكسورة. وقال في آخر:
تُصَفِّقُهَا الرِّيَاحُ إذَا جَرَيْنَا
فالراء مفتوحةٌ، وهي بمنزلة الحاء.
وكقول القائل:
كَأَنَّ عُيُونَهُنَّ عُيُونُ عني
ثم قال:
وأَصْبَحَ رَأسُهُ مِثْلَ اللُّجيْنِ
والإيطاء، هو إعادة القافية مرتين، وليس بعيبٍ عندهم كغيره.
الإجازة: اختلفوا في الإجازة، فقال بعضهم: هو أن تكون القوافي مقيدةً فتختلف الأرداف، كقول امرىء القيس:
لاَ يَدَّعي القَوْمُ أَنِّي أَفِرّ
فكسر الردف، وقال في بيت آخر:
وكِنْدَةُ حَوْلي جَميعاً صُبُرْ
فضم الردف، وقال في بيتٍ آخر:
أَلْحَقْتَ شَراً بِشَرْ
ففتح الردف.
وقال الخليل بن أحمد: هو أن تكون قافيةٌ ميماً والأخرى نوناً، كقول القائل:
يا رُبَّ جعْد منهمُ لَوْ تَدْرِينْ ... يضربُ ضَرْبَ السَّبِطِ المَقادِيمْ
أو طاءً والأخرى دالاً، كقول الآخر:
تَاللِه لَوْلاَ شَيْخُنَا عَبَّادُ ... لَكَمَرْونا عِنْدَهَا أَوْ كَادُوا
فَرْشَطَ لَمَّا كُرهَ الفِرشَاطُ ... بفيْشَةٍ كَأَنَّهَا مِلْطَاطُ
وهذا إنما يكون في الحرفين يخرجان من مخرج واحدٍ أو مخرجين متقاربين.
قال ابن الأعربي: الإجازة: مأخوذة من إجازة الحبل والوتر.
فالشاعر المجيد من سلك هذه الأسالب، وعدل بين هذه الأقسام، فلم يجعل واحداً منها أغلب على الشعر، ولم يطل فيمل السامعين، ولم يقطع وبالنفوس ظمآءٌ إلى المزيد.
فقد كان بعض الرجاز أتى نصر بن سيارٍ وإلى خراسان لبنى أمية، فمدحه بقصيدةٍ، تشبيبها مائة بيتٍ، ومديحها عشرة أبياتٍ، فقال نصرٌ: والله ما بقيت كلمةٌ عذبةً ولا معنى لطيفاً إلا وقد شغلته عن مديحي بتشبيبك، فإن أردت مديحي فاقتصد في التسيب، فأتاه فأنشده،
هَلْ تَعْرِفُ الدَّارَ لأُمِّ الغَمْرِ ... دَعْ ذَا وحَبّرْ مدْحَةً في نَصْرِ
فقال نصر: لا ذلك ولا هذا ولكن بين الأمرين.
وقيل لعقيل بن علفة: ما لك لا تطيل الهجاء؟ فقال: يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق.
وقيل لأبي المهوش الأسدي: لم لا تطيل الهجاء؟ فقال: لم أجد المثل السائر إلا بيتاً واحداً.
وليس لمتأخر الشعراء أن يخرج عن مذهب المتقدمين في هذه الأقسام، فيقف على منزلٍ عامر، أو يبكى عند مشيد البنيان، لأن المتقدمين وقفوا على المنزل الداثر، والرسم العافي. أو يرحل على حمارٍ أو بغلٍ ويصفهما، لأن المتقدمين رحلوا على الناقة والبعير، أو يرد على المياه العذاب الجواري، لأن المتقدمين وردوا على الأواجن الطوامي. أو يقطع إلى الممدوح منابت النرجس والآس والورد، لأن المتقدمين جروا على قطع منابت الشيح والحنوة والعرارة.
قال خلفٌ الأحمر: قال لي شيخٌ من أهل الكوفة، أما عجبت من الشاعر قال:
أَنْبَتَ قَيْصُوماً وجَثْجَاثَا
فاحتمل له، وقلت أنا:
أَنْبَتَ إِجَّاصاً وتُفَّاحَا
فلم يحتمل لي؟ وليس له أن يقيس على اشتقاقهم، فيطلق ما لم يطلقوا.
قال الخليل بن أحمد: أنشدني رجلٌ:
تَرَافعَ العِزٌّ بِنَا فارْفَنْعَعا
فقلت. ليس هذا شيئاً، فقال: كيف جاز للعجاج أن يقول:
تَقاعَسَ العزُّ بِنَا فَاقْعَنْسَسا
ولا يجوز لي؟! ومن الشعراء المتكلف والمطبوع: فالمتكلف هو الذي قوم شعره بالثقاف، ونقحه بطول التفتيش، وأعاد فيه النظر بعد النظر، كزهيرٍ والحطيئة، وكان الأصمعي يقول: زهيرٌ والحطيئة وأشباههما من الشعراء عبيد الشعر، لأنهم نقحوه ولم يذهبوا فيه مذهب المطبوعين، وكان الحطيئة يقول: خير الشعر الحولي المنقح الممحكك. وكان زهيرٌ يسمى كبر قصائده الحوليات.
وقال سويد بن كراعٍ، يذكر تنقيحه شعره:
أَبِيتُ بِأَبْوابِ القَوَافي كَأَنَّمَا ... أُصَادي بها سِرْباً مِنَ الوَحْش نُزَّعَا
أُكَالِئُهَا حَتَّى أعَرِّسَ بَعْدَ ما ... يكُونُ سُحَيْراً أَوْ بُعْيَدُ فأَهْجَعا
إِذَا خفْتُ أَنْ تُرْوَى علَّى رَدَتْتُهَاوَرَاءَ التَّرَاقيِ خَشْيَةً أَنْ تَطَلَّعا
وَجَشَّمَني خَوفُ ابْنِ عَفَّانَ رَدَّهَا ... فَثَقَّفْتُهَا حَوْلاً جَرِيداً ومَرْبَعا
وقَدْ كان في نَفْسِي عليْها زِيَادَةٌ ... فَلَمْ أَرَ إلاَّ أَنْ أُطِيعَ وأَسْمَعا
وقال عدي بن الرقاع:
وإنما يكون الشعر بواحدة من هذه.
وقيل للشنفري حين أسر: أنشد، فقال: الإنشاد على حين المسرة، ثم قال:
فَلاَ تَدْفنُوني إِنَّ دَفني مُحَرَّمٌ ... عليْكُمْ ولكِنْ خَامِرِي أَمَّ عَامِر
إِذَا حَمَلُوا رأسِي وفي الرأسِ أَكثَرِى ... وغودِرَ عِنْدَ المُلْتَقَى ثَمَّ سَائِرى
هُنالِكَ لاَ أَرْجُو حَيَاةً تَسُرُّني ... سَميَر الليالي مُبْسَلاً بالجَرَائرِ
وللشعر تاراتٌ يبعد فيها قريبه، ويستصعب فيها ريضه. وكذلك الكلام المنثور في الرسائل والمقامات والجوابات، فقد يتعذر على الكاتب الأديب وعلى البليغ الخطيب، ولا يعرف لذلك سببٌ، إلا أن يكون من عارض يعترض على الغريزة من سوء غذاءٍ أو خاطر غم.
وكان الفرزدق يقول: أنا أشعر تميمٍ عند تميمٍ، وربما أتت على ساعةٌ ونزع ضرس أسهل على من قول بيت.
وللشعر أوقاتٌ يسرع فيها أتيه، ويسمح فيها أبيه. منها أول الليل قبل تغشى الكرى، ومنها صدر النهار قبل الغداء، ومنها يوم شرب الدواء، ومنها الخلوة في الحبس والمسير.
ولهذه العلل تختلف أشعار الشاعر ورسائل الكتاب.
وقالوا في شعر النابغة الجعدي: خمارٌ بواف ومطرفٌ بآلاف.
ولا أرى غير الجعدي في هذا الحكم إلا كالجعدي، ولا أحسب أحداً من أهل التمييز والنظر، نظر بعين العدل وترك طريف التقليد، يستطيع أن يقدم أحداً من المتقدمين المكثرين على أحد من إلا بأن يرى الجيد في شعره أكثر من الجيد في شعر غيره.
ولله در القائل: أشعر الناس من أنت في شعره حتى تفرغ منه.
وقال العتبي: أنشد مروان بن أبي حفصة لزهير فقال: زهير أشعر الناس، ثم أنشد للأعشى فقال: بل هذا أشعر الناس، ثم أنشد لامرىء القيس فكأنما سمع به غناءً على شراب، فقال: امرؤ القيس والله أشعر الناس.
وكل علمٍ محتاجٌ إلى السماع. وأحوجه إلى ذلك علم الدين، ثم الشعر، لما فيه من الألفاظ الغريبة، واللغات المختلفة، والكلام الوحشي، وأسماء الشجر والنبات والمواضع والمياه. فإنك لا تفصل في شعر الهذليين إذا أنت لم تسمعه بين شابة وساية وهما موضعان ولا تثق بمعرفتك في حزم نبايع، وعروان الكراث، وشسى عبقر، وأسد حلية، وأسد ترجٍ، ودفاقٍ، وتضارع، وأشباه هذا لأنه لا يلحق بالذكاء والفطنة، كما يلحق مشتق الغريب.
وقرىء يوماً على الأصمعي في شعر أبي ذؤيب:
بِأَسْفَل ذاتِ الدَّيْرِ أُفْرِدَ جَحْشُهَا
فقال أعرابي حضر المجلس للقارىء: ضل ضلالك أيها القارىء! إنما هي ذات الدبر وهي ثنيةٌ عندنا، فأخذ الأصمعي بذلك فيما بعد.
ومن ذا من الناس يأخذ من دفتر شعر المعذل بن عبد الله في وصف الفرس:
مِنَ السُّحِّ جَوالاً كَأَنَّ غُلاَمَهُ ... يُصَرِّف سِبْداً في العنَان عَمَّردَا
إلا قرأه سيداً يذهب إلى الذئب، والشعراء قد تشبه الفرس بالذئب وليست الرواية المسموعة عنهم إلا سبداً قال أبو عبيدة: المصحفون لهذا الحرف كثير، يروونه سيداً أي ذئباً، وإنما هو سبدٌ بالباء معجمة بواحدة، يقال فلانٌ سبدٌ أسبادٍ أي داهية دواه.
وكذلك قول الآخر:
زَوْجُكِ يا ذاتَ الثَّنَايَا الغُرِّ ... الرِّتِلاَتِ والجَبِينِ الحُرِّ
يرويه المصحفون والآخذون عن الدفاتر الربلات وما الربلات من الثنايا والجبين؟ وهي أصول الفخذين، يقال: رجل أربل إذا كان عظيم الربلتين، أي عظيم الفخذين وإنما هي الرتلات بالتاء يقال: ثغرٌ رتلٌ إذا كان مفلجاً.
وليس كل الشعر يختار ويحفظ على جودة اللفظ والمعنى، ولكنه قد يختار ويحفظ على أسبابٍ: منها الإصابة في التشبيه، كقول القائل في وصف القمر:
بَدَأَنَ بنا وابْنُ اللَّيَالي كَأَنَّهُ ... حُسَامٌ جَلَتْ عَنْهُ القُيُونُ صَقِيلُ
فما زِلْتُ أُفْنى كُلَّ يَوْمٍ شَبَابَهُ ... إلى أَنْ أَتَتْكَ العيسُ وهْوَ ضَئِيلُ
وكقول الآخر في مغن:
كَأَنَّ أَبَا الشُّمُوس إِذَا تَغَنَّى ... يُحَاكي عَاطِساً في عَيْنِ شَمْسِ
يَدُوكُ بلَحْيِهِ طَوْراً وطَوْراً ... كَأَنَّ بلَحْيِهِ ضَرَبَانَ ضِرْسِ
وقد يحفظ ويختار على خفة الروى، كقول الشاعر:
يا تَمْلكُ يَا تَمْلي ... صِليني وذَرِى عَذْلِى
ذَريني وسِلاَحي ثُ ... مَّ شُدَّى الكفَّ بِالغَزْلِ
ونَبْلى وفُقَاهَا كَعَ ... رَاقِيبِ قَطاً طُحْلِ
ومِنِّى نَظْرَةٌ بَعْدِي ... ومِنَّى نَظْرَةٌ قَبْلي
وثَوْبَاىَ جَدِيدَانِ ... وأُرْخِى شُرْكَ النَّعْل
وإِمَّا مُتُّ يا تَمْلي ... فَكُونِي حُرَّةً مِثْلي
وهذا الشعر مما اختاره الأصمعي بخفة رويه.
وكقول الآخر:
ولَو أُرْسِلْتُ مِنْ حُب ... كِ مَبْهُوتاً مِنَ الصِّينْ
لَوَافَيْتُكِ قَبْل الصُّب ... حِ أَوْ حِينَ تُصَلِّينْ
وكان يتمثل بهذا كثيراً وقال: المبهوت من الطير الذي يرسل من بعد قبل أن يدرج.
وقد يختار ويحفظ لأن قائله لم يقل غيره، أو لأن شعره قليلٌ عزيز، كقول عبد الله بن أبي بن سلولٍ المنافق:
مَتَى ما يَكُنْ مَوْلاَكَ خَصْمَكَ لا تَزَلْ ... تَذِلُّ ويَعْلُوكَ الَّذِينَ تُصَارِعُ
وهلْ ينْهَضُ البَازِي بَغْيرِ جَنَاحِهِ ... وإنْ قُصَّ يَوْماً رِيشُهُ فَهْوَ وَاقِعُ
وقد يختار ويحفظ لأنه غريبٌ في معناه، كقول القائل في الفتى:
لَيَس الفَتَى بفتًى لا يُسْتَضَاءُ بِهِ ... ولا يكُونُ له في الأَرْضِ آثَارُ
وكقول آخر في مجوسي:
شهدْتُ عَلَيْكَ بِطِيب المُشَاشِ ... وأَنَّكَ بَحْرٌ جَوَادٌ خِضَمْ
وأَنَّكَ سَيِّدُ أَهْلِ الجَحِيمِ ... إذَا مَا تَرَدَّيْتَ فِيمَنْ ظَلَمْ
قَرينٌ لِهَامَانَ في قَعْرِهَا ... وفِرْعَوْنَ والمُكْتَنى بالحَكَمْ
وقد يختار ويحفظ أيضاً لنبل قائله، كقول المهدي:
تُفَّاحَةٌ مِنْ عِنْدِ تُفّاحَةِ ... جَاءَتْ فماذا صَنَعَتْ بالفُؤادْ
واللِه ما أَدْرِي أَأَبْصَرْتُها ... يَقْظَانَ أَمْ أَبْصَرْتُهَا في الرُّقَادْ
وكقول الرشيد:
النَّفْسُ تَطْمَعُ والأَسْبَابٌ عاجِزَةٌوالَّنْفسُ تَهْلِكُ بَيْنَ اليَأْسِ والطَّمعِ
وكقول المأمون في رسول:
بعَثَتُكَ مُشْتَاقاً فَفُزْتَ بِنَظْرَةٍ ... وأَغْفَلْتَني حتَّى أَسَأْتُ بِكَ الظَّنَّا
ونَاجَيْتَ مَنْ أَهْوَى وكُنْتَ مُقَرَّباًفَيَالَيْتَ شِعْرِي عَنْ دُنُوِّكَ ما أَغْنَى
ورَدَّدْتَ طَرْفاً في مَحَاسِنِ وجْهِهَا ... ومَتَّعْتَ باسْتماعِ نَغْمتِهَا أَذُنَا
أَرَى أَثَراً مِنْها بِعَيْنَيْكَ لَمْ يَكُنْلقد سَرقَتْ عَيْنَاكَ مِنْ وجْههَا حُسْنَ
وكقول عبد الله بن طاهر:
أَمِيلٌ مَعَ الذَّمَامِ على ابْنِ عَمِّى ... وأَحْمِلُ للِصَّدِيقِ على الَّشقِيق
وإنْ أَلْفَيْتَني مَلِكاً مُطَاعاً ... فإِنَّكَ واجِدِي عَبْدَ الصَّدِيقِ
أُفَرِّقُ بَيْنَ مَعْرُوِفي ومَنِّى ... وأَجْمَعُ بَيْنَ مَالي والحُقُوقِ
وهذا الشعر شريفٌ بنفسه وبصاحبه.
وكقوله:
مُدْمِنُ الإِغْضَاء مَوْصُولُ ... ومُدِيمُ العَتْبِ مَمْلُولُ
ومَدِينُ البِيضِ في تَعَبٍ ... وغَرِيمُ البِيضِ مَمْطُولُ
وأَخُو الوَجْهَيْنِ حَيْثُ وهَي ... بَهَواهُ فَهْوَ مَدْخُولُ
وكقول إبراهيم بن العباس لابن الزيات:
أَبَا جَعْفَرٍ عَرِّجْ عَلَى خُلَطَائِكَا ... وأقْصِرْ قَلِيلاً مِنْ مَدَى غُلَوَائكا
فإِنْ كُنْتَ قَدْ أُوتِيتَ في اليَوْمِ رِفْعَة ... فإِنَّ رَجَائي في غَدِ كَرَجَائِكا
والمتكلف من الشعر وإن كان جيداً محكماً فليس به خفاءٌ على ذوي العلم، لتبينهم فيه ما نزل بصاحبه من طول التفكر، وشدة العناء، ورشح الجبين، وكثرة الضرورات، وحذف ما بالمعاني حاجةٌ إليه، وزيادة ما بالمعاني غنًى عنه. كقول الفرزدق في عمر بن هبيرة لبعض الخلفاء:
أَوَلَّيْتَ العِرَاقَ ورَافِدَيْهِ ... فَزَارِيَّا أَحَذَّ يَدِ القَمِيصِ
يريد: أوليتها خفيف اليد، يعني في الخيانة، فاضطرته القافية إلى ذكر القميص، ورافداه: دجلة والفرات.
وكقول الآخر:
مِنَ اللَّوَاتي والتي والَّلاتي ... زَعَمْنَ أَنى كَبَرتْ لِدَاتي
وكقول الفرزدق:
وعَضُّ زَمَانٍ يا ابْنَ مَرْوانَ لم يَدَعْمِنَ المَالِ إِلاَّ مُسْحَتاً أَوْ مُجَلَّفُ
فرفع آخر البيت ضرورةً، وأتعب أهل الإعراب في طلب العلة، فقالوا وأكثروا، ولم يأتوا فيه بشيءٍ يرضي، ومن ذا يخفى عليه من أهل النظر أن كل ما أتوا به من العلل احتيالٌ وتمويه؟ وقد سأل بعضهم الفرزدق عن رفعه إياه فشتمه وقال: علي أن أقول وعليكم أن تحتجوا! وقد أنكر عليه عبد الله بن إسحق الحضرمي من قوله:
مُسْتَقْبِلِين شَمالَ الشَّأْم تَضْرِبُنَا ... بحَاصِبٍ مِن نَديفِ القُطْن مَنْثُورِ
على عَمَاعنا تُلْقِى وأَرْحُلُنا ... على زَوَاحِفَ تُزْجَى مُخُّهَا رِيرُ
مرفوعٌ فقال أَلاَّ قلتَ ... على زَوَاحِفَ نُزْجِيهَا مَحَاسيرِ
فغضب وقال:
فلَوْ كانَ عَبْدُ اللهِ مَوْلًى هَجَوْتُهُ ... ولكِنَّ عبدَ الله مَوْلَى مَوَالِيَا
وهذا كثير في شعره على جودته.
وتتبين التكلف في الشعر أيضاً بأن ترى البيت فيه مقروناً بغير جاره، ومضموماً إلى غير لفقه، ولذلك قال عمر بن لجإٍ لبعض الشعراء: أنا أشعر منك، قال: وبم ذلك؟ فقال: لأني أقول البيت وأخاه، ولأنك تقول البيت وابن عمه.
وقال عبد بن سالم لرؤبة: مت يأبا الجحاف إذا شئت! فقال رؤبة: وكيف ذلك؟ قال: رأيت ابنك عقبة ينشد شعراً له أعجبني، قال رؤبة: نعم، ولكن ليس لشعره قرانٌ. يريد أنه لا يقارن البيت بشبهه. وبعض أصحابنا يقول قرآن بالضم، ولا أرى الصحيح إلا الكسر وترك الهمز على ما بينت.
والمطبوع من الشعراء من سمح بالشعر واقتدر على القوافي، وأراك في صدر بيته عجزه، وفي فاتحته قافيته، وتبينت على شعره رونق الطبع ووشى الغزيرة، وإذا امتحن لم يتعلثم ولم يتزحر.
وقال الرياشي حدثني أبو العالية عن أبي عمران المخزومي قال: أتيت مع أبي والياً على المدينة من قريش، وعنده ابن مطيرٍ، وإذا مطرٌ جودٌ، فقال له الوالي، صفه، فقال: دعني حتى أشرف وأنظر، فأشرف ونظر، ثم نزل فقال:
كَثْرَتْ لِكَثْرَةِ قَطْرِهِ أطْبَاؤُهُ ... فإِذَا تَحَلَّبَ فَاضَتِ الأَطْبَاءُ
وكَجَوْفِ ضَرَّتِهِ التي في جَوْفهِ ... جَوْفُ السَّمَاءِ سِبَحْلَةٌ جَوْفَاءُ
ولَهُ رَبَابٌ هَيْدَبٌ لِرَفيفِهِ ... قَبلَ التَّبَعُّق ديمَةٌ وطْفَاءُ
وكأَنَّ بَارِقَهُ حَرِيقٌ يَلتَقي ... رِيحٌ عليهِ وعَرْفَجٌ وأَلاَءُ
وكَأَنَّ رَيّقِهُ ولَمَّا يَحْتَفِلْ ... وَدْقُ السَمَاء عَجَاجَةٌ كَدْرَاءُ
مُسْتَضْحِكٌ بِلَوَامِع مُسْتَعْبِرٌ ... بِمَدَامِعٍ لَمْ تَمْرِهَا الأَقْذَاءُ
فَلَهُ بِلاَ حُزْنٍ ولا بِمَسَرَّةٍ ... ضَحْكٌ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ وبُكاءُ
حَيْرَانُ مُتَّبَعٌ صَبَاهُ تَقُودُهُ ... وجَنُوبُهُ كِنْفٌ لَهُ ووِعاءُ
ودَنَتْ لَهُ نَكْبَاؤُهُ حتَّى إِذا ... مِنْ طُولِ مَا لَعِبَتْ بِهِ النَّكْبَاءُ
ذَابَ السَّحَابُ فَهُو بَحْرُ كُلُّهُ ... وعلى البُحُور مِنَ السَّحَابِ سَمَاءُ
ثَقُلَتْ كُلاَهُ فنَهَّرَتْ أَصْلاَبَهُ ... وتَبَعَّجَتْ مِنْ مَائِهِ الأَحْشَاءُ
غَدَقٌ يُنَتِّجُ بالأَبَاطِحِ فُرَّقاً ... تَلِدُ السُيُولَ وما لَهَا أَسْلاَءُ
غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ دوَالحُِ ضُمِّنَتْ ... حَمْلَ اللِّقَاحِ وكُلُّهَا عَذْرَاءُ
سُحْمٌ فَهُنَّ إِذَا كَظَمْنَ فَوَاحِمٌ ... سُودٌ وهُنَّ إِذَا ضَحِكْنَ وِضَاءُ
لَوْ كانَ مِن لُجَجِ السَّوَاحِلِ مَاؤُهُ ... لم يَبْقَ مِن لُجَجِ السَّوَاحِل مَاءُ
قال أبو محمد: وهذا الشعر، مع إسراعه فيه كما ترى، كثير الوشي لطيف المعاني.
وكان الشماخ في سفرٍ مع أصحابٍ له، فنزل يحدو بالقوم فقال:
لم يَبْقَ إِلاَّ مِنْطَقٌ وأَطْرَافْ ... ورَيْطَتَانِ وقَمِيصٌ هَفْهَافْ
وشُعْبَتَا مَيسٍ بَرَاهَا إِسْكَافْ ... يَا رُبَّ غَازٍ كارِهٍ للأِيجَافْ
أَغْدَرَ في الحَيِّ بَرُودَ الأَصْيَافْ ... مُرْتَجَّةَ البُوِص خَضِيبَ الأَطْرافْ
ثم قطع به هذا الروى وتعذر عليه، فتركه وسمح بغيره على إثره، فقال:
لَمَّا رَأَتْنَا وَاقِفِي المَطِيَّاتْ ... قَامَتْ تَبَدَّى لي بِأَصْلَتِيَّاتْ
غُرٍ أَضَاءَ ظَلْمُهَا الثَّنِيَّاتْ ... خَوْدٌ مِنَ الظَّعَائِنِ الضَّمْرِيَّاتْ
حَلاّلَةُ الأَوْدِيِة الغَوْرِيَّاتْ ... صَفِىُّ أَتْرَابٍ لَهَا حَيِيَّاتْ
مِثْلِ الأَشَاءَاتِ أَوِ البَرْدِيَّاتْ ... أَوِ الغَمَامَاتِ أَو الوَدِيَّات
أَوْ كَظِبَاءِ السِّدْرِ العُبْرِيَّاتْ ... يَحْضُنَ بِالقَيْظِ على رَكِيَّاتْ
وَضَعْنَ أَنْمَاطاً على زرْبِيَّاتْ ... ثُمَّ جلسْنَ بِرْكَةَ البُخْتِيَّاتْ
مَنْ رَاكِبٌ يُهْدِي لَهَا التَّحِيَّاتْ ... أَرْوَعُ خَرَّاجٌ مِنَ الدَّاوِيَّاتْ
يَسْرِى إِذَا نَامَ بَنُو السَّرِيَّاتْ
قال أبو عبيدة: اجتمع ثلاثةٌ من بني سعد يراجزون بني جعدة، فقيل لشيخٍ من بني سعدٍ: ما عندك؟ قال: أرجز بهم يوماً إلى الليل لا أفثج، وقيل لآخر: ما عندك؟ قال: أرجز بهم يوماً إلى الليل ولا أنكف، وقيل للثالث: ما عندك؟ قال: أرجز بهم يوماً إلى الليل ولا أنكش، فلما سمعت بنو جعدة كلامهم انصرفوا ولم يراجزوهم.
والشعراء أيضاً في الطبع مختلفون: منهم من يسهل عليه المديح ويعسر عليه الهجاء. ومنهم من يتيسر له المراثي ويتعذر عليه الغزل.
وقيل للعجاج: إنك لا تحسن الهجاء؟ فقال: إن لنا أحلاماً تمنعنا من أن نظلم، وأحساباً تمنعنا من أن نظلم، وهل رأيت بانياً لا يحسن أن يهدم.
وليس هذا كما ذكر العجاج، ولا المثل الذي ضربه للهجاء والمديح بشكل، لأن المديح بناءٌ والهجاء بناءٌ، وليس كل بانٍ بضربٍ بانياً بغيره. ونحن نجد هذا بعينه في أشعارهم كثيراً، فهذا ذو الرمة، أحسن الناس تشبيهاً، وأجودهم تشبيباً، وأوصفهم لرمل وهاجرةٍ وفلاةٍ وماءٍ وقرادٍ وحيةٍ، فإذا صار إلى المديح والهجاء خانه الطبع. وذاك أخره عن الفحول، فقالوا: في شعره أبعار غزلانٍ ونقط عروسٍ! وكان الفرزدق زير نساءٍ وصاحب غزل، وكان مع ذلك لا يجيد التشبيب. وكان جريرٌ عفيفاً عزهاةً عن النساء، وهو مع ذلك أحسن الناس تشبيباً، وكان الفرزدق يقول: ما أحوجه مع عفته إلى صلابة شعري، وما أحوجني إلى رقة شعره لما ترون.
عيوب الشعر
الإقواء والإكفاء
قال أبو محمد: كان أبو عمرو بن العلاء يذكر أن الإقواء: هو اختلاف الإعراب في القوافي، وذلك أن تكون قافيةٌ مرفوعةً وأخرى مخفوضةً، كقول النابغة:
قالتْ بَنُو عامِرٍ خَالُوا بَني أَسَدٍ ... يا بُؤْس للجَهْلِ ضَرَّاراً لِأَقْوَامِ
وقال فيها:
تَبْدُو كَوَاكِبُهُ والشَّمْسُ طَالِعَةٌ ... لاَ النُّورُ نُورٌ ولا الإظْلَامُ إِظْلَامُ
وكان يقال إن النابغة الذبياني وبشر بن أبي خازم كانا يقويان، فأما النابغة فدخل يثرب فغنى بشعره ففطن فلم يعد للإقواء.
وبعض الناس يسمى هذا الإكفاء ويزعم أن الإقواء نقصان حرف من فاصلة البيت، كقول حجل بن نضلة، وكان أسر بنت عمرو ابن كلثوم وركب بها المفاوز، واسمها النوار:
حَنَّتْ نَوَارُ ولاتَ هَنَّا حَنَّتِ ... وبَدَا الَّذِي كانَتْ نَوَارُ أَجَنْتِ
لمَّا رَأَتْ مَاءَ السَّلاَ مَشْرُوباً ... والفَرْثَ يُعْصَرُ في الإنَاءِ أَرَنِّتِ
سمى إقواءً لأنه نقص من عروضه قوةٌ. وكان يستوي البيت بأن تقول متشرباً. يقال أقوى فلانٌ الحبل إذا جعل إحدى قواه أغلظ من الأخرى، وهو حبلٌ قوٍ.
مثل قول حميد:
إنَّي كبِرْتُ وإنَّ كُلَ كَبِيرٍ ... مِمَّا يُضَنُّ بِهِ يَمَلُّ ويَفْتُرُ
وكقول الربيع بن زيادٍ:
أَفَبَعْدَ مَقْتَلِ مَالِكِ بْنِ زُهَيْرٍ ... تَرْجُو النسَاءُ عَوَاقِبَ الأَطْهَارْ
ولو كان بن زهيرة لاستوى البيت.
والسناد: هو أن يختلف إرداف القوافي، كقولك علينا في قافيةٍ وفينا في أخرى، كقول عمرو بن كلثوم:
أَلاَ هُبّي بِصَحْنِكِ فاصْبَحينَا
فالحاء مكسورة. وقال في آخر:
تُصَفِّقُهَا الرِّيَاحُ إذَا جَرَيْنَا
فالراء مفتوحةٌ، وهي بمنزلة الحاء.
وكقول القائل:
كَأَنَّ عُيُونَهُنَّ عُيُونُ عني
ثم قال:
وأَصْبَحَ رَأسُهُ مِثْلَ اللُّجيْنِ
والإيطاء، هو إعادة القافية مرتين، وليس بعيبٍ عندهم كغيره.
الإجازة: اختلفوا في الإجازة، فقال بعضهم: هو أن تكون القوافي مقيدةً فتختلف الأرداف، كقول امرىء القيس:
لاَ يَدَّعي القَوْمُ أَنِّي أَفِرّ
فكسر الردف، وقال في بيت آخر:
وكِنْدَةُ حَوْلي جَميعاً صُبُرْ
فضم الردف، وقال في بيتٍ آخر:
أَلْحَقْتَ شَراً بِشَرْ
ففتح الردف.
وقال الخليل بن أحمد: هو أن تكون قافيةٌ ميماً والأخرى نوناً، كقول القائل:
يا رُبَّ جعْد منهمُ لَوْ تَدْرِينْ ... يضربُ ضَرْبَ السَّبِطِ المَقادِيمْ
أو طاءً والأخرى دالاً، كقول الآخر:
تَاللِه لَوْلاَ شَيْخُنَا عَبَّادُ ... لَكَمَرْونا عِنْدَهَا أَوْ كَادُوا
فَرْشَطَ لَمَّا كُرهَ الفِرشَاطُ ... بفيْشَةٍ كَأَنَّهَا مِلْطَاطُ
وهذا إنما يكون في الحرفين يخرجان من مخرج واحدٍ أو مخرجين متقاربين.
قال ابن الأعربي: الإجازة: مأخوذة من إجازة الحبل والوتر.
رد: كتاب الشعر و الشعراء...
هلكت وانا عم اقرأ
و زاغت عيوني
بس الكتاب باينتو حلو كتير
يعني بيستاهل
و زاغت عيوني
بس الكتاب باينتو حلو كتير
يعني بيستاهل
الليدي- عدد المساهمات : 2453
نقاط : 30326
السٌّمعَة : 2
تاريخ التسجيل : 19/03/2010
العمر : 32
الموقع : syria
رد: كتاب الشعر و الشعراء...
سلامة عيونك يا برازيلية. الكتاب اكيد رائع...
الجيشاوي- عدد المساهمات : 2849
نقاط : 29810
السٌّمعَة : 1
تاريخ التسجيل : 08/05/2010
العمر : 36
الموقع : أنا هون ..و هنيك..و هناك..
رد: كتاب الشعر و الشعراء...
قال أبو محمد: وسمعت بعض أهل الأدب يذكر أن مقصد القصيد إنما ابتدأ فيها بذكر الديار والدمن والآثار، فبكى وشكا، وخاطب الربع، واستوقف الرفيق، ليجعل ذلك سبباً لذكر أهلها الظاعنين عنها، إذ كان نازلة العمد في الحلول والظغن على خلاف ما عليه نازلة المدر، لانتقالهم عن ماءٍ إلى ماءٍ، وانتجاعهم الكلأ، وتتبعهم مساقط الغيث حيث كان. ثم وصل ذلك بالنسيب، فشكا شدة الوجد وألم الفراق وفرط الصبابة، والشوق، ليميل نحوه القلوب، ويصرف إليه الوجوه، وليستدعي به إصغاء الأسماع إليه، لأن التشبيب قريبٌ من النفوس، لأئطٌ بالقلوب، لما قد جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل، وإلف النساء، فليس يكاد أحدٌ يخلو من أن يكون متعلقاً منه بسببٍ، وضارباً فيه بسهمٍ، حلالٍ أو حرامٍ، فإذا علم أنه قد استوثق من الإصغاء إليه، والاستماع له، عقب بإيجاب الحقوق، فرحل في شعره، وشكا النصب والسهر وسرى الليل وحل الهجير، وإنضاء الراحلة والبعير، فإذا علم أنه قد أوجب على صاحبه حق الرجاء، وذمامة التأميل وقرر عنده ما ناله من المكاره في المسير، بدأ في المديح، فبعثه على المكأفاة، وهزه للسماح، وفضله على الأشباه، وصغر في قدره الجزيل.
فالشاعر المجيد من سلك هذه الأسالب، وعدل بين هذه الأقسام، فلم يجعل واحداً منها أغلب على الشعر، ولم يطل فيمل السامعين، ولم يقطع وبالنفوس ظمآءٌ إلى المزيد.
فقد كان بعض الرجاز أتى نصر بن سيارٍ وإلى خراسان لبنى أمية، فمدحه بقصيدةٍ، تشبيبها مائة بيتٍ، ومديحها عشرة أبياتٍ، فقال نصرٌ: والله ما بقيت كلمةٌ عذبةً ولا معنى لطيفاً إلا وقد شغلته عن مديحي بتشبيبك، فإن أردت مديحي فاقتصد في التسيب، فأتاه فأنشده،
هَلْ تَعْرِفُ الدَّارَ لأُمِّ الغَمْرِ ... دَعْ ذَا وحَبّرْ مدْحَةً في نَصْرِ
فقال نصر: لا ذلك ولا هذا ولكن بين الأمرين.
وقيل لعقيل بن علفة: ما لك لا تطيل الهجاء؟ فقال: يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق.
وقيل لأبي المهوش الأسدي: لم لا تطيل الهجاء؟ فقال: لم أجد المثل السائر إلا بيتاً واحداً.
وليس لمتأخر الشعراء أن يخرج عن مذهب المتقدمين في هذه الأقسام، فيقف على منزلٍ عامر، أو يبكى عند مشيد البنيان، لأن المتقدمين وقفوا على المنزل الداثر، والرسم العافي. أو يرحل على حمارٍ أو بغلٍ ويصفهما، لأن المتقدمين رحلوا على الناقة والبعير، أو يرد على المياه العذاب الجواري، لأن المتقدمين وردوا على الأواجن الطوامي. أو يقطع إلى الممدوح منابت النرجس والآس والورد، لأن المتقدمين جروا على قطع منابت الشيح والحنوة والعرارة.
قال خلفٌ الأحمر: قال لي شيخٌ من أهل الكوفة، أما عجبت من الشاعر قال:
أَنْبَتَ قَيْصُوماً وجَثْجَاثَا
فاحتمل له، وقلت أنا:
أَنْبَتَ إِجَّاصاً وتُفَّاحَا
فلم يحتمل لي؟ وليس له أن يقيس على اشتقاقهم، فيطلق ما لم يطلقوا.
قال الخليل بن أحمد: أنشدني رجلٌ:
تَرَافعَ العِزٌّ بِنَا فارْفَنْعَعا
فقلت. ليس هذا شيئاً، فقال: كيف جاز للعجاج أن يقول:
تَقاعَسَ العزُّ بِنَا فَاقْعَنْسَسا
ولا يجوز لي؟! ومن الشعراء المتكلف والمطبوع: فالمتكلف هو الذي قوم شعره بالثقاف، ونقحه بطول التفتيش، وأعاد فيه النظر بعد النظر، كزهيرٍ والحطيئة، وكان الأصمعي يقول: زهيرٌ والحطيئة وأشباههما من الشعراء عبيد الشعر، لأنهم نقحوه ولم يذهبوا فيه مذهب المطبوعين، وكان الحطيئة يقول: خير الشعر الحولي المنقح الممحكك. وكان زهيرٌ يسمى كبر قصائده الحوليات.
وقال سويد بن كراعٍ، يذكر تنقيحه شعره:
أَبِيتُ بِأَبْوابِ القَوَافي كَأَنَّمَا ... أُصَادي بها سِرْباً مِنَ الوَحْش نُزَّعَا
أُكَالِئُهَا حَتَّى أعَرِّسَ بَعْدَ ما ... يكُونُ سُحَيْراً أَوْ بُعْيَدُ فأَهْجَعا
إِذَا خفْتُ أَنْ تُرْوَى علَّى رَدَتْتُهَاوَرَاءَ التَّرَاقيِ خَشْيَةً أَنْ تَطَلَّعا
وَجَشَّمَني خَوفُ ابْنِ عَفَّانَ رَدَّهَا ... فَثَقَّفْتُهَا حَوْلاً جَرِيداً ومَرْبَعا
وقَدْ كان في نَفْسِي عليْها زِيَادَةٌ ... فَلَمْ أَرَ إلاَّ أَنْ أُطِيعَ وأَسْمَعا
وقال عدي بن الرقاع:
وقَصيدَةٍ قَدْ بِت أَجْمَعُ بَيْنَها ... حَتَّى أُقَوِّمَ مَيْلَها وسِنَادَها
نَظَرَ المُثَقِّفِ في كُعُوبِ قَنَاتِهِ ... حَتَّى يُقِيمَ ثِقَافُهُ مُنَآدَها
وللشعر دواعٍ تحث البطىء وتبعث المتكلف، منها الطمع، ومنها الشوق، ومنها الشراب، ومنها الطرب، ومنها الغضب.
وقيل للحطيئة، أي الناس أشعر؟ فأخرج لساناً دقيقاً كأنه لسان حية، فقال: هذا إذا طمع.
وقال أحمد بن يوسف الكاتب لأبي يعقوب الخريمي: مدائحك لمحمد بن منصور بن زياد، يعني كاتب البرامكة، أشعر من مراثيك فيه وأجود؟ فقال: كنا يومئذ نعمل على الرجاء، ونحن اليوم نعمل على الوفاء، وبينهما بونٌ بعيد.
وهذه عندي قصة الكميت في مدحه بني أمية وآل أبي طالبٍ، فإنه كان يتشيع وينحرف عن بني أمية بالرأي والهوى، وشعره في بني أمية أجود منه في الطالبيين، ولا أرى علة ذلك إلا قوة أسباب الطمع وإيثار النفس لعاجل الدنيا على آجل الآجرة.
وقيل لكثيرٍ: يأبا صخرٍ كيف تصنع. إذا عسر عليك قول الشعر؟ قال: أطوف في الرباع المخلية والرياض المعشبة، فيسهل علي أرصنه، ويسرع إلى أحسنه.
ويقال أيضاً إنه لم يستدع شارد الشعر بمثل الماء الجاري والشرف العالي والمكان الخضر الخالي.
وقال الأحوص:
وأَشْرَفْتُ في نَشْزٍ مِنَ الأَرْضِ يَافِعٍوقَدْ تَشْعَفُ الأَيْفَاعُ مَنْ كانَ مُقْصَدا
وإذا شعفته الأيفاع مرته واستدرته.
وقال عبد الملك بن مروان لأرطاة بن سهية: هل تقول الآن شعراً؟ فقال: كيف أقول أنا للشنفري ما أشرف ولا أطرب ولا أغضب، وإنما يكون الشعر بواحدة من هذه.
وقيل للشنفري حين أسر: أنشد، فقال: الإنشاد على حين المسرة، ثم قال:
فَلاَ تَدْفنُوني إِنَّ دَفني مُحَرَّمٌ ... عليْكُمْ ولكِنْ خَامِرِي أَمَّ عَامِر
إِذَا حَمَلُوا رأسِي وفي الرأسِ أَكثَرِى ... وغودِرَ عِنْدَ المُلْتَقَى ثَمَّ سَائِرى
هُنالِكَ لاَ أَرْجُو حَيَاةً تَسُرُّني ... سَميَر الليالي مُبْسَلاً بالجَرَائرِ
وللشعر تاراتٌ يبعد فيها قريبه، ويستصعب فيها ريضه. وكذلك الكلام المنثور في الرسائل والمقامات والجوابات، فقد يتعذر على الكاتب الأديب وعلى البليغ الخطيب، ولا يعرف لذلك سببٌ، إلا أن يكون من عارض يعترض على الغريزة من سوء غذاءٍ أو خاطر غم.
وكان الفرزدق يقول: أنا أشعر تميمٍ عند تميمٍ، وربما أتت على ساعةٌ ونزع ضرس أسهل على من قول بيت.
وللشعر أوقاتٌ يسرع فيها أتيه، ويسمح فيها أبيه. منها أول الليل قبل تغشى الكرى، ومنها صدر النهار قبل الغداء، ومنها يوم شرب الدواء، ومنها الخلوة في الحبس والمسير.
ولهذه العلل تختلف أشعار الشاعر ورسائل الكتاب.
وقالوا في شعر النابغة الجعدي: خمارٌ بواف ومطرفٌ بآلاف.
ولا أرى غير الجعدي في هذا الحكم إلا كالجعدي، ولا أحسب أحداً من أهل التمييز والنظر، نظر بعين العدل وترك طريف التقليد، يستطيع أن يقدم أحداً من المتقدمين المكثرين على أحد من إلا بأن يرى الجيد في شعره أكثر من الجيد في شعر غيره.
ولله در القائل: أشعر الناس من أنت في شعره حتى تفرغ منه.
وقال العتبي: أنشد مروان بن أبي حفصة لزهير فقال: زهير أشعر الناس، ثم أنشد للأعشى فقال: بل هذا أشعر الناس، ثم أنشد لامرىء القيس فكأنما سمع به غناءً على شراب، فقال: امرؤ القيس والله أشعر الناس.
وكل علمٍ محتاجٌ إلى السماع. وأحوجه إلى ذلك علم الدين، ثم الشعر، لما فيه من الألفاظ الغريبة، واللغات المختلفة، والكلام الوحشي، وأسماء الشجر والنبات والمواضع والمياه. فإنك لا تفصل في شعر الهذليين إذا أنت لم تسمعه بين شابة وساية وهما موضعان ولا تثق بمعرفتك في حزم نبايع، وعروان الكراث، وشسى عبقر، وأسد حلية، وأسد ترجٍ، ودفاقٍ، وتضارع، وأشباه هذا لأنه لا يلحق بالذكاء والفطنة، كما يلحق مشتق الغريب.
وقرىء يوماً على الأصمعي في شعر أبي ذؤيب:
بِأَسْفَل ذاتِ الدَّيْرِ أُفْرِدَ جَحْشُهَا
فالشاعر المجيد من سلك هذه الأسالب، وعدل بين هذه الأقسام، فلم يجعل واحداً منها أغلب على الشعر، ولم يطل فيمل السامعين، ولم يقطع وبالنفوس ظمآءٌ إلى المزيد.
فقد كان بعض الرجاز أتى نصر بن سيارٍ وإلى خراسان لبنى أمية، فمدحه بقصيدةٍ، تشبيبها مائة بيتٍ، ومديحها عشرة أبياتٍ، فقال نصرٌ: والله ما بقيت كلمةٌ عذبةً ولا معنى لطيفاً إلا وقد شغلته عن مديحي بتشبيبك، فإن أردت مديحي فاقتصد في التسيب، فأتاه فأنشده،
هَلْ تَعْرِفُ الدَّارَ لأُمِّ الغَمْرِ ... دَعْ ذَا وحَبّرْ مدْحَةً في نَصْرِ
فقال نصر: لا ذلك ولا هذا ولكن بين الأمرين.
وقيل لعقيل بن علفة: ما لك لا تطيل الهجاء؟ فقال: يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق.
وقيل لأبي المهوش الأسدي: لم لا تطيل الهجاء؟ فقال: لم أجد المثل السائر إلا بيتاً واحداً.
وليس لمتأخر الشعراء أن يخرج عن مذهب المتقدمين في هذه الأقسام، فيقف على منزلٍ عامر، أو يبكى عند مشيد البنيان، لأن المتقدمين وقفوا على المنزل الداثر، والرسم العافي. أو يرحل على حمارٍ أو بغلٍ ويصفهما، لأن المتقدمين رحلوا على الناقة والبعير، أو يرد على المياه العذاب الجواري، لأن المتقدمين وردوا على الأواجن الطوامي. أو يقطع إلى الممدوح منابت النرجس والآس والورد، لأن المتقدمين جروا على قطع منابت الشيح والحنوة والعرارة.
قال خلفٌ الأحمر: قال لي شيخٌ من أهل الكوفة، أما عجبت من الشاعر قال:
أَنْبَتَ قَيْصُوماً وجَثْجَاثَا
فاحتمل له، وقلت أنا:
أَنْبَتَ إِجَّاصاً وتُفَّاحَا
فلم يحتمل لي؟ وليس له أن يقيس على اشتقاقهم، فيطلق ما لم يطلقوا.
قال الخليل بن أحمد: أنشدني رجلٌ:
تَرَافعَ العِزٌّ بِنَا فارْفَنْعَعا
فقلت. ليس هذا شيئاً، فقال: كيف جاز للعجاج أن يقول:
تَقاعَسَ العزُّ بِنَا فَاقْعَنْسَسا
ولا يجوز لي؟! ومن الشعراء المتكلف والمطبوع: فالمتكلف هو الذي قوم شعره بالثقاف، ونقحه بطول التفتيش، وأعاد فيه النظر بعد النظر، كزهيرٍ والحطيئة، وكان الأصمعي يقول: زهيرٌ والحطيئة وأشباههما من الشعراء عبيد الشعر، لأنهم نقحوه ولم يذهبوا فيه مذهب المطبوعين، وكان الحطيئة يقول: خير الشعر الحولي المنقح الممحكك. وكان زهيرٌ يسمى كبر قصائده الحوليات.
وقال سويد بن كراعٍ، يذكر تنقيحه شعره:
أَبِيتُ بِأَبْوابِ القَوَافي كَأَنَّمَا ... أُصَادي بها سِرْباً مِنَ الوَحْش نُزَّعَا
أُكَالِئُهَا حَتَّى أعَرِّسَ بَعْدَ ما ... يكُونُ سُحَيْراً أَوْ بُعْيَدُ فأَهْجَعا
إِذَا خفْتُ أَنْ تُرْوَى علَّى رَدَتْتُهَاوَرَاءَ التَّرَاقيِ خَشْيَةً أَنْ تَطَلَّعا
وَجَشَّمَني خَوفُ ابْنِ عَفَّانَ رَدَّهَا ... فَثَقَّفْتُهَا حَوْلاً جَرِيداً ومَرْبَعا
وقَدْ كان في نَفْسِي عليْها زِيَادَةٌ ... فَلَمْ أَرَ إلاَّ أَنْ أُطِيعَ وأَسْمَعا
وقال عدي بن الرقاع:
وقَصيدَةٍ قَدْ بِت أَجْمَعُ بَيْنَها ... حَتَّى أُقَوِّمَ مَيْلَها وسِنَادَها
نَظَرَ المُثَقِّفِ في كُعُوبِ قَنَاتِهِ ... حَتَّى يُقِيمَ ثِقَافُهُ مُنَآدَها
وللشعر دواعٍ تحث البطىء وتبعث المتكلف، منها الطمع، ومنها الشوق، ومنها الشراب، ومنها الطرب، ومنها الغضب.
وقيل للحطيئة، أي الناس أشعر؟ فأخرج لساناً دقيقاً كأنه لسان حية، فقال: هذا إذا طمع.
وقال أحمد بن يوسف الكاتب لأبي يعقوب الخريمي: مدائحك لمحمد بن منصور بن زياد، يعني كاتب البرامكة، أشعر من مراثيك فيه وأجود؟ فقال: كنا يومئذ نعمل على الرجاء، ونحن اليوم نعمل على الوفاء، وبينهما بونٌ بعيد.
وهذه عندي قصة الكميت في مدحه بني أمية وآل أبي طالبٍ، فإنه كان يتشيع وينحرف عن بني أمية بالرأي والهوى، وشعره في بني أمية أجود منه في الطالبيين، ولا أرى علة ذلك إلا قوة أسباب الطمع وإيثار النفس لعاجل الدنيا على آجل الآجرة.
وقيل لكثيرٍ: يأبا صخرٍ كيف تصنع. إذا عسر عليك قول الشعر؟ قال: أطوف في الرباع المخلية والرياض المعشبة، فيسهل علي أرصنه، ويسرع إلى أحسنه.
ويقال أيضاً إنه لم يستدع شارد الشعر بمثل الماء الجاري والشرف العالي والمكان الخضر الخالي.
وقال الأحوص:
وأَشْرَفْتُ في نَشْزٍ مِنَ الأَرْضِ يَافِعٍوقَدْ تَشْعَفُ الأَيْفَاعُ مَنْ كانَ مُقْصَدا
وإذا شعفته الأيفاع مرته واستدرته.
وقال عبد الملك بن مروان لأرطاة بن سهية: هل تقول الآن شعراً؟ فقال: كيف أقول أنا للشنفري ما أشرف ولا أطرب ولا أغضب، وإنما يكون الشعر بواحدة من هذه.
وقيل للشنفري حين أسر: أنشد، فقال: الإنشاد على حين المسرة، ثم قال:
فَلاَ تَدْفنُوني إِنَّ دَفني مُحَرَّمٌ ... عليْكُمْ ولكِنْ خَامِرِي أَمَّ عَامِر
إِذَا حَمَلُوا رأسِي وفي الرأسِ أَكثَرِى ... وغودِرَ عِنْدَ المُلْتَقَى ثَمَّ سَائِرى
هُنالِكَ لاَ أَرْجُو حَيَاةً تَسُرُّني ... سَميَر الليالي مُبْسَلاً بالجَرَائرِ
وللشعر تاراتٌ يبعد فيها قريبه، ويستصعب فيها ريضه. وكذلك الكلام المنثور في الرسائل والمقامات والجوابات، فقد يتعذر على الكاتب الأديب وعلى البليغ الخطيب، ولا يعرف لذلك سببٌ، إلا أن يكون من عارض يعترض على الغريزة من سوء غذاءٍ أو خاطر غم.
وكان الفرزدق يقول: أنا أشعر تميمٍ عند تميمٍ، وربما أتت على ساعةٌ ونزع ضرس أسهل على من قول بيت.
وللشعر أوقاتٌ يسرع فيها أتيه، ويسمح فيها أبيه. منها أول الليل قبل تغشى الكرى، ومنها صدر النهار قبل الغداء، ومنها يوم شرب الدواء، ومنها الخلوة في الحبس والمسير.
ولهذه العلل تختلف أشعار الشاعر ورسائل الكتاب.
وقالوا في شعر النابغة الجعدي: خمارٌ بواف ومطرفٌ بآلاف.
ولا أرى غير الجعدي في هذا الحكم إلا كالجعدي، ولا أحسب أحداً من أهل التمييز والنظر، نظر بعين العدل وترك طريف التقليد، يستطيع أن يقدم أحداً من المتقدمين المكثرين على أحد من إلا بأن يرى الجيد في شعره أكثر من الجيد في شعر غيره.
ولله در القائل: أشعر الناس من أنت في شعره حتى تفرغ منه.
وقال العتبي: أنشد مروان بن أبي حفصة لزهير فقال: زهير أشعر الناس، ثم أنشد للأعشى فقال: بل هذا أشعر الناس، ثم أنشد لامرىء القيس فكأنما سمع به غناءً على شراب، فقال: امرؤ القيس والله أشعر الناس.
وكل علمٍ محتاجٌ إلى السماع. وأحوجه إلى ذلك علم الدين، ثم الشعر، لما فيه من الألفاظ الغريبة، واللغات المختلفة، والكلام الوحشي، وأسماء الشجر والنبات والمواضع والمياه. فإنك لا تفصل في شعر الهذليين إذا أنت لم تسمعه بين شابة وساية وهما موضعان ولا تثق بمعرفتك في حزم نبايع، وعروان الكراث، وشسى عبقر، وأسد حلية، وأسد ترجٍ، ودفاقٍ، وتضارع، وأشباه هذا لأنه لا يلحق بالذكاء والفطنة، كما يلحق مشتق الغريب.
وقرىء يوماً على الأصمعي في شعر أبي ذؤيب:
بِأَسْفَل ذاتِ الدَّيْرِ أُفْرِدَ جَحْشُهَا
رد: كتاب الشعر و الشعراء...
عيوب الشعر
الإقواء والإكفاء
قال أبو محمد: كان أبو عمرو بن العلاء يذكر أن الإقواء: هو اختلاف الإعراب في القوافي، وذلك أن تكون قافيةٌ مرفوعةً وأخرى مخفوضةً، كقول النابغة:
قالتْ بَنُو عامِرٍ خَالُوا بَني أَسَدٍ ... يا بُؤْس للجَهْلِ ضَرَّاراً لِأَقْوَامِ
وقال فيها:
تَبْدُو كَوَاكِبُهُ والشَّمْسُ طَالِعَةٌ ... لاَ النُّورُ نُورٌ ولا الإظْلَامُ إِظْلَامُ
وكان يقال إن النابغة الذبياني وبشر بن أبي خازم كانا يقويان، فأما النابغة فدخل يثرب فغنى بشعره ففطن فلم يعد للإقواء.
وبعض الناس يسمى هذا الإكفاء ويزعم أن الإقواء نقصان حرف من فاصلة البيت، كقول حجل بن نضلة، وكان أسر بنت عمرو ابن كلثوم وركب بها المفاوز، واسمها النوار:
حَنَّتْ نَوَارُ ولاتَ هَنَّا حَنَّتِ ... وبَدَا الَّذِي كانَتْ نَوَارُ أَجَنْتِ
لمَّا رَأَتْ مَاءَ السَّلاَ مَشْرُوباً ... والفَرْثَ يُعْصَرُ في الإنَاءِ أَرَنِّتِ
سمى إقواءً لأنه نقص من عروضه قوةٌ. وكان يستوي البيت بأن تقول متشرباً. يقال أقوى فلانٌ الحبل إذا جعل إحدى قواه أغلظ من الأخرى، وهو حبلٌ قوٍ.
مثل قول حميد:
إنَّي كبِرْتُ وإنَّ كُلَ كَبِيرٍ ... مِمَّا يُضَنُّ بِهِ يَمَلُّ ويَفْتُرُ
وكقول الربيع بن زيادٍ:
أَفَبَعْدَ مَقْتَلِ مَالِكِ بْنِ زُهَيْرٍ ... تَرْجُو النسَاءُ عَوَاقِبَ الأَطْهَارْ
ولو كان بن زهيرة لاستوى البيت.
والسناد: هو أن يختلف إرداف القوافي، كقولك علينا في قافيةٍ وفينا في أخرى، كقول عمرو بن كلثوم:
أَلاَ هُبّي بِصَحْنِكِ فاصْبَحينَا
فالحاء مكسورة. وقال في آخر:
تُصَفِّقُهَا الرِّيَاحُ إذَا جَرَيْنَا
فالراء مفتوحةٌ، وهي بمنزلة الحاء.
وكقول القائل:
كَأَنَّ عُيُونَهُنَّ عُيُونُ عني
ثم قال:
وأَصْبَحَ رَأسُهُ مِثْلَ اللُّجيْنِ
والإيطاء، هو إعادة القافية مرتين، وليس بعيبٍ عندهم كغيره.
الإجازة: اختلفوا في الإجازة، فقال بعضهم: هو أن تكون القوافي مقيدةً فتختلف الأرداف، كقول امرىء القيس:
لاَ يَدَّعي القَوْمُ أَنِّي أَفِرّ
فكسر الردف، وقال في بيت آخر:
وكِنْدَةُ حَوْلي جَميعاً صُبُرْ
فضم الردف، وقال في بيتٍ آخر:
أَلْحَقْتَ شَراً بِشَرْ
ففتح الردف.
وقال الخليل بن أحمد: هو أن تكون قافيةٌ ميماً والأخرى نوناً، كقول القائل:
يا رُبَّ جعْد منهمُ لَوْ تَدْرِينْ ... يضربُ ضَرْبَ السَّبِطِ المَقادِيمْ
أو طاءً والأخرى دالاً، كقول الآخر:
تَاللِه لَوْلاَ شَيْخُنَا عَبَّادُ ... لَكَمَرْونا عِنْدَهَا أَوْ كَادُوا
فَرْشَطَ لَمَّا كُرهَ الفِرشَاطُ ... بفيْشَةٍ كَأَنَّهَا مِلْطَاطُ
وهذا إنما يكون في الحرفين يخرجان من مخرج واحدٍ أو مخرجين متقاربين.
قال ابن الأعربي: الإجازة: مأخوذة من إجازة الحبل والوتر.
العيب في الإعراب
وقد يضطر الشاعر فيسكن ما كان ينبغي له أن يحركه، كقول لبيد:
ترَّاكُ أَمْكنَةٍ إذَا لَمْ أَرْضَهَا ... أَوْ يَعْتلِقْ بَعْضَ النُّفُوِس حِمَامُهَا
يريد: أترك المكان الذي لا أرضاه إلى أن أموت، لا أزال أفعل ذلك.
وأو هاهنا بمنزلة حتى. وكقول امرىء القيس:
فاليوْمَ أَشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَحِقبٍ ... إثماً مِنَ اللهِ ولاَ واغِلِ
الإقواء والإكفاء
قال أبو محمد: كان أبو عمرو بن العلاء يذكر أن الإقواء: هو اختلاف الإعراب في القوافي، وذلك أن تكون قافيةٌ مرفوعةً وأخرى مخفوضةً، كقول النابغة:
قالتْ بَنُو عامِرٍ خَالُوا بَني أَسَدٍ ... يا بُؤْس للجَهْلِ ضَرَّاراً لِأَقْوَامِ
وقال فيها:
تَبْدُو كَوَاكِبُهُ والشَّمْسُ طَالِعَةٌ ... لاَ النُّورُ نُورٌ ولا الإظْلَامُ إِظْلَامُ
وكان يقال إن النابغة الذبياني وبشر بن أبي خازم كانا يقويان، فأما النابغة فدخل يثرب فغنى بشعره ففطن فلم يعد للإقواء.
وبعض الناس يسمى هذا الإكفاء ويزعم أن الإقواء نقصان حرف من فاصلة البيت، كقول حجل بن نضلة، وكان أسر بنت عمرو ابن كلثوم وركب بها المفاوز، واسمها النوار:
حَنَّتْ نَوَارُ ولاتَ هَنَّا حَنَّتِ ... وبَدَا الَّذِي كانَتْ نَوَارُ أَجَنْتِ
لمَّا رَأَتْ مَاءَ السَّلاَ مَشْرُوباً ... والفَرْثَ يُعْصَرُ في الإنَاءِ أَرَنِّتِ
سمى إقواءً لأنه نقص من عروضه قوةٌ. وكان يستوي البيت بأن تقول متشرباً. يقال أقوى فلانٌ الحبل إذا جعل إحدى قواه أغلظ من الأخرى، وهو حبلٌ قوٍ.
مثل قول حميد:
إنَّي كبِرْتُ وإنَّ كُلَ كَبِيرٍ ... مِمَّا يُضَنُّ بِهِ يَمَلُّ ويَفْتُرُ
وكقول الربيع بن زيادٍ:
أَفَبَعْدَ مَقْتَلِ مَالِكِ بْنِ زُهَيْرٍ ... تَرْجُو النسَاءُ عَوَاقِبَ الأَطْهَارْ
ولو كان بن زهيرة لاستوى البيت.
والسناد: هو أن يختلف إرداف القوافي، كقولك علينا في قافيةٍ وفينا في أخرى، كقول عمرو بن كلثوم:
أَلاَ هُبّي بِصَحْنِكِ فاصْبَحينَا
فالحاء مكسورة. وقال في آخر:
تُصَفِّقُهَا الرِّيَاحُ إذَا جَرَيْنَا
فالراء مفتوحةٌ، وهي بمنزلة الحاء.
وكقول القائل:
كَأَنَّ عُيُونَهُنَّ عُيُونُ عني
ثم قال:
وأَصْبَحَ رَأسُهُ مِثْلَ اللُّجيْنِ
والإيطاء، هو إعادة القافية مرتين، وليس بعيبٍ عندهم كغيره.
الإجازة: اختلفوا في الإجازة، فقال بعضهم: هو أن تكون القوافي مقيدةً فتختلف الأرداف، كقول امرىء القيس:
لاَ يَدَّعي القَوْمُ أَنِّي أَفِرّ
فكسر الردف، وقال في بيت آخر:
وكِنْدَةُ حَوْلي جَميعاً صُبُرْ
فضم الردف، وقال في بيتٍ آخر:
أَلْحَقْتَ شَراً بِشَرْ
ففتح الردف.
وقال الخليل بن أحمد: هو أن تكون قافيةٌ ميماً والأخرى نوناً، كقول القائل:
يا رُبَّ جعْد منهمُ لَوْ تَدْرِينْ ... يضربُ ضَرْبَ السَّبِطِ المَقادِيمْ
أو طاءً والأخرى دالاً، كقول الآخر:
تَاللِه لَوْلاَ شَيْخُنَا عَبَّادُ ... لَكَمَرْونا عِنْدَهَا أَوْ كَادُوا
فَرْشَطَ لَمَّا كُرهَ الفِرشَاطُ ... بفيْشَةٍ كَأَنَّهَا مِلْطَاطُ
وهذا إنما يكون في الحرفين يخرجان من مخرج واحدٍ أو مخرجين متقاربين.
قال ابن الأعربي: الإجازة: مأخوذة من إجازة الحبل والوتر.
العيب في الإعراب
وقد يضطر الشاعر فيسكن ما كان ينبغي له أن يحركه، كقول لبيد:
ترَّاكُ أَمْكنَةٍ إذَا لَمْ أَرْضَهَا ... أَوْ يَعْتلِقْ بَعْضَ النُّفُوِس حِمَامُهَا
يريد: أترك المكان الذي لا أرضاه إلى أن أموت، لا أزال أفعل ذلك.
وأو هاهنا بمنزلة حتى. وكقول امرىء القيس:
فاليوْمَ أَشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَحِقبٍ ... إثماً مِنَ اللهِ ولاَ واغِلِ
رد: كتاب الشعر و الشعراء...
ولولا أن النحويين يذكرون هذا البيت ويحتجون به في تسكين المتحرك لاجتماع الحركات، وأن كثيراً من الرواة يروونه هكذا، لظننته.
فاليَوْمَ أُسْقَى غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ
قال أبو محمد: وقد رأيت سيبويه يذكر بيتاً يحتج به في نسق الاسم المنصوب على المخفوض، على المعنى لا على اللفظ، وهو قول الشاعر:
مُعَاوِىَ إِنَّنَا بَشَرٌ فأَسْجِعْ ... فَلَسْنَا بالجبَالِ ولا الحَدِيدَا
قال: كأنه أراد: لسنا الجبال ولا الحديدا، فرد الحديد على المعنى قبل دخول الباء، وقد غلظ على الشاعر، لأن هذا الشعر كله مخفوضٌ، قال الشاعر:
فهبْهَا أُمَّةً ذَهَبَتْ ضَيَاعاً ... يَزِيدُ أَمِيُرهَا وأَبُو يَزِيدِ
أَكَلْتُمْ أَرْضَنَا وجَرَدْتُمُوهَا ... فَهَلْ مِنْ قَائِمٍ أَوْ مِنْ حَصِيدِ
ويحتج أيضاً بقول الهذلي في كتابه، وهو قوله:
يَبِيتُ على مَعارِىَ فَاخِرَاتٍ ... بِهِنَّ مُلَوَّبٌ كَدَمِ العِبَاطِ
وليست هاهنا ضرورة فيحتاج الشاعر إلى أن يترك صرف معارٍ ولو قال
يَبِيتُ على مَعَارٍ فَاخِراتٍ
كان الشعر موزونا والإعراب صحيحاً.
قال أبو محمد: وهكذا قرأته على أصحاب الأصمعي.
وكقوله في بيتٍ آخر:
لِيُبْكَ يَزِيدُ ضَارعٌ لِخُصُومَةٍ ... ومُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطيحُ الطْوَائحُ
وكان الأصمعي ينكر هذا ويقول: ما اضطره إليه؟ وإنما الرواية:
لِيَبْكِ يَزِيدَ ضَارِعٌ لِخُصُومَة
وكذلك قول الفراء:
فَلَئنْ قَوْمٌ أَصَابُوا عِزَّةً ... وأَصَبْنَا مِن زَمَانٍ رَنَقَا
للَقَدْ كَانُوا لَدَى أَزْمَاتِهِ ... لَصَنِيِعينَ لِبَأْسٍ وتُقَى
هو فلقد كانوا وهذا باطل.
وكذلك قوله:
مَنْ كانَ لاَ يَزْعُمُ أَنِّي شَاعِرٌ ... فَيَدْنُ مِنِّي تَنْهَهُ المَزَاجِرُ
إنما هو فليدن مني وبه يصح أيضاً وزن الشعر.
وكذلك قوله:
فَقُلْتُ اعِي وأَدْعُ فَإِنَّ أَنْدَى ... لِصَوتٍ أَنْ يُنَادِىَ دَاعِيَانِ
إنما هو:
فَقُلْتُ ادْعِى وأَدْعُوَ إنَّ أنْدَى
وكقول الفرزدق:
رُحْتِ وفي رِجْلَيْكِ عُقَّالَةٌ ... وقدْ بَدَا هَنْكِ مِنَ المِئْزَر
وقد يضطر الشاعر فيقصر الممدود، وليس له أن يمد المقصور. وقد يضطر فيصرف غير المصروف، وقبيحٌ ألا يصرف المصروف. وقد جاء في الشعر، كقول العباس بن مرداس السلمى:
وما كانَ بَدْرٌ ولا حابِسٌ ... يَفُوقَانِ مرْدَاسَ في مَجْمَعِ
وأما ترك الهمز من المهموز فكثيرٌ واسعٌ، لا عيب فيه على الشاعر، والذي لا يجوز أن يهمز غير المهموز.
وليس للمحدث أن يتبع المتقدم في استعمال وحشي الكلام الذي لم يكثر، ككثير من أبنية سيبويه، واستعمال اللغة القليلة في العرب، كإبدالهم الجيم من الياء، كقول القائل: يا رب إن كنت قبلت حجتج يريد حجتي وكقولهم جمل بختج يريدون بختى وعلج يريدون علي.
وإبدالهم الياء من الحرف في الكلمة المخفوضة، كقول الشاعر:
لَهَا أَشَارِيرُ مِنْ لَحْمٍ تُتَمِّرُهُ ... مِنَ الثَّعالِي ووَخْزٌ منْ أَرانِيهَا
يريد من أرانبها وكقول الآخر: ولضفادى جمه نقانق يريد ضفادع.
وكإبدالهم الواو من الألف، كقولهم أفعو وحبلو يريدون أفعى وحبلى وقال ابن عباس: لا بأس برمي الحدو للمحرم وأستحب له ألا يسلك فيما يقول الأساليب التي لا تصح في الوزن ولا تحلو في الأسماع، كقول القائل:
قُلْ لِسُلَيْمى إذَا لاَقَيْتَهَا ... هَلْ تَبْلُغِنَّ بَلْدَةً إلا بِزَادْ
قُلْ للصَّعَالِيكِ لا تَسْتحْسِرُوا ... مِن الْتماسٍ وسَيْرٍ في البِلاَدْ
فالغَزْوُ أَحْجَى على مَا خَيَّلَتْ ... مِن اضْطِجَاعٍ على غَيْرِ وِسَادْ
لَوْ وصَلَ الغَيْثُ أَبْنَاءَ امْرِىءٍ ... كانَتْ لَهُ قُبَّةً سَحْقُ بجَادْ
وبَلْدَةٍ مُقْفِرٍ غِيطَانُها ... أَصْدُاؤُهَا مَغْرِبَ الشَّمْسِ تَنادْ
قَطَعْتُها صَاحبي حُوشيَّةٌ ... في مِرْفَقَيْهَا عنِ الزَّوْرِ تَعَادْ
وكقول المرقش:
وقال أعصر بن سعد بن قيس بن عيلان، واسمه منبه ابن سعد، وهو أبو غنى وباهلة والطفاوة:
قالتْ عُمَيْرَةُ ما لِرَأَسِك بَعْدَ ما ... نَفدَ الشَّبَابُ أَتَى بلَوْن مُنْكَر
أَعُمَيْرَ إِنَّ أَباكِ شَيَبَ رَأَسَه ... مَرُّ الليالِي واخْتِلاَفُ الأَعْصُر
وقال الحرث بن كعب وكان قديماً:
أَكَلْتُ شَبَابي فأَفْنَيْتُهُ ... وأَفْنَيْتُ بَعْدَ شُهُور شُهُورَا
ثلاثةُ أَهْلِينَ صاحبْتُهم ... فبانُوا وأَصْبَحْتُ شَيخْاً كَبِيرَا
قَلِيلَ الطَّعَامِ عَسِيرَ القيا ... مِ قد تَرَكَ القَيْدُ خَطْوِى قَصيَرا
أَبيتُ أُراعي نُجُومَ السماءِ ... أُقَلِّبُ أَمْرِى بُطُوناً ظُهُوراً
تراجم الشعراء
امرؤ القيس بن حجر
هو امرؤ القيس بن حجر بن عمرو الكندي، وهو من أهل نجد، من الطبقة الأولى. وهذه الديار التي وصفها في شعره كلها ديار بني أسد.
قال لبيد بن ربيعة: أشعر الناس ذو القروح، يعني امرأ القيس.
وملك حجرٌ على بني أسد، فكان يأخذ منهم شيئاً معلوماً، فامتنعوا منه، فسار إليهم فأخذ سرواتهم فقتلهم بالعصى، فسموا عبيد العصا وأسر منهم طائفةً، فيهم عبيد بن الأبرص، فقام بين يدي الملك فقال:
يا عيْنِ ما فاَبْكي بَنِي ... أَسَدٍ هُمُ أَهلُ النَّدَامَه
أَهْلَ القِبَابِ الحُمْرِ وال ... نَّعَمِ المُؤَبَّلِ والمُدَامَهْ
مَهلاً أَبَيْتَ اللَّعْنَ مَهْلاً ... إِنَّ فيما قُلْتَ آمهْ
في كُلّ وادٍ بَيْنَ يَثْ ... رِبَ والقُصُورِ إلى اليمَامَهْ
تَطْرِيبُ عانٍ أَوْ صِيَا ... حُ مُحَرَّقٍ وزُقَاءُ هامَهْ
أَنْتَ المَلِيك عليهمُ ... وهُمُ العَبِدُ إلى القِيَامَهْ
فرحمهم الملك وعفا عنهم وردهم إلى بلادهم، حتى إذا كانوا على مسيرة يوم من تهامة، تكهن كاهنهم عوف بن ربيعة الأسدي، فقال: يا عباد قالوا: لبيك ربنا! فقال: والغلاب غير المغلب، في الإبل كأنها الربرب، لا يقلق رأسه الصخب، هذا دمعه يثعب وهو غداً أول من يسلب، قالوا: من هو ربنا؟ قال: لولا تجيش نفسٌ جايشه أنباتكم أنه حجر ضاحيه. فركبت بنو أسد كل صعبٍ وذلول، فما أشرق لهم الضحى حتى انتهوا إلى حجر، فوجدوه نائماً فذبحوه وشدوا على هجائنه فاستاقوها.
وكان امرؤ القيس طرده أبوه لما صنع في الشعر بفاطمة ما صنع، وكان له عاشقا، فطلبها زماناً فلم يصل إليها، وكان يطلب منها غرةً، حتى كان منها يوم الغدير بدارة جلجل ما كان فقال:
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبيب ومَنْزِلِ
فاليَوْمَ أُسْقَى غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ
قال أبو محمد: وقد رأيت سيبويه يذكر بيتاً يحتج به في نسق الاسم المنصوب على المخفوض، على المعنى لا على اللفظ، وهو قول الشاعر:
مُعَاوِىَ إِنَّنَا بَشَرٌ فأَسْجِعْ ... فَلَسْنَا بالجبَالِ ولا الحَدِيدَا
قال: كأنه أراد: لسنا الجبال ولا الحديدا، فرد الحديد على المعنى قبل دخول الباء، وقد غلظ على الشاعر، لأن هذا الشعر كله مخفوضٌ، قال الشاعر:
فهبْهَا أُمَّةً ذَهَبَتْ ضَيَاعاً ... يَزِيدُ أَمِيُرهَا وأَبُو يَزِيدِ
أَكَلْتُمْ أَرْضَنَا وجَرَدْتُمُوهَا ... فَهَلْ مِنْ قَائِمٍ أَوْ مِنْ حَصِيدِ
ويحتج أيضاً بقول الهذلي في كتابه، وهو قوله:
يَبِيتُ على مَعارِىَ فَاخِرَاتٍ ... بِهِنَّ مُلَوَّبٌ كَدَمِ العِبَاطِ
وليست هاهنا ضرورة فيحتاج الشاعر إلى أن يترك صرف معارٍ ولو قال
يَبِيتُ على مَعَارٍ فَاخِراتٍ
كان الشعر موزونا والإعراب صحيحاً.
قال أبو محمد: وهكذا قرأته على أصحاب الأصمعي.
وكقوله في بيتٍ آخر:
لِيُبْكَ يَزِيدُ ضَارعٌ لِخُصُومَةٍ ... ومُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطيحُ الطْوَائحُ
وكان الأصمعي ينكر هذا ويقول: ما اضطره إليه؟ وإنما الرواية:
لِيَبْكِ يَزِيدَ ضَارِعٌ لِخُصُومَة
وكذلك قول الفراء:
فَلَئنْ قَوْمٌ أَصَابُوا عِزَّةً ... وأَصَبْنَا مِن زَمَانٍ رَنَقَا
للَقَدْ كَانُوا لَدَى أَزْمَاتِهِ ... لَصَنِيِعينَ لِبَأْسٍ وتُقَى
هو فلقد كانوا وهذا باطل.
وكذلك قوله:
مَنْ كانَ لاَ يَزْعُمُ أَنِّي شَاعِرٌ ... فَيَدْنُ مِنِّي تَنْهَهُ المَزَاجِرُ
إنما هو فليدن مني وبه يصح أيضاً وزن الشعر.
وكذلك قوله:
فَقُلْتُ اعِي وأَدْعُ فَإِنَّ أَنْدَى ... لِصَوتٍ أَنْ يُنَادِىَ دَاعِيَانِ
إنما هو:
فَقُلْتُ ادْعِى وأَدْعُوَ إنَّ أنْدَى
وكقول الفرزدق:
رُحْتِ وفي رِجْلَيْكِ عُقَّالَةٌ ... وقدْ بَدَا هَنْكِ مِنَ المِئْزَر
وقد يضطر الشاعر فيقصر الممدود، وليس له أن يمد المقصور. وقد يضطر فيصرف غير المصروف، وقبيحٌ ألا يصرف المصروف. وقد جاء في الشعر، كقول العباس بن مرداس السلمى:
وما كانَ بَدْرٌ ولا حابِسٌ ... يَفُوقَانِ مرْدَاسَ في مَجْمَعِ
وأما ترك الهمز من المهموز فكثيرٌ واسعٌ، لا عيب فيه على الشاعر، والذي لا يجوز أن يهمز غير المهموز.
وليس للمحدث أن يتبع المتقدم في استعمال وحشي الكلام الذي لم يكثر، ككثير من أبنية سيبويه، واستعمال اللغة القليلة في العرب، كإبدالهم الجيم من الياء، كقول القائل: يا رب إن كنت قبلت حجتج يريد حجتي وكقولهم جمل بختج يريدون بختى وعلج يريدون علي.
وإبدالهم الياء من الحرف في الكلمة المخفوضة، كقول الشاعر:
لَهَا أَشَارِيرُ مِنْ لَحْمٍ تُتَمِّرُهُ ... مِنَ الثَّعالِي ووَخْزٌ منْ أَرانِيهَا
يريد من أرانبها وكقول الآخر: ولضفادى جمه نقانق يريد ضفادع.
وكإبدالهم الواو من الألف، كقولهم أفعو وحبلو يريدون أفعى وحبلى وقال ابن عباس: لا بأس برمي الحدو للمحرم وأستحب له ألا يسلك فيما يقول الأساليب التي لا تصح في الوزن ولا تحلو في الأسماع، كقول القائل:
قُلْ لِسُلَيْمى إذَا لاَقَيْتَهَا ... هَلْ تَبْلُغِنَّ بَلْدَةً إلا بِزَادْ
قُلْ للصَّعَالِيكِ لا تَسْتحْسِرُوا ... مِن الْتماسٍ وسَيْرٍ في البِلاَدْ
فالغَزْوُ أَحْجَى على مَا خَيَّلَتْ ... مِن اضْطِجَاعٍ على غَيْرِ وِسَادْ
لَوْ وصَلَ الغَيْثُ أَبْنَاءَ امْرِىءٍ ... كانَتْ لَهُ قُبَّةً سَحْقُ بجَادْ
وبَلْدَةٍ مُقْفِرٍ غِيطَانُها ... أَصْدُاؤُهَا مَغْرِبَ الشَّمْسِ تَنادْ
قَطَعْتُها صَاحبي حُوشيَّةٌ ... في مِرْفَقَيْهَا عنِ الزَّوْرِ تَعَادْ
وكقول المرقش:
وقال أعصر بن سعد بن قيس بن عيلان، واسمه منبه ابن سعد، وهو أبو غنى وباهلة والطفاوة:
قالتْ عُمَيْرَةُ ما لِرَأَسِك بَعْدَ ما ... نَفدَ الشَّبَابُ أَتَى بلَوْن مُنْكَر
أَعُمَيْرَ إِنَّ أَباكِ شَيَبَ رَأَسَه ... مَرُّ الليالِي واخْتِلاَفُ الأَعْصُر
وقال الحرث بن كعب وكان قديماً:
أَكَلْتُ شَبَابي فأَفْنَيْتُهُ ... وأَفْنَيْتُ بَعْدَ شُهُور شُهُورَا
ثلاثةُ أَهْلِينَ صاحبْتُهم ... فبانُوا وأَصْبَحْتُ شَيخْاً كَبِيرَا
قَلِيلَ الطَّعَامِ عَسِيرَ القيا ... مِ قد تَرَكَ القَيْدُ خَطْوِى قَصيَرا
أَبيتُ أُراعي نُجُومَ السماءِ ... أُقَلِّبُ أَمْرِى بُطُوناً ظُهُوراً
تراجم الشعراء
امرؤ القيس بن حجر
هو امرؤ القيس بن حجر بن عمرو الكندي، وهو من أهل نجد، من الطبقة الأولى. وهذه الديار التي وصفها في شعره كلها ديار بني أسد.
قال لبيد بن ربيعة: أشعر الناس ذو القروح، يعني امرأ القيس.
وملك حجرٌ على بني أسد، فكان يأخذ منهم شيئاً معلوماً، فامتنعوا منه، فسار إليهم فأخذ سرواتهم فقتلهم بالعصى، فسموا عبيد العصا وأسر منهم طائفةً، فيهم عبيد بن الأبرص، فقام بين يدي الملك فقال:
يا عيْنِ ما فاَبْكي بَنِي ... أَسَدٍ هُمُ أَهلُ النَّدَامَه
أَهْلَ القِبَابِ الحُمْرِ وال ... نَّعَمِ المُؤَبَّلِ والمُدَامَهْ
مَهلاً أَبَيْتَ اللَّعْنَ مَهْلاً ... إِنَّ فيما قُلْتَ آمهْ
في كُلّ وادٍ بَيْنَ يَثْ ... رِبَ والقُصُورِ إلى اليمَامَهْ
تَطْرِيبُ عانٍ أَوْ صِيَا ... حُ مُحَرَّقٍ وزُقَاءُ هامَهْ
أَنْتَ المَلِيك عليهمُ ... وهُمُ العَبِدُ إلى القِيَامَهْ
فرحمهم الملك وعفا عنهم وردهم إلى بلادهم، حتى إذا كانوا على مسيرة يوم من تهامة، تكهن كاهنهم عوف بن ربيعة الأسدي، فقال: يا عباد قالوا: لبيك ربنا! فقال: والغلاب غير المغلب، في الإبل كأنها الربرب، لا يقلق رأسه الصخب، هذا دمعه يثعب وهو غداً أول من يسلب، قالوا: من هو ربنا؟ قال: لولا تجيش نفسٌ جايشه أنباتكم أنه حجر ضاحيه. فركبت بنو أسد كل صعبٍ وذلول، فما أشرق لهم الضحى حتى انتهوا إلى حجر، فوجدوه نائماً فذبحوه وشدوا على هجائنه فاستاقوها.
وكان امرؤ القيس طرده أبوه لما صنع في الشعر بفاطمة ما صنع، وكان له عاشقا، فطلبها زماناً فلم يصل إليها، وكان يطلب منها غرةً، حتى كان منها يوم الغدير بدارة جلجل ما كان فقال:
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبيب ومَنْزِلِ
رد: كتاب الشعر و الشعراء...
فلما بلغ ذلك حجراً أباه دعا مولًى له يقال له ربيعة، فقال له: اقتل امرأ القيس وأتني بعينيه، فذبح جؤذراً فأتاه بعينيه، فندم حجر على ذلك، فقال: أبيت اللعن! إني لم أقتله، قال: فأتني به، فانطلق فإذا هو قد قال شعراً في رأس جبلٍ، وهو قوله:
فلا تَتْرُكَنِّي يا رَبِيعَ لِهذِهِ ... وكُنْتُ أَرانِي قبْلَها بِكَ واثِقاً
فرده إلى أبيه، فنهاه عن قول الشعر، ثم إنه قال:
أَلاَ انْعَمْ صَبَاحاً أَيُّهَا الطَّلَلُ البَالي
فبلغ ذلك أباه فطرده، فبلغه مقتل أبيه وهو بدمون، فقال:
تَطَاوَلَ اللَّيْلُ عَلَيْنَا دَمُّونْ ... دَمُّونُ إِنَّا مَعْشَرٌ يَمَانُونْ
وإِنَّنَا لِأَهْلِنَا مُحِبُّونْ
ثم قال: ضيعني صغيراً، وحملني دمه كبيراً، لا صحو اليوم، ولا سكر غداً، اليوم خمرٌ، وغداً أمرٌ، ثم قال:
خَلِيَلَّى ما في اليوم مَصْحًى لشارِبٍ ... ولا في غَدٍ إِذْ كان ما كان مَشْرَبُ
ثم آلى لا يأكل لحماً ولا يشرب خمراً حتى يثأر بأبيه، فلما كان الليل لاح له برقٌ فقال:
أَرقْتُ لبَرْق بلَيْل أَهَلّ ... يُضىءُ سَنَاهُ بأَعْلَى الجَبَلْ
بقَتْل بَني أَسَدٍ رَبَّهُمْ ... أَلاَ كُلُّ شَيءٍ سِوَاهُ جَلَلْ
ثم استجاش بكر بن وائل، فسار إليهم وقد لجؤوا إلى كنانة، فأوقع بهم، ونجت بنو كاهل من بني أسد، فقال:
يا لَهْفَ نَفْسِي إِذْ خَطِئْنَ كاهِلاَ ... القاتِلِينَ المَلِكَ الحُلاَحلا
تَاللهِ لا يذهَبُ شَيْخِي باطَلا
وقد ذكر امرؤ القيس في شعره أنه ظفر بهم، فتأبى عليه ذلك الشعراء قال عبيد:
ياذا المُخَوِّفُنَا بِقَتْ ... ل أَبِيهِ إِذْلاَلاً وحَيْنَا
أَزَعَمْتَ أَنَّكَ قَدْ قَتَلْ ... تَ سرَاتَنَا كَذِباً ومَيْنَا
ولم يزل يسير في العرب يطلب النصر، حتى خرج إلى قيصر، فدخل معه الحمام، فإذا قيصر أقلف، فقال:
إِنَّي حَلَفْتُ يمِيناً غَيْرَ كاذِبَةٍ ... أَنَّكَ أَقْلَفُ إِلاَّ ما جَنَى القَمَرُ
إِذَا طَعَنْتَ به مالَتْ عِمَامَتُهُ ... كَمَا تَجَمَّعَ تَحْتَ الفَلْكَةِ الوَبَرُ
ونظرت إليه ابنة قيصر فعشقته، فكان يأتيها وتأتيه وطبن الطماح ابن قيسٍ الأسدي لهما، وكان حجرٌ قتل أباه، فوشى به إلى الملك، فخرج امرؤ القيس متسرعاً، فبعث قيصر في طلبه رسولاً، فأدركه دون أنقرة بيومٍ، ومعه حلةٌ مسمومة، فلبسها في يومٍ صائفٍ، فتناثر لحمه وتفطر جسده، وكان يحمله جابر بن حنى التغلبي، فذلك قوله:
فَإِمَّا تَرَيْنِي في رِحَالَةِ جابِرٍ ... على حَرَجٍ كالقَرِّ تَخْفِقُ أَكْفَانِي
فَيَارُبَّ مَكْرُوبٍ كَرَرْتُ وَرَاءَهُ ... وعانٍ فَكَكْتُ الغُلَّ عنه ففَدَّانِي
إِذَا المَرْءُ لم يَخْزُنْ عليه لِسَانَهُ ... فلَيْسَ على شَيْءٍ سِوَاهُ بِخَزَّانِ
وقال حين حضرته الوفاة:
وطَعْنَة مُسْحَنْفِرَهْوجَفْنَةٍ مُثعَنْجِرَهْتَبْقَى غَداً بأَنقِرَهْ
قال ابن الكلبي: هذا آخر شيءٍ تكلم به، ثم مات.
قال أبو عبد الله الجمحي: كان امرؤ القيس ممن يتعهر في شعره، وذلك قوله:
فمِثْلِكَ حُبْلَى قَدْ طَرَقْتُ ومُرْضِعٍ
وقال:
سَمَوْتُ إِلَيْهَا بَعْدَ ما نامَ أَهْلُهَا
وقد سبق امرؤ القيس إلى أشياء ابتدعها، واستحسنها العرب، واتبعته عليها الشعراء، من استيقافه صحبه في الديار، ورقة النسيب، وقرب المأخذ.
ويستجاد من تشبيهه قوله:
كأَنَّ قُلُوبَ الطَّيْرِ رَطْباً ويابِساً ... لَدَى وَكْرِهَا العُنَّابُ والحَشَفُ البالى
وقوله:
كأَنَّ عُيُونَ الوَحْشِ حَوْلَ قِبَابِنَا ... وأَرْحُلِنَا الجَزْعُ الَّذِي لم يُثَقَّبِ
وقوله:
كأَني غَدَاةَ البَينِ لَمَّا تَحَمَّلُوا ... لَدَى سَمُرَاتِ الحَىِّ ناقِفُ حَنْظَل
وقد أجاد في صفة الفرس:
مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ مَعاً ... كجُلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَل
لَهُ أَيْطَلاَ ظَبْيٍ وساقَا نَعَامَةٍ ... وإرْخَاءُ سِرْحَانٍ وتَقْريبُ تَنْقُلِ
ومما يعاب عليه من شعره قوله:
إِذَا ما الثُّرَيَّا في السَّماءِ تَعَرَّضَتْتَعَرُّضَ أَثْنَاءِ الوِشَاحِ المُفَصَّل
وقالوا: الثريا لا تعرض لها، وإنما أراه أراد الجوزاء، فذكر الثريا على الغلط، كما قال الآخر: كأحمر عاد وإنما هو كأحمر ثمود وهو عاقر الناقة.
قال يونس النحوي: قدم علينا ذو الرمة من سفرٍ، وكان أحسن الناس وصفاً للمطر، فذكرنا له قول عبيدٍ وأوس وعبد بني الحسحاس في المطر، فاختار قول امرىء القيس:
دِيمَةٌ هَطْلاءُ فيها وَطَفٌ ... طَبَقُ الأَرْضِ تَحَرَّى وتَدُرّْ
أقبل قوم من اليمن يريدون النبي صلى الله عليه وسلم، فضلوا الطريق ومكثوا ثلاثاً لا يقدرون على الماء، إذ أقبل راكبٌ على بعيرٍ، وأنشد بعض القوم:
لمّا رَأَتْ أَنَّ الشَّرِيعَةَ هَمُّها ... وأَنَّ البَيَاضَ من فَرَائِصِهَا دامِي
تَيَمَّمَتِ العَيْنَ التي عِنْد ضَارِجٍ ... يَفِيءُ عليها الظَّلُّ عَرْمَضُهَا طامِي
فقال الراكب: من يقول هذا؟ قالوا: امرؤ القيس، فقال: والله ما كذب، هذا ضارجٌ عندكم، وأشار إليه، فمشوا على الركب، فإذا ماءٌ غدقٌ، وإذا عليه العرمض والظل يفىء عليه، فشربوا وحملوا، ولولا ذلك لهلكوا.
ومما يتمثل به من شعره قوله:
وَقَاهُمْ جَدُّهُمْ بِبَنى أَبِيِهم ... وبالأَشْقَيْنَ ما كان العقابُ
وقوله:
صُبَّتْ عَلَيْهِ ولَمْ تَنْصَبَّ من كَثَبٍ ... إِنَّ الشَّقَاءَ على الاشْقَيْنَ مَصْبُوبُ
وقوله:
وقَدْ طَوَّفْتُ في الآفَاق حَتىَّ ... رَضِيتُ مِن الغَنِيمَةِ بالإياب
ومما يتغنى به من شعره: قِفَا نَبْكِ من ذكْرَى حَبيب ومَنْزل قوله:
تَقُولُ وقَدْ مال الغَبِيطُ بنا مَعاً ... عَقَرْتَ بَعيري يا امْرَأَ القَيْسِ فانُزِل
وقال أبو النجم يصف قينة:
تُغَنِّي فإِنَّ اليَوْمَ يَوْمٌ مِنَ الصِّبَىبِبَعْضِ الَّذِي غَنَّى امْرُؤُ القَيْسِ أَو عَمْرُو
فظَلَّتْ تُغَنِّى بالغَبِيطِ ومَيْلِهِ ... وتَرْفَعُ صَوْتاً في أَوَاخِرِهِ كَسْرُ
وقوله:
كأَنَّ المُدَامَ وصَوْبَ الغَمامِ ... ورِيحَ الخُزَامى ونَشْرَ القُطُرْ
يُعَلُّ به بَرْدُ أَنْيَابِها ... إَذا طَرَّبَ الطائِرُ المُسْتَحِرْ
وكل ما قيل في هذا المعنى فمنه أخذ.
واجتمع عند عبد الملك أشراف من الناس والشعراء، فسألهم عن أرق بيت قالته العرب، فاجتمعوا على بيت امرىء القيس:
وما ذَرَفَتْ عيْنَاكِ إِلاَّ لِتَضْربِي ... بَسْهَميْكِ في أَعْشَارِ قَلْبٍ مُقَتَّل
وقال:
واللهُ أَنْجَحُ ما طَلَبْتَ بِهِ ... والبِرُّ خَيْرُ حَقِيبَةِ الرَّحْل
وقال:
مِنْ آل لَيْلَى وأَيْنَ لَيْلى ... وخَيْرُ ما رُمْتَ ما يُنَالُ
هو امرؤ القيس بن حجر بن الحرث بن عمرو بن حجر آكل المرار بن معاوية بن ثورٍ، وهو كندة. وأمه فاطمة بنت ربيعة ابن الحرث بن زهير، أخت كليبٍ ومهلهل ابني ربيعة التغلبيين. وكليب هو الذي تقول فيه العرب: أعز من كليب وائل وبمقتله هاجت حرب بكر وتغلب.
وكان قباذ ملك فارس ملك الحرث بن عمرو جد امرىء القيس على العرب، ويقول أهل اليمن: أن تبعاً الأخير ملكه، وكان الحرث ابن أخته، فلما هلك قباذ وملك أنوشروان ملك على الحيرة المنذر بن ماء السماء، وكانت عنده هندٌ بنت الحرث بن عمرو بن حجر، فولدت له عمرو بن المنذر وقابوس بن المنذر، وهند عمة امرىء القيس، وابنها عمرو هو محرقٌ.
ثم ملكت بنو أسدٍ حجراً عليها، فساءَت سيرته، فجمعت له بنو أسد، واستعان حجرٌ ببني حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، فقال امرؤ القيس:
تميمُ بنُ مُرٍّ وأَشْياعُها ... وكِنْدَةُ حَوْلِي جَمِيعاً صُبُرْ
فبعثت بنو أسد إلى بني حنظلة تستكفها وتسألها أن تخلى بينها وبين كندة، فاعتزلت بنو حنظلة، والتقت كندة وأسدٌ، فانهزمت كندة وقتل حجرٌ، وغنمت بنو أسدٍ أموالهم. وفي ذلك يقول عبيد بن الأبرص الأسدي:
هَلاَّ سَأَلْتَ جُمُوعَ كِنْ ... دَةَ يَوْمَ ولَّوْا هَارِبينَا
وكان قاتل حجرٍ علباء بن الحرث الأسدي، وأفلت امرؤ القيس يومئذٍ، وحلف لا يغسل رأسه ولا يشرب خمراً حتى يدرك ثأره ببني أسد، فأتى ذا جدنٍ الحميري فاستمده فأمده، وبلغ الخبر بني أسد فانتقلوا عن منازلهم، فنزلوا على قومٍ من بني كنانة بن خزيمة، والكنانيون لا يعلمون بمسير امرىء القيس إليهم، فطرقهم في جندٍ عظيم، فأغار على الكنانيين وقتل منهم، وهو يظن أنهم بنو أسدٍ ثم تبين أنهم ليسوا هم، فقال:
أَلاَ يا لَهْفَ نَفْسِي إِثْرَ قَوْمٍ ... هُمُ كانُوا الشِّفَاءَ فلم يُصَابُوا
وَقَاهُمْ جَدُّهُمْ ببَنِي أَبيِهمْ ... وبالأَشَقْينَ ما كانَ العِقَابُ
وأَفْلَتَهُنَّ عِلْباءٌ جَرِيضاً ... ولَوْ أَدْرَكْنَهُ صَفرَ الوطَابُ
ثم تبع بني أسدٍ فأدركهم وقتل فيهم قتلاً ذريعاً، وقال:
قُولاَ لِدُودَانَ عَبِيدَ العَصَا ... ما غَرَّكُمْ بالأَسَدِ الباسل
قد قَرَّتِ العَيْنَانِ من وائل ... ومن بني عَمْرو ومن كاهِلِ
نَطْعُنُهُمْ سُلْكَى ومَخْلُوجَةً ... كرَّكَ لَأْمَيْنِ على نَابِلِ
حَلَّتْ لَي الخَمْرُ وكْنتُ امْرَءًا ... عَنْ شُرْبِهَا في شُغُلٍ شاغِل
فاليَوْمَ أَشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ ... إِثْماً مِنَ اللهِ ولا واغِلِ
ثم إن المنذر بن ماءٍ السماء غزا كندة فأصاب منهم، وأسر اثنى عشر فتًى من ملوكهم، فأمر بهم فقتلوا بمكان بين الحيرة والكوفة، يقال له جفر الأملاك، وكان امرؤ القيس يومئذٍ معهم، فهرب حتى لجأ إلى سعد بن الضباب الإيادي، سيد إياد، فأجاره.
وكان ابن الكلبي يذكر أن أم سعدٍ كانت عند حجرٍ أبي امرىء القيس، فتزوجها الضباب فولدت سعداً على فراشه، واستشهد على ذلك قول امرىء القيس:
يُفَكِّهُنا سَعْدٌ ويُنْعِمُ بالَنا ... ويَغْدُو عَلَيْنا بالجِفانِ وبالجُزُرْ
ونَعْرِفُ فيه من أَبِيهِ شَمَائِلاً ... ومن خالِهِ ومن يزَيدَ ومن حُجُرْ
وهذا الشعر يدل على أن العرب كانت في الجاهلية ترى الولد للفراش.
ثم تحول إلى جبلى طيءٍ، فنزل على قوم، منهم عامر بن جوينٍ الطائي، فقالت له ابنته: إن الرجل مأكولٌ فكله، فأتى عامرٌ أجأً وصاح: ألا إن عامر بن جوين غدر، فلم يجبه الصدى، ثم صاح: ألا إن عامر بن جوينٍ وفى، فأجابه الصدى، فقال: ما أحسن هذه وما أقبح تلك! ثم خرج امرؤ القيس من عنده، فشيعه، فرأت ابنته ساقيه وهو مدبرٌ، وكانتا حمشتين، فقالت: ما رأيت كاليوم ساقى واف، فقال: هما ساقا غادرٍ أقبح.
ويقال إن صاحب هذا القول أبو حنبلٍ بن مرِّ مجير الجراد.
ويقال إن ابنته لما أشارت عليه بأخذ ماله دعا بجذعة من غنمه، فحلبها في قدح ثم شرب فروى، ثم استلقى وقال: والله لا أغدر ما أجزأتني جدعة، ثم قام فمشى، وكان أعور سناطاً، قصيراً حمش الساقين، فقالت ابنته: ما رأيت كاليوم ساقي وافٍ؟ فقال لابنته: يا بنية، هما ساقا غادرٍ شرٌّ، وقال:
لَقَدْ آلَيتُ أَغْدِرُ في جَدَاعٍ ... ولوْ مُنَّيِتُ أُمّاتِ الرِّبَاعِ
لأَنَّ الغَدْرَ في الأَقْوَامِ عارٌ ... وإِنَّ الحُرَّ يَجْزَأُ بالكُرَاعِ
ولم يزل ينتقل من قوم إلى قوم بجبلى طيىءٍ، ثم سمت به نفسه إلى ملك الروم، فأتى السموأل بن عادياء اليهودي، ملك تيماء، وهي مدينة بين الشأم والحجاز، فاستودعه مائة درعٍ وسلاحاً كثيرا، ثم سار ومعه عمرو بن قميئة، أحد بني قيس بن ثعلبة، وكان من خدم أبيه، فبكى ابن قميئة، وقال له: غررت بنا، فأنشأ امرؤ القيس يقول:
بكى صاحبِي لَمَّا رأَى الدَّرْبَ دُونَهُ ... وأَيْقَنَ أَنَّا لاحِقَانِ بقَيْصَرَا
فقُلْتُ لَهُ لا تَبْكِ عَيْنُكَ إِنَما ... نُحَاوِلُ مُلْكاً أَو نَمُوتَ فنُعْذَرَا
وإني أَذينٌ إِنْ رَجَعْتُ مُمَلكاً ... بِسَيْرٍ تَرَى منه الفُرَانقَ أَزْوَرَا
على ظَهْرِ عادِيٍّ تُحارِبُهُ القَطَا ... إذا سافَهُ العَوْدُ الدِّيَافِيُّ جَرْجَرَا
فلا تَتْرُكَنِّي يا رَبِيعَ لِهذِهِ ... وكُنْتُ أَرانِي قبْلَها بِكَ واثِقاً
فرده إلى أبيه، فنهاه عن قول الشعر، ثم إنه قال:
أَلاَ انْعَمْ صَبَاحاً أَيُّهَا الطَّلَلُ البَالي
فبلغ ذلك أباه فطرده، فبلغه مقتل أبيه وهو بدمون، فقال:
تَطَاوَلَ اللَّيْلُ عَلَيْنَا دَمُّونْ ... دَمُّونُ إِنَّا مَعْشَرٌ يَمَانُونْ
وإِنَّنَا لِأَهْلِنَا مُحِبُّونْ
ثم قال: ضيعني صغيراً، وحملني دمه كبيراً، لا صحو اليوم، ولا سكر غداً، اليوم خمرٌ، وغداً أمرٌ، ثم قال:
خَلِيَلَّى ما في اليوم مَصْحًى لشارِبٍ ... ولا في غَدٍ إِذْ كان ما كان مَشْرَبُ
ثم آلى لا يأكل لحماً ولا يشرب خمراً حتى يثأر بأبيه، فلما كان الليل لاح له برقٌ فقال:
أَرقْتُ لبَرْق بلَيْل أَهَلّ ... يُضىءُ سَنَاهُ بأَعْلَى الجَبَلْ
بقَتْل بَني أَسَدٍ رَبَّهُمْ ... أَلاَ كُلُّ شَيءٍ سِوَاهُ جَلَلْ
ثم استجاش بكر بن وائل، فسار إليهم وقد لجؤوا إلى كنانة، فأوقع بهم، ونجت بنو كاهل من بني أسد، فقال:
يا لَهْفَ نَفْسِي إِذْ خَطِئْنَ كاهِلاَ ... القاتِلِينَ المَلِكَ الحُلاَحلا
تَاللهِ لا يذهَبُ شَيْخِي باطَلا
وقد ذكر امرؤ القيس في شعره أنه ظفر بهم، فتأبى عليه ذلك الشعراء قال عبيد:
ياذا المُخَوِّفُنَا بِقَتْ ... ل أَبِيهِ إِذْلاَلاً وحَيْنَا
أَزَعَمْتَ أَنَّكَ قَدْ قَتَلْ ... تَ سرَاتَنَا كَذِباً ومَيْنَا
ولم يزل يسير في العرب يطلب النصر، حتى خرج إلى قيصر، فدخل معه الحمام، فإذا قيصر أقلف، فقال:
إِنَّي حَلَفْتُ يمِيناً غَيْرَ كاذِبَةٍ ... أَنَّكَ أَقْلَفُ إِلاَّ ما جَنَى القَمَرُ
إِذَا طَعَنْتَ به مالَتْ عِمَامَتُهُ ... كَمَا تَجَمَّعَ تَحْتَ الفَلْكَةِ الوَبَرُ
ونظرت إليه ابنة قيصر فعشقته، فكان يأتيها وتأتيه وطبن الطماح ابن قيسٍ الأسدي لهما، وكان حجرٌ قتل أباه، فوشى به إلى الملك، فخرج امرؤ القيس متسرعاً، فبعث قيصر في طلبه رسولاً، فأدركه دون أنقرة بيومٍ، ومعه حلةٌ مسمومة، فلبسها في يومٍ صائفٍ، فتناثر لحمه وتفطر جسده، وكان يحمله جابر بن حنى التغلبي، فذلك قوله:
فَإِمَّا تَرَيْنِي في رِحَالَةِ جابِرٍ ... على حَرَجٍ كالقَرِّ تَخْفِقُ أَكْفَانِي
فَيَارُبَّ مَكْرُوبٍ كَرَرْتُ وَرَاءَهُ ... وعانٍ فَكَكْتُ الغُلَّ عنه ففَدَّانِي
إِذَا المَرْءُ لم يَخْزُنْ عليه لِسَانَهُ ... فلَيْسَ على شَيْءٍ سِوَاهُ بِخَزَّانِ
وقال حين حضرته الوفاة:
وطَعْنَة مُسْحَنْفِرَهْوجَفْنَةٍ مُثعَنْجِرَهْتَبْقَى غَداً بأَنقِرَهْ
قال ابن الكلبي: هذا آخر شيءٍ تكلم به، ثم مات.
قال أبو عبد الله الجمحي: كان امرؤ القيس ممن يتعهر في شعره، وذلك قوله:
فمِثْلِكَ حُبْلَى قَدْ طَرَقْتُ ومُرْضِعٍ
وقال:
سَمَوْتُ إِلَيْهَا بَعْدَ ما نامَ أَهْلُهَا
وقد سبق امرؤ القيس إلى أشياء ابتدعها، واستحسنها العرب، واتبعته عليها الشعراء، من استيقافه صحبه في الديار، ورقة النسيب، وقرب المأخذ.
ويستجاد من تشبيهه قوله:
كأَنَّ قُلُوبَ الطَّيْرِ رَطْباً ويابِساً ... لَدَى وَكْرِهَا العُنَّابُ والحَشَفُ البالى
وقوله:
كأَنَّ عُيُونَ الوَحْشِ حَوْلَ قِبَابِنَا ... وأَرْحُلِنَا الجَزْعُ الَّذِي لم يُثَقَّبِ
وقوله:
كأَني غَدَاةَ البَينِ لَمَّا تَحَمَّلُوا ... لَدَى سَمُرَاتِ الحَىِّ ناقِفُ حَنْظَل
وقد أجاد في صفة الفرس:
مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ مَعاً ... كجُلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَل
لَهُ أَيْطَلاَ ظَبْيٍ وساقَا نَعَامَةٍ ... وإرْخَاءُ سِرْحَانٍ وتَقْريبُ تَنْقُلِ
ومما يعاب عليه من شعره قوله:
إِذَا ما الثُّرَيَّا في السَّماءِ تَعَرَّضَتْتَعَرُّضَ أَثْنَاءِ الوِشَاحِ المُفَصَّل
وقالوا: الثريا لا تعرض لها، وإنما أراه أراد الجوزاء، فذكر الثريا على الغلط، كما قال الآخر: كأحمر عاد وإنما هو كأحمر ثمود وهو عاقر الناقة.
قال يونس النحوي: قدم علينا ذو الرمة من سفرٍ، وكان أحسن الناس وصفاً للمطر، فذكرنا له قول عبيدٍ وأوس وعبد بني الحسحاس في المطر، فاختار قول امرىء القيس:
دِيمَةٌ هَطْلاءُ فيها وَطَفٌ ... طَبَقُ الأَرْضِ تَحَرَّى وتَدُرّْ
أقبل قوم من اليمن يريدون النبي صلى الله عليه وسلم، فضلوا الطريق ومكثوا ثلاثاً لا يقدرون على الماء، إذ أقبل راكبٌ على بعيرٍ، وأنشد بعض القوم:
لمّا رَأَتْ أَنَّ الشَّرِيعَةَ هَمُّها ... وأَنَّ البَيَاضَ من فَرَائِصِهَا دامِي
تَيَمَّمَتِ العَيْنَ التي عِنْد ضَارِجٍ ... يَفِيءُ عليها الظَّلُّ عَرْمَضُهَا طامِي
فقال الراكب: من يقول هذا؟ قالوا: امرؤ القيس، فقال: والله ما كذب، هذا ضارجٌ عندكم، وأشار إليه، فمشوا على الركب، فإذا ماءٌ غدقٌ، وإذا عليه العرمض والظل يفىء عليه، فشربوا وحملوا، ولولا ذلك لهلكوا.
ومما يتمثل به من شعره قوله:
وَقَاهُمْ جَدُّهُمْ بِبَنى أَبِيِهم ... وبالأَشْقَيْنَ ما كان العقابُ
وقوله:
صُبَّتْ عَلَيْهِ ولَمْ تَنْصَبَّ من كَثَبٍ ... إِنَّ الشَّقَاءَ على الاشْقَيْنَ مَصْبُوبُ
وقوله:
وقَدْ طَوَّفْتُ في الآفَاق حَتىَّ ... رَضِيتُ مِن الغَنِيمَةِ بالإياب
ومما يتغنى به من شعره: قِفَا نَبْكِ من ذكْرَى حَبيب ومَنْزل قوله:
تَقُولُ وقَدْ مال الغَبِيطُ بنا مَعاً ... عَقَرْتَ بَعيري يا امْرَأَ القَيْسِ فانُزِل
وقال أبو النجم يصف قينة:
تُغَنِّي فإِنَّ اليَوْمَ يَوْمٌ مِنَ الصِّبَىبِبَعْضِ الَّذِي غَنَّى امْرُؤُ القَيْسِ أَو عَمْرُو
فظَلَّتْ تُغَنِّى بالغَبِيطِ ومَيْلِهِ ... وتَرْفَعُ صَوْتاً في أَوَاخِرِهِ كَسْرُ
وقوله:
كأَنَّ المُدَامَ وصَوْبَ الغَمامِ ... ورِيحَ الخُزَامى ونَشْرَ القُطُرْ
يُعَلُّ به بَرْدُ أَنْيَابِها ... إَذا طَرَّبَ الطائِرُ المُسْتَحِرْ
وكل ما قيل في هذا المعنى فمنه أخذ.
واجتمع عند عبد الملك أشراف من الناس والشعراء، فسألهم عن أرق بيت قالته العرب، فاجتمعوا على بيت امرىء القيس:
وما ذَرَفَتْ عيْنَاكِ إِلاَّ لِتَضْربِي ... بَسْهَميْكِ في أَعْشَارِ قَلْبٍ مُقَتَّل
وقال:
واللهُ أَنْجَحُ ما طَلَبْتَ بِهِ ... والبِرُّ خَيْرُ حَقِيبَةِ الرَّحْل
وقال:
مِنْ آل لَيْلَى وأَيْنَ لَيْلى ... وخَيْرُ ما رُمْتَ ما يُنَالُ
هو امرؤ القيس بن حجر بن الحرث بن عمرو بن حجر آكل المرار بن معاوية بن ثورٍ، وهو كندة. وأمه فاطمة بنت ربيعة ابن الحرث بن زهير، أخت كليبٍ ومهلهل ابني ربيعة التغلبيين. وكليب هو الذي تقول فيه العرب: أعز من كليب وائل وبمقتله هاجت حرب بكر وتغلب.
وكان قباذ ملك فارس ملك الحرث بن عمرو جد امرىء القيس على العرب، ويقول أهل اليمن: أن تبعاً الأخير ملكه، وكان الحرث ابن أخته، فلما هلك قباذ وملك أنوشروان ملك على الحيرة المنذر بن ماء السماء، وكانت عنده هندٌ بنت الحرث بن عمرو بن حجر، فولدت له عمرو بن المنذر وقابوس بن المنذر، وهند عمة امرىء القيس، وابنها عمرو هو محرقٌ.
ثم ملكت بنو أسدٍ حجراً عليها، فساءَت سيرته، فجمعت له بنو أسد، واستعان حجرٌ ببني حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، فقال امرؤ القيس:
تميمُ بنُ مُرٍّ وأَشْياعُها ... وكِنْدَةُ حَوْلِي جَمِيعاً صُبُرْ
فبعثت بنو أسد إلى بني حنظلة تستكفها وتسألها أن تخلى بينها وبين كندة، فاعتزلت بنو حنظلة، والتقت كندة وأسدٌ، فانهزمت كندة وقتل حجرٌ، وغنمت بنو أسدٍ أموالهم. وفي ذلك يقول عبيد بن الأبرص الأسدي:
هَلاَّ سَأَلْتَ جُمُوعَ كِنْ ... دَةَ يَوْمَ ولَّوْا هَارِبينَا
وكان قاتل حجرٍ علباء بن الحرث الأسدي، وأفلت امرؤ القيس يومئذٍ، وحلف لا يغسل رأسه ولا يشرب خمراً حتى يدرك ثأره ببني أسد، فأتى ذا جدنٍ الحميري فاستمده فأمده، وبلغ الخبر بني أسد فانتقلوا عن منازلهم، فنزلوا على قومٍ من بني كنانة بن خزيمة، والكنانيون لا يعلمون بمسير امرىء القيس إليهم، فطرقهم في جندٍ عظيم، فأغار على الكنانيين وقتل منهم، وهو يظن أنهم بنو أسدٍ ثم تبين أنهم ليسوا هم، فقال:
أَلاَ يا لَهْفَ نَفْسِي إِثْرَ قَوْمٍ ... هُمُ كانُوا الشِّفَاءَ فلم يُصَابُوا
وَقَاهُمْ جَدُّهُمْ ببَنِي أَبيِهمْ ... وبالأَشَقْينَ ما كانَ العِقَابُ
وأَفْلَتَهُنَّ عِلْباءٌ جَرِيضاً ... ولَوْ أَدْرَكْنَهُ صَفرَ الوطَابُ
ثم تبع بني أسدٍ فأدركهم وقتل فيهم قتلاً ذريعاً، وقال:
قُولاَ لِدُودَانَ عَبِيدَ العَصَا ... ما غَرَّكُمْ بالأَسَدِ الباسل
قد قَرَّتِ العَيْنَانِ من وائل ... ومن بني عَمْرو ومن كاهِلِ
نَطْعُنُهُمْ سُلْكَى ومَخْلُوجَةً ... كرَّكَ لَأْمَيْنِ على نَابِلِ
حَلَّتْ لَي الخَمْرُ وكْنتُ امْرَءًا ... عَنْ شُرْبِهَا في شُغُلٍ شاغِل
فاليَوْمَ أَشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ ... إِثْماً مِنَ اللهِ ولا واغِلِ
ثم إن المنذر بن ماءٍ السماء غزا كندة فأصاب منهم، وأسر اثنى عشر فتًى من ملوكهم، فأمر بهم فقتلوا بمكان بين الحيرة والكوفة، يقال له جفر الأملاك، وكان امرؤ القيس يومئذٍ معهم، فهرب حتى لجأ إلى سعد بن الضباب الإيادي، سيد إياد، فأجاره.
وكان ابن الكلبي يذكر أن أم سعدٍ كانت عند حجرٍ أبي امرىء القيس، فتزوجها الضباب فولدت سعداً على فراشه، واستشهد على ذلك قول امرىء القيس:
يُفَكِّهُنا سَعْدٌ ويُنْعِمُ بالَنا ... ويَغْدُو عَلَيْنا بالجِفانِ وبالجُزُرْ
ونَعْرِفُ فيه من أَبِيهِ شَمَائِلاً ... ومن خالِهِ ومن يزَيدَ ومن حُجُرْ
وهذا الشعر يدل على أن العرب كانت في الجاهلية ترى الولد للفراش.
ثم تحول إلى جبلى طيءٍ، فنزل على قوم، منهم عامر بن جوينٍ الطائي، فقالت له ابنته: إن الرجل مأكولٌ فكله، فأتى عامرٌ أجأً وصاح: ألا إن عامر بن جوين غدر، فلم يجبه الصدى، ثم صاح: ألا إن عامر بن جوينٍ وفى، فأجابه الصدى، فقال: ما أحسن هذه وما أقبح تلك! ثم خرج امرؤ القيس من عنده، فشيعه، فرأت ابنته ساقيه وهو مدبرٌ، وكانتا حمشتين، فقالت: ما رأيت كاليوم ساقى واف، فقال: هما ساقا غادرٍ أقبح.
ويقال إن صاحب هذا القول أبو حنبلٍ بن مرِّ مجير الجراد.
ويقال إن ابنته لما أشارت عليه بأخذ ماله دعا بجذعة من غنمه، فحلبها في قدح ثم شرب فروى، ثم استلقى وقال: والله لا أغدر ما أجزأتني جدعة، ثم قام فمشى، وكان أعور سناطاً، قصيراً حمش الساقين، فقالت ابنته: ما رأيت كاليوم ساقي وافٍ؟ فقال لابنته: يا بنية، هما ساقا غادرٍ شرٌّ، وقال:
لَقَدْ آلَيتُ أَغْدِرُ في جَدَاعٍ ... ولوْ مُنَّيِتُ أُمّاتِ الرِّبَاعِ
لأَنَّ الغَدْرَ في الأَقْوَامِ عارٌ ... وإِنَّ الحُرَّ يَجْزَأُ بالكُرَاعِ
ولم يزل ينتقل من قوم إلى قوم بجبلى طيىءٍ، ثم سمت به نفسه إلى ملك الروم، فأتى السموأل بن عادياء اليهودي، ملك تيماء، وهي مدينة بين الشأم والحجاز، فاستودعه مائة درعٍ وسلاحاً كثيرا، ثم سار ومعه عمرو بن قميئة، أحد بني قيس بن ثعلبة، وكان من خدم أبيه، فبكى ابن قميئة، وقال له: غررت بنا، فأنشأ امرؤ القيس يقول:
بكى صاحبِي لَمَّا رأَى الدَّرْبَ دُونَهُ ... وأَيْقَنَ أَنَّا لاحِقَانِ بقَيْصَرَا
فقُلْتُ لَهُ لا تَبْكِ عَيْنُكَ إِنَما ... نُحَاوِلُ مُلْكاً أَو نَمُوتَ فنُعْذَرَا
وإني أَذينٌ إِنْ رَجَعْتُ مُمَلكاً ... بِسَيْرٍ تَرَى منه الفُرَانقَ أَزْوَرَا
على ظَهْرِ عادِيٍّ تُحارِبُهُ القَطَا ... إذا سافَهُ العَوْدُ الدِّيَافِيُّ جَرْجَرَا
رد: كتاب الشعر و الشعراء...
وبلغ الحرث بن أبي شمرٍ الغساني، وهو الحرث الأكبر، ما خلف امرؤ القيس عند السمؤال، فبعث إليه رجلاً من أهل بيته، يقال له الحرث بن مالك، وأمره أن يأخذ منه سلاح امرىء القيس وودائعه، فلما انتهى إلى حصن السموأل أغلقه دونه، وكان للسموأل ابنٌ خارج الحصن يتصيد، فأخذه الحرث، وقال للسموأل: إن أنت دفعت إلي السلاح وإلا قتلته، فأبى أن يدفع إليه ذلك، وقال له اقتل: أسيرك فإني لا أدفع إليك شيئاً. فقتله. وضربت العرب المثل بالسموأل في الوفاء. وقد ذكره الأعشى في قصةٍ له قد ذكرتها في أخباره.
وصار امرؤ القيس إلى ملك الروم، فأكرمه ونادمه، واستمده فوعده ذلك، وفي هذه القصة يقول:
ونادَمْتُ قَيصَر في مُلْكه ... فأَوْجَهَني ورَكِبْتُ البَرِيدَا
إِذَا ما ازْدَحَمْنا على سِكَّةٍ ... سَبَقْتُ الفُرَانِقَ سَبْقاً بَعيداً
ثم بعث معه جيشاً فيهم أبناء ملوك الروم، فلما فصل قيل لقيصر: إنك أمددت بأبناء ملوك أرضك رجلاً من العرب، وهم أهل غدر، فإذا استمكن مما أراد وقهر بهم عدوه غزاك. فبعث إليه قيصر مع رجلٍ من العرب كان معه يقال له الطماح بحلة منسوجةٍ بالذهب مسمومةٍ، وكتب إليه: إني قد بعثت إليك بحلتي التي كنت ألبسها يوم الزينة، ليعرف فضل منزلتك عندي، فإذا وصلت إليك فالبسها على اليمن والبركة، واكتب إلي من كل منزل بخبرك. فلما وصلت إليه الحلة اشتد سروره بها، ولبسها، فأسرع فيه السم وتنفط، جلده والعرب تدعوه ذا القروح لذلك، ولقوله:
وبُدِّلْتُ قَرْحاً دامِياً بَعْدَ صِحَّةٍ ... فَيَالَكَ نُعْمَى قَدْ تَحَوْلَ أَبْؤُسَا
وقال الفرزدق:
وَهَبَ القَصَائِدَ لي النَّوَابغُ إِذْ مَضَوْاوأَبُو يَزِيدَ وذُو القُرُوحِ وجَرْوَلُ
قال أبو محمد: أبو يزيد هو المخبل السعدي، وذو القروح امرؤ القيس، وجرول الحطيئة.
ولما صار إلى مدينة بالروم تدعى أنقرة ثقل، فأقام بها حتى مات، وقبر هناك، وقال قبل موته:
رُبْ خُطْبَةٍ مُسحَنْفِرَهْ ... وطَعْنَةٍ مُثْعَنْجِرَهْ
وجَعْبَةٍ مُتَحَيِّرَهْ ... تُدْفَنْ غَداً بأَنْقِرَهْ
ورأى قبراً لامرأة من بنات ملوك الروم هلكت بأنقرة، فسأل عن صاحبه فخبر بخبرها، فقال:
أَجَارَتَنَا إِنَّ المَزَارَ قَرِيبُ ... وإِني مُقِيمٌ ما أَقَامَ عَسِيبُ
أَجَارَتَنَا إنَّا غَرِيبَانِ ههنا ... وكُلُ غَرِيبٍ للغَرِيبِ نَسِيبُ
وعسيب: جبل هناك.
ولما بلغ السموأل موت امرىء القيس دفع ما خلف عنده من السلاح وغيره إلى عصبته.
وكان امرو القيس مئناثاً لا ذكر له، وغيوراً شديد الغيرة، فإذا ولدت له بنتٌ وأدها، فلما رأى ذلك نساوه، غيبن أولادهن في أحياء العرب، وبلغه ذلك فتتبعهن حتى قتلهن.
وكان امرؤ القيس جميلاً وسيماً، ومع جماله وحسنه مفركاً، لا تريده النساء إذا جربنه. وقال لامرأةٍ تزوجها: ما يكره النساء مني؟ قالت: يكرهن منك أنك ثقيل الصدر، خفيف العجز، سريع الإراقة، بطىء الإفاقة، وسأل أخرى عن مثل ذلك فقالت: يكرهن منك أنك إذا عرقت فحت بريح كلب! فقال: أنت صدقتني، إن أهلي أرضعوني بلبن كلبة، ولم تصبر عليه إلا امرأةٌ من كندة يقال لها هند، وكان أكثر ولده منها، وكان يعد من عشاق العرب والزناة. وكان يشبب بنساءٍ: منهن فاطمة بنت العبيد بين ثعلبة بن عامر العذرية، وهي التي يقول لها:
أَفاطِمَ مَهْلاً بَعْضَ هذَا التَّدلُّل
ويقال لها:
لاَ وأَبِيكِ ابْنَةَ العَامِرِ ... يّ لا يَدَّعي القومُ أَني أَفِرّ
ومنهن أم الحرث الكلبية، وهي التي يقول فيها:
كَدَأَ بِكَ مِنْ أُمِّ الحُوَيْرِثِ قَبْلَها ... وجارَتِها أُمِّ الرَبَابِ بمَأْسَل
ومنهن عنيزة، وهي صاحبة يوم دارة جلجل.
وصار امرؤ القيس إلى ملك الروم، فأكرمه ونادمه، واستمده فوعده ذلك، وفي هذه القصة يقول:
ونادَمْتُ قَيصَر في مُلْكه ... فأَوْجَهَني ورَكِبْتُ البَرِيدَا
إِذَا ما ازْدَحَمْنا على سِكَّةٍ ... سَبَقْتُ الفُرَانِقَ سَبْقاً بَعيداً
ثم بعث معه جيشاً فيهم أبناء ملوك الروم، فلما فصل قيل لقيصر: إنك أمددت بأبناء ملوك أرضك رجلاً من العرب، وهم أهل غدر، فإذا استمكن مما أراد وقهر بهم عدوه غزاك. فبعث إليه قيصر مع رجلٍ من العرب كان معه يقال له الطماح بحلة منسوجةٍ بالذهب مسمومةٍ، وكتب إليه: إني قد بعثت إليك بحلتي التي كنت ألبسها يوم الزينة، ليعرف فضل منزلتك عندي، فإذا وصلت إليك فالبسها على اليمن والبركة، واكتب إلي من كل منزل بخبرك. فلما وصلت إليه الحلة اشتد سروره بها، ولبسها، فأسرع فيه السم وتنفط، جلده والعرب تدعوه ذا القروح لذلك، ولقوله:
وبُدِّلْتُ قَرْحاً دامِياً بَعْدَ صِحَّةٍ ... فَيَالَكَ نُعْمَى قَدْ تَحَوْلَ أَبْؤُسَا
وقال الفرزدق:
وَهَبَ القَصَائِدَ لي النَّوَابغُ إِذْ مَضَوْاوأَبُو يَزِيدَ وذُو القُرُوحِ وجَرْوَلُ
قال أبو محمد: أبو يزيد هو المخبل السعدي، وذو القروح امرؤ القيس، وجرول الحطيئة.
ولما صار إلى مدينة بالروم تدعى أنقرة ثقل، فأقام بها حتى مات، وقبر هناك، وقال قبل موته:
رُبْ خُطْبَةٍ مُسحَنْفِرَهْ ... وطَعْنَةٍ مُثْعَنْجِرَهْ
وجَعْبَةٍ مُتَحَيِّرَهْ ... تُدْفَنْ غَداً بأَنْقِرَهْ
ورأى قبراً لامرأة من بنات ملوك الروم هلكت بأنقرة، فسأل عن صاحبه فخبر بخبرها، فقال:
أَجَارَتَنَا إِنَّ المَزَارَ قَرِيبُ ... وإِني مُقِيمٌ ما أَقَامَ عَسِيبُ
أَجَارَتَنَا إنَّا غَرِيبَانِ ههنا ... وكُلُ غَرِيبٍ للغَرِيبِ نَسِيبُ
وعسيب: جبل هناك.
ولما بلغ السموأل موت امرىء القيس دفع ما خلف عنده من السلاح وغيره إلى عصبته.
وكان امرو القيس مئناثاً لا ذكر له، وغيوراً شديد الغيرة، فإذا ولدت له بنتٌ وأدها، فلما رأى ذلك نساوه، غيبن أولادهن في أحياء العرب، وبلغه ذلك فتتبعهن حتى قتلهن.
وكان امرؤ القيس جميلاً وسيماً، ومع جماله وحسنه مفركاً، لا تريده النساء إذا جربنه. وقال لامرأةٍ تزوجها: ما يكره النساء مني؟ قالت: يكرهن منك أنك ثقيل الصدر، خفيف العجز، سريع الإراقة، بطىء الإفاقة، وسأل أخرى عن مثل ذلك فقالت: يكرهن منك أنك إذا عرقت فحت بريح كلب! فقال: أنت صدقتني، إن أهلي أرضعوني بلبن كلبة، ولم تصبر عليه إلا امرأةٌ من كندة يقال لها هند، وكان أكثر ولده منها، وكان يعد من عشاق العرب والزناة. وكان يشبب بنساءٍ: منهن فاطمة بنت العبيد بين ثعلبة بن عامر العذرية، وهي التي يقول لها:
أَفاطِمَ مَهْلاً بَعْضَ هذَا التَّدلُّل
ويقال لها:
لاَ وأَبِيكِ ابْنَةَ العَامِرِ ... يّ لا يَدَّعي القومُ أَني أَفِرّ
ومنهن أم الحرث الكلبية، وهي التي يقول فيها:
كَدَأَ بِكَ مِنْ أُمِّ الحُوَيْرِثِ قَبْلَها ... وجارَتِها أُمِّ الرَبَابِ بمَأْسَل
ومنهن عنيزة، وهي صاحبة يوم دارة جلجل.
رد: كتاب الشعر و الشعراء...
قال محمد بن سلام: حدثني راويةٌ للفرزدق أنه لم ير رجلاً كان أروى لأحاديث امرىء القيس وأشعاره من الفرزدق، هو وأبو شفقل، لأن امرأ القيس كان صحب عمه شرحبيل قبل الكلاب، حتى قتل شرحبيل بن الحرث، وكان قاتله أخاه معدى كرب بن الحرث، وكان شرحبيل بن الحرث مسترضعاً في بني دارمٍ رهط الفرزدق، وكان امرؤ القيس رأى من أبيه جفوةٌ، فلحق بعمه، فأقام في بني دارمٍ حيناً، قال: قال الفرزدق: أصابنا بالبصرة مطرٌ جودٌ، فلما أصبحت ركبت بغلة لي وصرت إلى المربد، فإذا آثار دواب قد خرجت إلى ناحية البرية، فظننت أنهم قومٌ قد خرجوا إلى النزهة، وهم خلقاء أن يكون معهم سفرة. فاتبعت آثارهم حتى انتهيت إلى بغالٍ عليها رحائل موقوفة على غدير، فأسرعت إلى الغدير فإذا نسوةٌ مستنقعاتٌ في الماء، فقلت: لم أر كاليوم قط ولا يوم دارة جلجلٍ! وانصرفت مستحيياً، فنادينني: يا صاحب البغلة ارجع نسألك عن شيءٍ، فانصرفت إليهن، فقعدن إلى حلوقهن في الماء، ثم قلن: بالله لما أخبرتنا ما كان حديث يوم دارة جلجل؟ قال: حدثني جدي، وأنا يومئذ غلامٌ حافظٌ: أن امرأ القيس كان عاشقاً لابنة عم له يقال لها عنيزة، وأنه طلبها زماناً فلم يصل إليها، حتى كاي يوم الغدير، وهو يوم دارة جلجل. وذلك أن الحي احتملوا، فتقدم الرجال وتخلف النساء والخدم والثقل، فلما رأى ذلك امرؤ القيس تخلف بعد ما سار مع رجالة قومه غلوةً فكمن في غيابةٍ من الأرض حتى مر به النساء وفيهن عنيزة، فلما وردن الغدير قلن: لو نزلنا فاغتسلنا في هذا الغدير فذهب عنا بعض الكلال، فنزلن في الغدير ونحين العبيد، ثم تجردن فوقعن فيه، فأتاهن امرؤ القيس وهن غوافل، فأخذ ثيابهن فجمعها وقعد عليها، وقال: والله لا أعطى جاريةً منكن ثوبها ولو ظلت في الغدير يومها حتى يخرج متجردةً فتأخذ ثوبها! فأبين ذلك عليه، حتى تعالى النهار، وخشين أن يقصرن عن المنزل الذي يردنه، فخرجن جميعاً غير غنيزة، فناشدته الله أن يطرح إليها ثوبها، فأبى، فخرجت فنظر إليها مقبلةً ومدبرةً، وأقبلن عليه فقلن له: إنك قد عذبتنا وحبستنا وأجعتنا! قال: فإن نحرت لكن ناقتي تأكلن منها؟ قلن: نعم فخرط سيفه فعرقبها ونحرها ثم كشطها، وجمع الخدم حطباً كثيراً فأججن ناراً عظيمة، فجعل يقطع لهن من أطايبها ويلقيه على الجمر، ويأكلن ويأكل معهن، ويشرب من فضلة خمرٍ كانت معه ويغنيهن، وينبذ إلى العبيد من الكباب، فلما أرادوا الرحيل قالت إحداهن: أنا أحمل طنفسته، وقالت الأخرى: أنا أحمل رحله وأنساعه، فتقسمن متاع راحلته وزاده، وبقيت عنيزة لم يحملها شيئاً، فقال لها: يا ابنة الكرام! لا بد أن تحمليني معك فإني لا أطيق المشي، فحملته على غارب بعيرها، وكان يجنح إليه فيدخل رأسه في خدرها فيقبلها، فإذا امتنعت مال حدجها، فتقول: عقرت بعيري فانزل، ففي ذلك يقول:
ويَوْمَ عَقَرْتُ لِلْعَذَارَى مَطِيَّتي ... فَيَاعَجَباً مِنْ رَحْلِها المُتَحَمَّلِ
يظَلُّ العَذَارَى يَرْتَمِينَ بلَحْمِها ... وشَحْمٍ كهُدَّابِ الدِّمَقْسِ المُفَتَّل
ويَوْمَ دَخَلْتُ الخِدْرَ خِدْرَ عُنَيْزَةٍ ... فقالَتْ لَكَ الوَيْلاتْ إِنَّكَ مُرْجِلِى
تَقُولُ وقَدْ مال الغَبيطُ بنَا مَعاً ... عَقَرتَ بعيري يا امْرَأَ القيْسِ فانْزِل
فقُلْتُ لها سِيرِي وأَرْخِى زِمَامَهُ ... ولا تُبْعِدِينا من جَنَاكِ المُعَلَّلِ
وكان امرؤ القيس في زمان أنوشروان ملك العجم، لأني وجدت الباعث في طلب سلاحه الحرث بن أبي شمرٍ الغساني، وهو الحرث الأكبر، والحرث هو قاتل المنذر بن امرىء القيس الذي نصبه أنو شروان بالحيرة. ووجدت بين أول ولاية أنو شروان وبين مولد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين سنةً، كأنه ولد لثلاث سنين خلت من ولاية هرمز بن كسرى.
ومما يشهد لهذا أن عمرو بن المسبح الطائي وفد على النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة في وفود العرب، وهو ابن مائة وخمسين سنةً، وأسلم، وعمرو يومئذٍ أرمى العرب، وهو الذي ذكره امرؤ القيس فقال:
رُبَّ رامٍ من بَنِي ثُعَلٍ ... مُخْرِجٍ كَفَّيْهِ من سُتَرِهْ
وله يقول الآخر:
نَعَب الغَرَابُ ولَيْتَهُ لم يَنْعَبِ ... بالبَيْنِ مِنْ سَلْمَى وأُمِّ الحَوْشَب
لَيْتَ الغُرَابَ رَمَى حَمَاطَةَ قَلْبِه ... عمْروٌ بأَسْهُمَهِ الَّتي لم تُلْغَب
وقد ذكره النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " هو قائد الشعراء إلى النار " وفي خبرٍ آخر: " معه لواء الشعراء إلى النار " .
قال ابن الكلبي: أقبل قومٌ من اليمن يريدون النبي صلى الله عليه وسلم فضلوا ووقعوا على غير ماءٍ، فمكثوا ثلاثاً لا يقدرون على الماء، فجعل الرجل منهم يستذرى بفىء السمر والطلح، فبيناهم كذلك أقبل راكبٌ على بعير، فأنشد بعض القوم بيتين من شعر امرىء القيس، لما رأت البيتين فقال الراكب: من يقول هذا الشعر؟ قال: امرؤ القيس، قال: والله ما كذب، هذا ضارجٌ عندكم، وأشار لهم إليه، فأتوه فإذا ماء غدقٌ، وإذا عليه العرمض والظل يفيء عليه، فشربوا منه وارتووا، حتى بلغوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه، وقالوا: أحياناً بيتان من شعر امرىء القيس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " ذاك رجلٌ مذكور في الدنيا شريفٌ فيها، منسى في الآخرة خاملٌ فيها، يجيء يوم القيمة معه لواء الشعراء إلى النار " .
وذكره عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: سابق الشعراء خسف لهم عين الشعر.
قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: يقول من فضله: إنه أول من فتح الشعر واستوقف، وبكى في الدمن، ووصف ما فيها، ثم قال: دع ذا رغبةً عن المنسبة، فتبعوا أثره. وهو أول من شبه الخيل بالعصا واللقوة والسباع والظباء والطير، فتبعه الشعراء على تشبيهها بهذه الأوصاف.
قال ابن الكلبي: أول من بكى في الديار امرؤ القيس بن حارثة بن الحمام بن معاوية، وإياه عنى امرؤ القيس بقوله:
يا صاحِبَيَّ قِفَا النَّوَاعِجَ ساعَةً ... نَبْكى الدّيَارَ كما بَكَى ابنُ حُمَامِ
وقال أبو عبيدة: هو ابن خذام وأنشد:
عُوجَا على الطَّلَل المُحِيلِ لَعَلَّنَا ... نَبْكِي الدّيارَ كما بَكَى ابنُ خِذَامِ
قال: وهو القائل:
كَأَنِي غَدَاةَ البَيْنِ يَوْمَ تَحَمَّلُوا ... لَدَى سَمُرَاتِ الدّارِ ناقِفُ حَنْظَلل
أراد أنه بكى في الدار عند تحملهم، فكأنه ناقف حنظلٍ وناقف الحنظلة ينقفها بظفره، فإن صوتت علم أنها مدركةٌ فاجتناها، فعينه تدمع لحدة الحنظل وشدة رائحته. كما تدمع عيناً من يدوف الخردل، فشبه نفسه حين بكى بناقف الحنظل.
فمما أخذه الشعراء من شعر امرىء القيس: قال امرؤ القيس:
وُقُوفاً بها صَحْبِي عَلَىَّ مَطِيَّهُمْ ... يَقُولُونَ لا تَهْلِكْ أَسْى وتَجَمَّلِ
أخذه طرفة فقال:
وُقُوفاً بها صَحْبِي علىَّ مَطِيَّهُمْ ... يَقُولُونَ لا تَهْلِكْ أَسًى وتَجَلَّدِ
وقال امرؤ القيس يصف فرساً:
ويَخْطُو على صُمٍّ صِلاَبٍ كَأَنَّها ... حِجَارَةُ غَيْلِ وارِسَاتٌ بطُحْلُبِ
أخذه النابغة الجعدي فقال:
كأَنَّ حَوَامِيَهُ مُدْبِراً ... خُضِبْنَ وإِنْ كان لم يُخْضَبِ
حِجَارَةُ غَيْل برَضْرَاضَةٍ ... كُسِينَ طِلاَءً مِنَ الطُّحْلُبِ
وقال امرؤ القيس يصف الناقة:
كَأَنَّ الحَصَى مِنْ خَلْفِها وأَمامِها ... إِذا نَجَلَتْهُ رِجْلُها خَذْفُ أَعْسَر
أخذ الشماخ فقال:
لها مِنْسَمٌ مِثْلُ المَحَارَةِ خِفَةً ... كأَنَّ الحَصَى من خَلْفِهِ حَذْفُ أَعْسَرَا
وقال امرؤ القيس يصف فرساً:
كُمَيْتٍ يَزِلُّ الِلْبدُ عَنْ حالِ مَتْنِهِ ... كما زَلَّتِ الصَّفْوَاءُ بالمُتَنَزَّلِ
أخذه أوس بن حجرٍ فقال:
يزِلُّ قُتُودُ الرَّحْلِ عن دَأَيَاتِهَا ... كما زَلَّ عن عَظْم الشَّجِيحِ المَحَارِفُ
وقال امرؤ القيس يصف فرساً:
سَلِيمِ الشَّظَا عَبْلِ الشَّوَى شَنِجِ النَّسَا ... له حَجَباتٌ مُشْرِفَاتٌ على الفالِ
فأخذه كعب بن زهير، فقال:
سَلِيم الشظا عَبل الشَّوَى شَنِج النَّسَا ... كأَنَّ مَكانَ الرِّدْف من ظَهْرِه قَصْرُ
وأخذ النجاشي فقال:
أَمِينُ الشظا عارِي الشَوَى شَنِجُ النَّسَا ... أَقَبُّ الحَشَا مُسْتَذْرِعُ النَّدَفَانِ
ويَوْمَ عَقَرْتُ لِلْعَذَارَى مَطِيَّتي ... فَيَاعَجَباً مِنْ رَحْلِها المُتَحَمَّلِ
يظَلُّ العَذَارَى يَرْتَمِينَ بلَحْمِها ... وشَحْمٍ كهُدَّابِ الدِّمَقْسِ المُفَتَّل
ويَوْمَ دَخَلْتُ الخِدْرَ خِدْرَ عُنَيْزَةٍ ... فقالَتْ لَكَ الوَيْلاتْ إِنَّكَ مُرْجِلِى
تَقُولُ وقَدْ مال الغَبيطُ بنَا مَعاً ... عَقَرتَ بعيري يا امْرَأَ القيْسِ فانْزِل
فقُلْتُ لها سِيرِي وأَرْخِى زِمَامَهُ ... ولا تُبْعِدِينا من جَنَاكِ المُعَلَّلِ
وكان امرؤ القيس في زمان أنوشروان ملك العجم، لأني وجدت الباعث في طلب سلاحه الحرث بن أبي شمرٍ الغساني، وهو الحرث الأكبر، والحرث هو قاتل المنذر بن امرىء القيس الذي نصبه أنو شروان بالحيرة. ووجدت بين أول ولاية أنو شروان وبين مولد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين سنةً، كأنه ولد لثلاث سنين خلت من ولاية هرمز بن كسرى.
ومما يشهد لهذا أن عمرو بن المسبح الطائي وفد على النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة في وفود العرب، وهو ابن مائة وخمسين سنةً، وأسلم، وعمرو يومئذٍ أرمى العرب، وهو الذي ذكره امرؤ القيس فقال:
رُبَّ رامٍ من بَنِي ثُعَلٍ ... مُخْرِجٍ كَفَّيْهِ من سُتَرِهْ
وله يقول الآخر:
نَعَب الغَرَابُ ولَيْتَهُ لم يَنْعَبِ ... بالبَيْنِ مِنْ سَلْمَى وأُمِّ الحَوْشَب
لَيْتَ الغُرَابَ رَمَى حَمَاطَةَ قَلْبِه ... عمْروٌ بأَسْهُمَهِ الَّتي لم تُلْغَب
وقد ذكره النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " هو قائد الشعراء إلى النار " وفي خبرٍ آخر: " معه لواء الشعراء إلى النار " .
قال ابن الكلبي: أقبل قومٌ من اليمن يريدون النبي صلى الله عليه وسلم فضلوا ووقعوا على غير ماءٍ، فمكثوا ثلاثاً لا يقدرون على الماء، فجعل الرجل منهم يستذرى بفىء السمر والطلح، فبيناهم كذلك أقبل راكبٌ على بعير، فأنشد بعض القوم بيتين من شعر امرىء القيس، لما رأت البيتين فقال الراكب: من يقول هذا الشعر؟ قال: امرؤ القيس، قال: والله ما كذب، هذا ضارجٌ عندكم، وأشار لهم إليه، فأتوه فإذا ماء غدقٌ، وإذا عليه العرمض والظل يفيء عليه، فشربوا منه وارتووا، حتى بلغوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه، وقالوا: أحياناً بيتان من شعر امرىء القيس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " ذاك رجلٌ مذكور في الدنيا شريفٌ فيها، منسى في الآخرة خاملٌ فيها، يجيء يوم القيمة معه لواء الشعراء إلى النار " .
وذكره عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: سابق الشعراء خسف لهم عين الشعر.
قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: يقول من فضله: إنه أول من فتح الشعر واستوقف، وبكى في الدمن، ووصف ما فيها، ثم قال: دع ذا رغبةً عن المنسبة، فتبعوا أثره. وهو أول من شبه الخيل بالعصا واللقوة والسباع والظباء والطير، فتبعه الشعراء على تشبيهها بهذه الأوصاف.
قال ابن الكلبي: أول من بكى في الديار امرؤ القيس بن حارثة بن الحمام بن معاوية، وإياه عنى امرؤ القيس بقوله:
يا صاحِبَيَّ قِفَا النَّوَاعِجَ ساعَةً ... نَبْكى الدّيَارَ كما بَكَى ابنُ حُمَامِ
وقال أبو عبيدة: هو ابن خذام وأنشد:
عُوجَا على الطَّلَل المُحِيلِ لَعَلَّنَا ... نَبْكِي الدّيارَ كما بَكَى ابنُ خِذَامِ
قال: وهو القائل:
كَأَنِي غَدَاةَ البَيْنِ يَوْمَ تَحَمَّلُوا ... لَدَى سَمُرَاتِ الدّارِ ناقِفُ حَنْظَلل
أراد أنه بكى في الدار عند تحملهم، فكأنه ناقف حنظلٍ وناقف الحنظلة ينقفها بظفره، فإن صوتت علم أنها مدركةٌ فاجتناها، فعينه تدمع لحدة الحنظل وشدة رائحته. كما تدمع عيناً من يدوف الخردل، فشبه نفسه حين بكى بناقف الحنظل.
فمما أخذه الشعراء من شعر امرىء القيس: قال امرؤ القيس:
وُقُوفاً بها صَحْبِي عَلَىَّ مَطِيَّهُمْ ... يَقُولُونَ لا تَهْلِكْ أَسْى وتَجَمَّلِ
أخذه طرفة فقال:
وُقُوفاً بها صَحْبِي علىَّ مَطِيَّهُمْ ... يَقُولُونَ لا تَهْلِكْ أَسًى وتَجَلَّدِ
وقال امرؤ القيس يصف فرساً:
ويَخْطُو على صُمٍّ صِلاَبٍ كَأَنَّها ... حِجَارَةُ غَيْلِ وارِسَاتٌ بطُحْلُبِ
أخذه النابغة الجعدي فقال:
كأَنَّ حَوَامِيَهُ مُدْبِراً ... خُضِبْنَ وإِنْ كان لم يُخْضَبِ
حِجَارَةُ غَيْل برَضْرَاضَةٍ ... كُسِينَ طِلاَءً مِنَ الطُّحْلُبِ
وقال امرؤ القيس يصف الناقة:
كَأَنَّ الحَصَى مِنْ خَلْفِها وأَمامِها ... إِذا نَجَلَتْهُ رِجْلُها خَذْفُ أَعْسَر
أخذ الشماخ فقال:
لها مِنْسَمٌ مِثْلُ المَحَارَةِ خِفَةً ... كأَنَّ الحَصَى من خَلْفِهِ حَذْفُ أَعْسَرَا
وقال امرؤ القيس يصف فرساً:
كُمَيْتٍ يَزِلُّ الِلْبدُ عَنْ حالِ مَتْنِهِ ... كما زَلَّتِ الصَّفْوَاءُ بالمُتَنَزَّلِ
أخذه أوس بن حجرٍ فقال:
يزِلُّ قُتُودُ الرَّحْلِ عن دَأَيَاتِهَا ... كما زَلَّ عن عَظْم الشَّجِيحِ المَحَارِفُ
وقال امرؤ القيس يصف فرساً:
سَلِيمِ الشَّظَا عَبْلِ الشَّوَى شَنِجِ النَّسَا ... له حَجَباتٌ مُشْرِفَاتٌ على الفالِ
فأخذه كعب بن زهير، فقال:
سَلِيم الشظا عَبل الشَّوَى شَنِج النَّسَا ... كأَنَّ مَكانَ الرِّدْف من ظَهْرِه قَصْرُ
وأخذ النجاشي فقال:
أَمِينُ الشظا عارِي الشَوَى شَنِجُ النَّسَا ... أَقَبُّ الحَشَا مُسْتَذْرِعُ النَّدَفَانِ
رد: كتاب الشعر و الشعراء...
وقال امرؤ القيس:
فَلأْياً بلَأْيٍ مّا حَمَلْنا غُلَامَنا ... على ظَهْرِ مَحْبُوكِ السَّرَاة مُحَنَّبِ
فأخذه زهيرٌ فقال:
فَلَأْياً بلأْيٍ مَا حَمَلْنا غُلاَمَنا ... على ظَهْرِ مَحَبْوكٍ ظِمَاءٍ مَفَاصِلُهْ
وقال امرؤ القيس:
وعَنْسٍ كأَلْوَاحِ الإرانِ نَسَأْتُها ... على لاحِبٍ كالبُرْدِ ذِي الحِبَرَاتِ
أخذه طرفة فقال:
أَمُونٍ كأَلْوَاحِ الإرَانِ نَسَأْتُها ... على لاحِبٍ كأَنَّه ظَهْرُ بُرْجُدِ
وقال امرؤ القيس يصف امرأةً:
نَظَرَتْ إِلَيْكَ بعَيْنِ جازِئَةٍ ... حَوْراءَ حانِيَةٍ على طِفْلِ
أخذه المسيب فقال:
نَظَرَتْ إِليْكَ بعَيْنِ جازِئَةٍ ... في ظِلِّ بارِدَةٍ منَ السِّدْر
وقال امرؤ القيس يصف الفرس:
يَجُمُّ على الساقَيْنِ بَعْدَ كَلاَلِهِ ... جُمُومَ عُيُونِ الحِسْى بَعْدَ المْخِيضِ
أخذه زيد الخيل فقال:
يَجُمُّ على الساقَيْنِ بَعْدَ كَلاَلِهِ ... كما جَمَّ جَفْرٌ بالكُلاَبِ نَقِيبُ
قال أبو عبيدة: هو أول من قيد الأوابد، يعني في قوله في وصف الفرس قيد الأوابد فتبعه الناس على ذلك.
وقال غيره: هو أول من شبه الثغر في لونه بشوك السيال فقال:
مَنابتُهُ مثْلُ السُّدُوِس ولَوْنُه ... كَشَوْكِ السَّيَالِ وَهْوَ عَذْبٌ يَفِيصُ
فاتبعه الناس. وأول من قال فعادى عداءً فاتبعه الناس. وأول من شبه الحمار بمقلاءٍ الوليد وهو عود القلة. وبكر الأندري والكر: الحبل. وشبه الطلل بوحي الزبور في العسيب والفرس بتيس الحلب.
ومما انفرد به قوله في العقاب:
كأَنَّ قُلُوبَ الطَّيْرِ رَطْباً ويابِساً ... لَدَى وَكْرها العُنَّابُ والحَشَفُ البَالِي
شبه شيئين بشيئين في بيت واحدٍ، وأحسن التشبيه.
وقوله:
له أَيْطَلاَ ظَبْى وساقَا نَعَامَةٍ ... وإرْخاءُ سِرْحان وتَقْرِيبُ تَنْقُلِ
وقد تبعه الناس في هذا الوصف وأخذوه، ولم يجتمع لهم ما اجتمع له في بيت واحد، وكان أشدهم إخفاءٍ لسرقةٍ القائل وهو المعذل:
له قُصْرَيَا رِئْمٍ وشدْقَا حَمَامَةٍ ... وسالفَتَا هَيْقٍ من الرُّبْدِ أَرْبَدَا
ويستجاد من قوله:
فإِنَّكَ لَمْ يَفْخَرْ عليكَ كفاخِرٍ ... ضَعِيفٍ ولم يغْلِبكَ مِثْلُ مُغَلَّبِ
ويعاب من قوله:
فمثْلِكِ حُبْلَى قَدْ طرَقْتُ ومُرْضِعٍ ... فأَلْهَيْتُها عن ذي تَمَائِمَ مُحْول
إِذَا ما بَكَى مِنْ خَلْفِها انحرَفَتْ له ... بِشِقٍّ وتَحْتِي شِقُّها لم يُحَوَّل
قال أبو محمد: وليس هذا عندي عيباً، لأن المرضع والحبلى لا تريدان الرجال ولا ترغبان في النكاح، فإذا أصباهما وألهاهما كان لغيرهما أشد إصباءً وإلهاءً.
ويعاب من قوله:
أَغَرَّكِ مِنَّي أنَّ حُبَّكِ قاتِلِي ... وأَنَّكِ مَهْمَا تَأْمِري القَلْبَ يَفْعَلِ
وقالوا: إذا كان هذا لا يغر فما الذي يغر؟ إنما هو كأسير قال لآسره: أغرك مني أني في يديك وفي إسارك وأنك ملكت سفك دمي! قال أبو محمد: ولا أرى هذا عيباً، ولا المثل المضروب له شكلاً، لأنه لم يرد بقوله حبك قاتلي القتل بعينه، وإنما أراد به: أنه قد برح بي فكأنه قد قتلني، وهذا كما يقول القائل: قتلتني المرأة بدلها وبعينها، وقتلني فلانٌ بكلامه فأراد: أغرك مني أن حبك قد برح بي وأنك مهما تأمري قلبك به من هجري والسلو عني يطعك، أي فلا تغتري بهذا، فإني أملك نفسي وأصبرها عنك وأصرف هواي.
ويعاب عليه تصريحه بالزنا والدبيب إلى حرم الناس، والشعراء تتوقى ذلك في الشعر وإن فعلته قال:
سَمَوْتُ إِليها بَعْدَ ما نامَ أَهْلُها ... سُمُوَّ حَبَابِ الماءِ حالاً على حالِ
فقالت سَبَاكَ الله إِنَّكَ فاضحِي ... أَلَسْتَ تَرَى السُّمَّارَ والناسَ أَحْوالِي
فقُلْتُ يَمِينَ اللهِ أَبْرَحُ قاعِداً ... ولَوْ قَطَعوا رَأَسِي لَدَيْكِ وأَوْصَالِي
حَلَفْتُ لها باللهِ حَلْفَةَ فاجِرٍ ... لَنامُوا وما إِنْ من حَدِيثٍ ولا صالِي
فلمَّا تَنَازَعنْا الحَديِثَ وأَسْمَحَتْ ... هَصَرْتُ بغُضْنٍ ذي شَمَارِيخَ مَيَّالِ
وصِرْنا إلى الحُسَنى ورَقَّ كَلاَمُنا ... ورُضْتُ فذَلَّتْ صَعْبَةً أيَّ إذْلال
فأَصْبَحْتُ مَعْشُوقاً وأَصْبَحَ بَعْلُهاعَلَيْهِ القَتَامُ سَيِّىءَ الظَّنِّ والبالِ
--------------------------------------------------
فَلأْياً بلَأْيٍ مّا حَمَلْنا غُلَامَنا ... على ظَهْرِ مَحْبُوكِ السَّرَاة مُحَنَّبِ
فأخذه زهيرٌ فقال:
فَلَأْياً بلأْيٍ مَا حَمَلْنا غُلاَمَنا ... على ظَهْرِ مَحَبْوكٍ ظِمَاءٍ مَفَاصِلُهْ
وقال امرؤ القيس:
وعَنْسٍ كأَلْوَاحِ الإرانِ نَسَأْتُها ... على لاحِبٍ كالبُرْدِ ذِي الحِبَرَاتِ
أخذه طرفة فقال:
أَمُونٍ كأَلْوَاحِ الإرَانِ نَسَأْتُها ... على لاحِبٍ كأَنَّه ظَهْرُ بُرْجُدِ
وقال امرؤ القيس يصف امرأةً:
نَظَرَتْ إِلَيْكَ بعَيْنِ جازِئَةٍ ... حَوْراءَ حانِيَةٍ على طِفْلِ
أخذه المسيب فقال:
نَظَرَتْ إِليْكَ بعَيْنِ جازِئَةٍ ... في ظِلِّ بارِدَةٍ منَ السِّدْر
وقال امرؤ القيس يصف الفرس:
يَجُمُّ على الساقَيْنِ بَعْدَ كَلاَلِهِ ... جُمُومَ عُيُونِ الحِسْى بَعْدَ المْخِيضِ
أخذه زيد الخيل فقال:
يَجُمُّ على الساقَيْنِ بَعْدَ كَلاَلِهِ ... كما جَمَّ جَفْرٌ بالكُلاَبِ نَقِيبُ
قال أبو عبيدة: هو أول من قيد الأوابد، يعني في قوله في وصف الفرس قيد الأوابد فتبعه الناس على ذلك.
وقال غيره: هو أول من شبه الثغر في لونه بشوك السيال فقال:
مَنابتُهُ مثْلُ السُّدُوِس ولَوْنُه ... كَشَوْكِ السَّيَالِ وَهْوَ عَذْبٌ يَفِيصُ
فاتبعه الناس. وأول من قال فعادى عداءً فاتبعه الناس. وأول من شبه الحمار بمقلاءٍ الوليد وهو عود القلة. وبكر الأندري والكر: الحبل. وشبه الطلل بوحي الزبور في العسيب والفرس بتيس الحلب.
ومما انفرد به قوله في العقاب:
كأَنَّ قُلُوبَ الطَّيْرِ رَطْباً ويابِساً ... لَدَى وَكْرها العُنَّابُ والحَشَفُ البَالِي
شبه شيئين بشيئين في بيت واحدٍ، وأحسن التشبيه.
وقوله:
له أَيْطَلاَ ظَبْى وساقَا نَعَامَةٍ ... وإرْخاءُ سِرْحان وتَقْرِيبُ تَنْقُلِ
وقد تبعه الناس في هذا الوصف وأخذوه، ولم يجتمع لهم ما اجتمع له في بيت واحد، وكان أشدهم إخفاءٍ لسرقةٍ القائل وهو المعذل:
له قُصْرَيَا رِئْمٍ وشدْقَا حَمَامَةٍ ... وسالفَتَا هَيْقٍ من الرُّبْدِ أَرْبَدَا
ويستجاد من قوله:
فإِنَّكَ لَمْ يَفْخَرْ عليكَ كفاخِرٍ ... ضَعِيفٍ ولم يغْلِبكَ مِثْلُ مُغَلَّبِ
ويعاب من قوله:
فمثْلِكِ حُبْلَى قَدْ طرَقْتُ ومُرْضِعٍ ... فأَلْهَيْتُها عن ذي تَمَائِمَ مُحْول
إِذَا ما بَكَى مِنْ خَلْفِها انحرَفَتْ له ... بِشِقٍّ وتَحْتِي شِقُّها لم يُحَوَّل
قال أبو محمد: وليس هذا عندي عيباً، لأن المرضع والحبلى لا تريدان الرجال ولا ترغبان في النكاح، فإذا أصباهما وألهاهما كان لغيرهما أشد إصباءً وإلهاءً.
ويعاب من قوله:
أَغَرَّكِ مِنَّي أنَّ حُبَّكِ قاتِلِي ... وأَنَّكِ مَهْمَا تَأْمِري القَلْبَ يَفْعَلِ
وقالوا: إذا كان هذا لا يغر فما الذي يغر؟ إنما هو كأسير قال لآسره: أغرك مني أني في يديك وفي إسارك وأنك ملكت سفك دمي! قال أبو محمد: ولا أرى هذا عيباً، ولا المثل المضروب له شكلاً، لأنه لم يرد بقوله حبك قاتلي القتل بعينه، وإنما أراد به: أنه قد برح بي فكأنه قد قتلني، وهذا كما يقول القائل: قتلتني المرأة بدلها وبعينها، وقتلني فلانٌ بكلامه فأراد: أغرك مني أن حبك قد برح بي وأنك مهما تأمري قلبك به من هجري والسلو عني يطعك، أي فلا تغتري بهذا، فإني أملك نفسي وأصبرها عنك وأصرف هواي.
ويعاب عليه تصريحه بالزنا والدبيب إلى حرم الناس، والشعراء تتوقى ذلك في الشعر وإن فعلته قال:
سَمَوْتُ إِليها بَعْدَ ما نامَ أَهْلُها ... سُمُوَّ حَبَابِ الماءِ حالاً على حالِ
فقالت سَبَاكَ الله إِنَّكَ فاضحِي ... أَلَسْتَ تَرَى السُّمَّارَ والناسَ أَحْوالِي
فقُلْتُ يَمِينَ اللهِ أَبْرَحُ قاعِداً ... ولَوْ قَطَعوا رَأَسِي لَدَيْكِ وأَوْصَالِي
حَلَفْتُ لها باللهِ حَلْفَةَ فاجِرٍ ... لَنامُوا وما إِنْ من حَدِيثٍ ولا صالِي
فلمَّا تَنَازَعنْا الحَديِثَ وأَسْمَحَتْ ... هَصَرْتُ بغُضْنٍ ذي شَمَارِيخَ مَيَّالِ
وصِرْنا إلى الحُسَنى ورَقَّ كَلاَمُنا ... ورُضْتُ فذَلَّتْ صَعْبَةً أيَّ إذْلال
فأَصْبَحْتُ مَعْشُوقاً وأَصْبَحَ بَعْلُهاعَلَيْهِ القَتَامُ سَيِّىءَ الظَّنِّ والبالِ
--------------------------------------------------
رد: كتاب الشعر و الشعراء...
زهير بن أبي سلمى
هو زهير بن ربيعة بن قرط، والناس ينسبونه إلى مزينة، وإنما نسبه في غطفان، وليس لهم بيت شعرٍ ينتمون فيه إلى مزينة إلا بيت كعب بن زهير، وهو قوله:
هُمُ الأَصْل مِنَّى حَيْثُ كُنْتُ وإِنَّني ... من المُزَنِيينَ المُصَفَّيّنَ بالكَرَمْ
ويقال إنه لم يتصل الشعر في ولد أحدٍ من الفحول في الجاهلية ما اتصل في ولد زهير، وفي الإسلام ما اتصل في ولد جرير.
وكان زهير راوية أوس بن حجر.
ويروى عن عمر بن الخطاب أنه قال: أنشدوني لأشعر شعرائكم، قيل: ومن هو؟ قال: زهير، قيل: وبم صار كذلك؟ قال: كان لا يعاظل بين القول، ولا يتبع حوشي الكلام، ولا يمدح الرجل إلا بما هو فيه، وهو القائل:
إِذَا ابْتَدَرَتْ قَيْسُ بنُ عَيْلاَنَ غايَةًمِنَ المَجْدِ مَنْ يَسْبِقْ إِلَيْها يُسَوَّدِ
سَبَقْتَ إِلَيْها كُلَّ طَلْقٍ مُبَرزٍ ... سَبُوقٍ إلى الغاياتِ غَيْرِ مُخَلدِ
ويروى غير مبلد والمخلد في هذا الموضع: المبطى.
فلَوْ كان حَمْدٌ يُخْلِدُ الناسَ لم تَمُتْ ... ولكِنَّ حَمْدَ المَرْءٍ لَيْسَ بمُخْلدِ
وكان قدامة بن موسى عالماً بالشعر، وكان يقدم زهيراً ويستجيد قوله:
قَدْ جَعَلَ المُبْتَغُونَ الخَيْرَ في هَرِمٍ ... والسَّائِلُونَ إلى أَبْوَابِهِ طُرُقَا
مَنْ يَلْقَ يَوْماً على عِلاَّتِهِ هَرِماً ... يَلْق السَّمَاحَةَ فيهِ والنَّدَى خُلُقَا
قال عكرمة بن جريرٍ: قلت لأبي: من أشعر الناس؟ قال: أجاهليةً أم إسلاميةً؟ قلت: جاهليةً؟ قال: زهير، قلت: فالإسلام؟ قال: الفرزدق، قلت: فالأخطل؟ قال: الأخطل يجيد نعت الملوك ويصيب صفة الخمر، قلت له: فأنت؟ قال أنا نحرت الشعر نحراً.
قال عبد الملك لقومٍ من الشعراء: أي بيت أمدح؟ فاتفقوا على بيت زهيرٍ:
تَرَاهُ إذَا ما جِئْتَهُ مُتَهَلَّلاً ... كأَنَّكَ تُعْطِيهِ الِّذِي أَنْتَ سائِلُهْ
قيل لخلف الأحمر: زهيرٌ أشعر أم ابنه كعب؟ قال: لولا أبياتٌ لزهيرٍ أكبرها الناس لقلت إن كعباً أشعر منه، يريد قوله:
لِمَنِ الديارُ بقُنَّةِ الِحَجْرِ ... أَقوَيْنَ من حِجَجٍ ومن دَهْرِ
ولَأَنْتَ أَشْجَعُ من أُسَامَةَ إِذْ ... دُعِىَ النزَالُ ولُجَّ في الذُّعْرِ
ولَأَنْتَ تَفْرِي ما خَلَقْتَ وبَعْ ... ضُ القَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لا يَفْرِي
لَوْ كُنْتَ من شيءٍ سِوَى بَشَرٍ ... كُنْتَ المُنَوِّرَ لَيْلَةَ البَدْرِ
وكان زهير يتأله ويتعفف في شعره، ويدل شعره على إيمانه بالبعث وذلك قوله:
يُؤَخَّرْ فيُوَدَعْ في كِتاب فيُدَّخَرْ ... لِيَوْمِ الحِسابِ أَو يُعَجَّلْ فيُنْقَم
وشبه زهيرٌ امرأةً في الشعر بثلاثة أوصافٍ في بيت واحد فقال:
تَنَازَعَتِ المَهَا شَبَهاً ودُرَّ البُ ... حُورِ وشاكَهَتْ فيها الظِّبَاءُ
ثم قال ففسر:
فأَمَّا ما فُوَيْقَ العِقْدِ منها ... فمِنْ أَدْماءَ مَرْتَعُهَا الخَلاَءُ
وأَمَّا المُقْلَتانِ فمن مَهَاةِ ... وللدُّرِّ المَلاَحَةُ والصَّفاءُ
وقال بعض الرواة: لو أن زهيراً نظر في رساله عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري، ما زاد على ما قال:
فإِنَّ الحَقَّ مَقْطَعُهُ ثَلاَثٌ ... يَمينٌ أَو نِفَارٌ أَو جِلاَءُ
يعني يميناً أو منافرةً إلى حاكم يقطع بالبينات أو جلاءً، وهو بيان وبرهانٌ يجلو به الحق وتتضح الدعوى.
ومما يتمثل به من شعره:
وهَلْ يُنْبِتُ الخَطِّىَّ إلاَّ وَشِيجُهُ ... وتُغْرَسُ إلاَّ في مَعَادِنِها النَّخْلُ
ويستحسن قوله:
يَطْعَنُهُمْ ما ارْتَمَوْا حَتَّى إذا اطَّعَنُواضارَبَ حَتَّى إذا ما ضارَبُوا اعْتَنَقَا
ويستحسن أيضاً قوله:
هُوَ الجَوَادُ الَّذِي يُعطِيكَ نَائِلَهُ ... عَفْواً ويُظْلَمُ أَحْيَاناً فَيَنْظَلِمُ
قد سبق زهيرٌ إلى هذا المعنى، لا ينازعه فيه أحدٌ غير كثير، فإنه قال يمدح عبد العزيز بن مروان:
رَأَيْتُ ابنَ لَيْلَى يَعتَرِي صُلْبَ مالِهِ ... مَسَائِلُ شَتَّى من غَنِىٍّ ومُصْرم
مَسَائِلُ إنْ تُوجَدْ لديهِ تَجُدْ بها ... يَدَاهُ وإنْ يُظْلَمْ بها يَتَظَلَّمِ
المصرم: القليل المال.
هو زهير بن أبي سلمى، واسم أبي سلمى ربيعة بن رياحٍ المزني، من مزينة مضر، وكان زهيرٌ جاهلياً لم يدرك الإسلام، وأدركه ابناه كعبٌ وبجيرٌ، وأتى بجيرٌ النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم فكتب إليه كعب:
أَلاَ أَبْلِغَا عَنَّى بُجَيْراً رسَالَةً ... فهل لَّكَ فيما قُلْتَ بالخَيْفِ هَل لَّكَا
سُقِيتَ بكأْسٍ عِنْدَ آلِ مُحَمَّد ... فأَنْهَلَكَ المَأْمُونُ منها وعَلَّكَا
فخالَفْتَ أَسْبَابَ الهُدَى وتَبعْتَهُ ... على أَيِّ شَيْءٍ ويْبَ غَيْرِكَ دَلَّكَا
فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم شعره هذا، فتوعده ونذر دمه، فكتب بجير إلى كعبٍ يخبره بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل رجلا ممن كان يهجوه، وأنه لم يبق من الشعراء الذين كانوا يؤذونه إلا ابن الزبعري السهمي وهبيرة بن أبي وهبٍ المخزومي، وقد هربا منه، فإن كانت لك في نفسك حاجةٌ فاقدم عليه، فانه لا يقتل أحداً أتاه تائباً، وإن أنت لم تفعل فانج بنفسك. فلما ورد عليه الكتاب ضاقت عليه الأرض برحبها، وأرجف به من كان بحضرته من عدوه، فقال قصيدته التي أولها:
بانَتْ سُعادُ فقَلْبى اليَوْمَ مَتْبُولُ
وفيها قال:
نُبّئْتُ أَنَّ رَسُولَ الله أَوْعَدَني ... والعَفْوُ عنْدَ رَسُولِ الله مَأْمُولُ
ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع يده في يده وأنشده شعره، فقبل توبته وعفا عنه، وكساه برداً، فاشتراه منه معاوية بعشرين ألف درهم، فهو عند الخلفاء إلى اليوم.
وكان لكعب ابنٌ يقال له عقبة بن كعب، شاعر، ولقبه المضرب، وذلك أنه شبب بامرأة من بني أسد فقال:
ولا عَيْبَ فيها غَيْرَ أَنَّك واجدٌ ... مَلاقِيهَا قد دُيِّثَتْ برُكُوبِ
فضربه أخوها مائة ضربة بالسيف، فلم يمت، وأخذ الدية، فسمى المضرب وولد لعقبة العوامُ، وهو شاعر.
فهولاء خمسة شعراء في نسق: العوام بن عقبة بن كعب بن زهير بن أبي سلمى، وكان أبو سلمى أيضاً شاعراً. وهو القائل في خاله أسد المري، وابنه كعب بن أسعد، وكان حمل أمه وفارقهما:
لَتُصْرَفَنْ إِبلٌ مُحَبَّبَةٌ ... من عِنْد أَسْعَدَ وابْنِه كَعْب
اَلْآكِلينَ صَريحَ قَوْمِهَمَا ... أَكْلَ الحُبَارَى بُرْعُمَ الرُّطْبِ
وقال عمر لابن عباس: أنشدني لشاعر الشعراء الذي لم يعاظل بين القوافي، ولم يتبع وحشي الكلام، قال: ومن هو يا أمير المؤمنين؟ قال: زهير. فلم يزل ينشده إلى أن برق الصبح.
وكان زهيرٌ أستاذ الحطيئة. وسئل عنه الحطيئة فقال: ما رأيت مثله في تكفيه على أكناف القوافي، وأخذه بأعنتها حيث شاء، من اختلاف معانيها، امتداحا وذما. قيل له: ثم من؟ قال: ما أدرى، إلا أن تراني مسلنطحاً، واضعاً إحدى رجلي على الأخرى رافعاً عقيرتي أعوى في أثر القوافي.
قال أبو عبيدة: يقول من فضل زهيراً على جميع الشعراء: إنه أمدح القوم وأشدهم أسر شعرٍ. قال: وسمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: الفرزدق يشبه بزهير وكان الأصمعي يقول: زهيرُ والحطيئة وأشباههما عبيد الشعر، لأنهم نقحوه ولم يذهبوا به مذهب المطبوعين.
قال وكان زهير يسمى كبر قصائده الحوليات.
وكان جيد شعره في هرم بن سنانٍ المري. وقال عمر رضي الله عنه لبعض ولد هرمٍ: أنشدني بعض ما قال فيكم زهيرٌ، فأنشده، فقال: لقد كان يقول فيكم فيحسن، فقال: يا أمير المؤمنين إنا كنا نعطيه فنجزل! فقال عمر رضي الله عنه: ذهب ما أعطيتموه وبقي ما أعطاكم.
ومما سبق إليه زهيرٌ فأخذ منه قوله يمدح هرماً:
هُوَ الجَوَادُ الَّذِي يُعطِيكَ نَائِلَهُ ... عَفْواً ويُظْلَمُ أَحْيَاناً فَيَظَلِمُ
أي يسأل ما لا يقدر عليه فيتحمله، أخذه كثيرٌ، فقال:
رَأَيْتُ ابنَ لَيْلَى يَعتَرِي صُلْبَ مالِهِ ... مَسَائِلُ شَتَّى من غَنِىٍّ ومُعْدِمِ
مسائِلُ إنْ تُوجَدْ لَدَيْكَ تَجُدْ بها ... يَدَاكَ وإنْ تُظْلَمْ بها تَتَظَلَّمِ
وقال زهيرٌ:
كما اسْتَغَاثَ بسَىءٍ فَزُّ غَيْطلةٍ ... خافَ العُيُونَ فلم يُنْظَرْ به الحَشَكُ
السيء: اللبن في الضرع. والفز: ولد البقرة. والغيطلة: البقرة. والحشك: الدرة. أخذه الطرماح فقال:
بَادَرَ السَّيْءَ ولم يَنْتَظِرْ ... نُبْهَ فِيقَاتِ العُيُونِ النِّيَام
نبه: تحرك العروق. الفيقه: مثل الفواق.
وقال زهيرٌ يصف ظبيةً أكل ولدها السبع:
أَضاعَتْ فلم تُغْفَرْ لها غَفَلاَتُها ... فلاقَتْ بَياناً عندَ آخِرِ مَعْهَدِ
دَماً عنْدَ شِلْوٍ تَحْجُلُ الطَّيْرُ حَوْلُهُ ... وبَضْعَ لِحَام في إهاب مُقَدَّدِ
وقال الجعدي:
ولاقَتْ بَيَاناً عِنْدَ أَوَّلِ مَعْهَد ... إِهاباً ومَعْبُوطاً من الجَوْفِ أَحْمَرَا
قال: ومما سبق إليه كعب بن زهير فأخذه الشعراء منه، قال كعب بن زهير يذكر ذئباً وغراباً:
فلم يَجِدَا إِلاَّ مُناخَ مَيطَّةٍ ... تَجَافَى بها زَوْرٌ نَبِيلٌ وكَلْكَلُ
ومضْربَهَا وَسْطَ الحَصَى بجِرانِها ... ومَثْنَى نَوَاجٍ لم يَخُنْهُنَّ مِفْصَلُ
ومَوْضِعَ طُولِيٍّ وأَحْنَاءِ قاتِرٍ ... يَئِط إِذَا ما شُدّ بالنِّسْعِ مِنْ عَلُ
وأَتْلَعَ يُلْوَى بالجَديِلِ كأَنَّهُ ... عَسِيبٌ سَقَاهُ من سُمَيْحَةَ جَدْوَلُ
وسُمْرٌ ظِمَاءٌ واتَرَتْهُنَّ بَعْدَ ما ... مَضَتْ هَجْعَةٌ منْ آخِرِ اللَّيْلِ ذُبَّلُ
سَفَى فَوْقَهُنَّ التُّرْبَ ضافٍ كأَنَّهُ ... على الفَرْجِ والحاذَيْنِ قِنْوٌ مُذَلّلُ
ومَضْطَمِرٌ من خاشِعِ الطَّرْفِ خائفٌ ... لما تَضَعُ الأَرُض القَوَاءُ وتَحْمِلُ
فأخذه ذو الرمة والطرماح، فقال الطرماح:
أَطاف بها طِمْلٌ حَرِيصٌ فلم يَجِدْ ... بها غَيْرَ مُلْقَى الواسِطِ المُتَبَايِنِ
ومَخْفِقِ ذِي زِرَّيْنِ في الأَرِض مَتْنُهُ ... وفي الكَّفِ مَثْنَاهُ لَطيفُ الأَسَائِنِ
خَفِيٍّ كمُجْتازِ الشُّجاعِ وذُبَّلٍ ... ثلاثٍ كَحَبَّاتِ الكَبَاثِ القَرَائِنِ
وضَبْثَةٍ كَفٍّ باشَرَتْ بَيمِينِها ... صَعِيداً كَفَاها فَقْدَ ماءِ المُصَافِنِ
ومُعْتَمَدٍ من صَدْرِ رِجْلٍ مُحَالَةٍ ... على عَجَلٍ من خائِفٍ غَيْر آمِنِ
مُقَلصَةٍ طارَتْ قَرِينَتُها بها ... إلى سُلَّمٍ في دَفِّ عَوْجَاءَ دافِنِ
ومَوْضِعِ مَثْنَى رُكَبَتيْنِ وسجْدَةٍ ... تَوَخَّى بها رُكْنَ الحَطِيمِ المُيَامِنِ
وقال ذوالرمة:
إِذَا اعتَسَّ فيها الذئبُ لم يَلْتَقِطْ بهامنَ الكَسْبِ إلا مِثْلَ مُلْقَى المَشَاجِر
وبَيْنَهما مُلْقَى زِمَامٍ كأَنَّهُ ... مَخِيطُ شُجاعٍ آخِرَ الَّلْيلِ ثائِرِ
ومَغْفَى فتًى حَلَّتْ له فَوْقَ رَحْلِهِ ... ثمَانِيَةً جُرْداً صَلاةُ المُسَافِرِ
سِوَى وَطْأَةٍ في الأَرْضِ من غير جَعْدَةٍ ... ثَنَى أُخْتَها في غَرْزِ عَوْجاءَ ضامِرِ
وموْضِعِ عِرْنِينٍ كَرِيمٍ وجَبْهَةِ ... إلى هَدَفٍ من مُسْرِعٍ غَيْرِ فاجِرِ
وقال كعب بن زهير:
لا يَشْتَكُونَ المَوْتَ إنْ نَزَلَتْ بهِمْ ... شَهْبَاءُ ذاتُ مَعاقِيمٍ وأُوَارِ
سمعه بعضهم فقال:
رُمِيَتْ نَطَاةُ من الرَّسُولِ بفَيْلَقٍ ... شَهْبَاءَ ذاتِ مَعَاقِمٍ وأُوَارِ
ومما سبق إليه زهيرٌ فلم ينازع فيه قوله:
فإن الحق مقطعه ... ............ البيت.
يريد أن الحقوق إنما تصح بواحدةٍ من هذه الثلاث: يمينٌ أو محاكمةٍ أو حجةٌ بينةٌ واضحةٌ. وكان عمر بن الخطاب رضى الله عنه إذا أنشد هذا تعجب من معرفته بمقاطع الحقوق.
ومن ذلك قوله:
يَطْعُنُهُم ما ارْتَمَوْا حَتَّى إِذَا اطَّعَنُواضارَبَ حَتَّى إِذَا ما ضارَبُوا اعْتَنَقَا
فجمع في بيت واحد صنوف القتال.
ومن ذلك قوله:
اَلِّستْرُ دُونَ الفاحشاتِ ولا ... يَلْقاكَ دُونَ الخَيْرِ من سِتْرِ
ومما يستجاد له:
وذِي نِعْمَةٍ تَمًّمْتَها وشَكَرْتَها ... وخَصْمٍ يَكادُ يَغْلَبُ الحَقَّ باطُلهْ
دَفَعْتَ بمَعْرُوفٍ منَ القَوْلِ صائِبٍ ... إذا ما أَضَلَّ الناطِقِينَ مَفاصِلُهْ
وذِي خَطَلٍ في القَوْل يَحْسِبُ أَنَّهُ ... مُصِيبٌ فما يُلْمِمْ به فهو قائلُهْ
عَبَأْتَ له حلْماً وأَكْرَمْتَ غَيْرَه ... وأَعْرَضْتَ عنه وهو باد مَقَاتِلُهْ
وذِي نَسَبٍ ناءٍ بَعِيدٍ وصَلْتَهُ ... بمالٍ وما يَدْرِي بأَنَّكَ واصِلُهْ
وأَبْيَضَ فَيَّاضٍ يَدَاهُ غَمَامَةٌ ... على مُعْتَفِيهِ ما تُغِبُ نَوَافِلُهْ
غَدَوْتُ عَلَيْهِ غُدْوَةً فوَجَدْتُه ... قُعُوداً لَدَيْهِ بالصَّريم عَوَاذِلُه
يُفَدِّينَهُ طَوْراً وطَوْراً يَلُمْنَهُ ... وأعْيَا فما يَدْرينَ أَيْنَ مَخاتِلُهْ
وأَعْرَضْنَ منه عن كَرِيمٍ مُرَزَّإٍ ... جَمُوعٍ على الأَمْرِ الذي هو فاعله
أَخِي ثِقَةِ ما تُذْهِبُ الخَمْرُ مالَهُ ... ولِكَّنُه قد يُذْهِبُ المالَ نائلُهْ
تَرَاهُ إذا ما جِئْتَهُ مُتَهلِّلاً ... كأَنَّكَ تُعْطِيهِ الذي أَنْتَ سائِلُهْ
ومن ذلك قوله، ويقال إنه لولده كعب:
ولَيْسَ لِمَنْ لم يَرْكَبِ الهَوْلَ بُغْيَةٌ ... ولَيْسَ لرَحْل حَطَّهُ اللهُ حامِل
إِذا أَنْتَ لم تُعْرضْ عنِ الجَهْلِ والخَنَا ... أَصَبْتَ حَلِيماً أَو أَصابكَ جاهِلُ
ومن ذلك قوله:
وفيهمُ مَقاماتٌ حِسانٌ وُجُوهُهُمْ ... وأَنْدِيَةٌ يَنْتابُها القَوْلُ والفِعْلُ
على مُكْثِرِيهمْ رِزْقُ مَنْ يَعْتَرِيهِمُ ... وعِنْدَ المُقِلِّينَ السَّماحَةُ والبَذْلُ
سَعَى بَعْدَهُمْ قَوْمٌ لِكَىْ يُدْرِكُوهُمُفلم يَبْلُغُوا ولم يُلِيمُوا ولم يَأْلُوا
وأخذ العلماء عليه قوله يذكر الضفادع:
يَخْرُجْنَ مِن شَرَباتِ ماؤُها طَحِلٌ ... على الجُذُوعِ يَخَفْنَ الغَمَّ والغَرَقَا
وقالوا: ليس خروج الضفادع من الماء مخافة الغم والغرق، وإنما ذلك لأنهن يبضن في الشطوط.
وأخذ عليه قوله:
ثَّم اسْتَمَرُّوا وقالوا إِنَّ مَشْرَبَكُمْ ... ماءٌ بشَرْقِيِّ سَلْمَى فَيْدُ أَورَكَكُ
وقال الأصمعي: سألت بجنيات فيد عن الركك؟ فقالوا لي: ما هنا ركك ولكن رك فعلمت أن زهيراً احتاج فضعف.
وأخذ على ابنه كعبٍ قوله في وصف ناقة:
ضَخْمٌ مُقلَّدُها فَعْمٌ مُقَيَّدُها
قال الأصمعي: هذا خطاء، إنما توصف النجائب بدقة المذبح.
ومما يستجاد لكعبٍ ابنه قوله يذكر رجلا قتل من مزينة رهطه:
لَقَدْ وَلَّى أَلِيَّتَهُ جُوَىٌّ ... مَعَاشِرَ غَيْرَ مَطْلولٍ أَخُوها
فإنْ تَهْلِكْ جُوَىُّ فكُلُّ نَفْسٍ ... سَيَجْلِبُها لذلك جالِبُوها
وإنْ تَهْلِكْ جُوَىُّ فإنَّ حَوْلِي ... كَظَنِّكَ كان بَعْدَك مُوقدُوها
وما ساءَتْ طُنُونُك يَوْمَ تُؤْتَى ... بأَرْماحٍ وَفَى لك مُشْرِعُوها
كأَنَّك كُنْتَ تَعْلَمُ يَوْمَ بُزَّتْ ... ثِيَابُك ما سَيَلْقَى سالِبوها
فما قُلْنا لهم نَفْسٌ بنَفْسٍ ... أَقِيدُونا بها إن لم تَدُوها
ولكنَّا دَفَعْناها ظِماءً ... فرَوَّاها بذِكْرِك مُنْهلُوها
ولو بَلَغَ القَتِيلَ فَعَالُ حَيٍّ ... لَسَرَّكَ من سُيُوفك مُنْتَضُوها
ومن ذلك قوله:
لَوْ كُنْتُ أَعْجَبُ مِنْ شيءٍ لَأَعْجَبَنيسَعْىُ الفَتَى وهو مَخْبُوٌّ لَهُ القَدَرُ
يَسْعَى الفَتَى لِأُمُورٍ لَيْسَ يُدْرِكُهَا ... والنَّفْسُ واحِدَةٌ والهَمُّ مُنْتَشِرُ
والمَرْءُ ما عاش مَمْدُودٌ له أَمَلٌ ... لا تَنْتَهي العَيْنُ حَتَّى يَنْتَهي الأَثرُ
وكعبٌ القائل:
ومَنْ للُقَوَافِي شَأْنِهَا مَنّ يَحُوكُهَا ... إذا ما تَوَى كَعْبٌ وفَوَّزَ جَرْوَلُ
يَقُولُ فلا يَعْيَا بشيءٍ يَقُولُهُ ... ومنْ قائِلِها مَنْ يُسِيءُ ويَعْمَلُ
يُقَوِّمُها حَتَّى تَلِينَ مُتُونُهَا ... فيُقْصِرَ عنها كلُّ ما يَتَمَثَّلُ
كَفَيْتُكَ لا تَلْقَى من الناس شاعِراً ... تَنَخَّلَ منْهَا مثْلَ ما أَتَنَخَّلُ
وسمعه الكميت فقال في قصيدة له:
وما ضَرَّهَا أَنَّ كَعْباً تَوَى ... وفَوَّزَ مِنْ بعدهِ جَرْوَلُ
هو زهير بن ربيعة بن قرط، والناس ينسبونه إلى مزينة، وإنما نسبه في غطفان، وليس لهم بيت شعرٍ ينتمون فيه إلى مزينة إلا بيت كعب بن زهير، وهو قوله:
هُمُ الأَصْل مِنَّى حَيْثُ كُنْتُ وإِنَّني ... من المُزَنِيينَ المُصَفَّيّنَ بالكَرَمْ
ويقال إنه لم يتصل الشعر في ولد أحدٍ من الفحول في الجاهلية ما اتصل في ولد زهير، وفي الإسلام ما اتصل في ولد جرير.
وكان زهير راوية أوس بن حجر.
ويروى عن عمر بن الخطاب أنه قال: أنشدوني لأشعر شعرائكم، قيل: ومن هو؟ قال: زهير، قيل: وبم صار كذلك؟ قال: كان لا يعاظل بين القول، ولا يتبع حوشي الكلام، ولا يمدح الرجل إلا بما هو فيه، وهو القائل:
إِذَا ابْتَدَرَتْ قَيْسُ بنُ عَيْلاَنَ غايَةًمِنَ المَجْدِ مَنْ يَسْبِقْ إِلَيْها يُسَوَّدِ
سَبَقْتَ إِلَيْها كُلَّ طَلْقٍ مُبَرزٍ ... سَبُوقٍ إلى الغاياتِ غَيْرِ مُخَلدِ
ويروى غير مبلد والمخلد في هذا الموضع: المبطى.
فلَوْ كان حَمْدٌ يُخْلِدُ الناسَ لم تَمُتْ ... ولكِنَّ حَمْدَ المَرْءٍ لَيْسَ بمُخْلدِ
وكان قدامة بن موسى عالماً بالشعر، وكان يقدم زهيراً ويستجيد قوله:
قَدْ جَعَلَ المُبْتَغُونَ الخَيْرَ في هَرِمٍ ... والسَّائِلُونَ إلى أَبْوَابِهِ طُرُقَا
مَنْ يَلْقَ يَوْماً على عِلاَّتِهِ هَرِماً ... يَلْق السَّمَاحَةَ فيهِ والنَّدَى خُلُقَا
قال عكرمة بن جريرٍ: قلت لأبي: من أشعر الناس؟ قال: أجاهليةً أم إسلاميةً؟ قلت: جاهليةً؟ قال: زهير، قلت: فالإسلام؟ قال: الفرزدق، قلت: فالأخطل؟ قال: الأخطل يجيد نعت الملوك ويصيب صفة الخمر، قلت له: فأنت؟ قال أنا نحرت الشعر نحراً.
قال عبد الملك لقومٍ من الشعراء: أي بيت أمدح؟ فاتفقوا على بيت زهيرٍ:
تَرَاهُ إذَا ما جِئْتَهُ مُتَهَلَّلاً ... كأَنَّكَ تُعْطِيهِ الِّذِي أَنْتَ سائِلُهْ
قيل لخلف الأحمر: زهيرٌ أشعر أم ابنه كعب؟ قال: لولا أبياتٌ لزهيرٍ أكبرها الناس لقلت إن كعباً أشعر منه، يريد قوله:
لِمَنِ الديارُ بقُنَّةِ الِحَجْرِ ... أَقوَيْنَ من حِجَجٍ ومن دَهْرِ
ولَأَنْتَ أَشْجَعُ من أُسَامَةَ إِذْ ... دُعِىَ النزَالُ ولُجَّ في الذُّعْرِ
ولَأَنْتَ تَفْرِي ما خَلَقْتَ وبَعْ ... ضُ القَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لا يَفْرِي
لَوْ كُنْتَ من شيءٍ سِوَى بَشَرٍ ... كُنْتَ المُنَوِّرَ لَيْلَةَ البَدْرِ
وكان زهير يتأله ويتعفف في شعره، ويدل شعره على إيمانه بالبعث وذلك قوله:
يُؤَخَّرْ فيُوَدَعْ في كِتاب فيُدَّخَرْ ... لِيَوْمِ الحِسابِ أَو يُعَجَّلْ فيُنْقَم
وشبه زهيرٌ امرأةً في الشعر بثلاثة أوصافٍ في بيت واحد فقال:
تَنَازَعَتِ المَهَا شَبَهاً ودُرَّ البُ ... حُورِ وشاكَهَتْ فيها الظِّبَاءُ
ثم قال ففسر:
فأَمَّا ما فُوَيْقَ العِقْدِ منها ... فمِنْ أَدْماءَ مَرْتَعُهَا الخَلاَءُ
وأَمَّا المُقْلَتانِ فمن مَهَاةِ ... وللدُّرِّ المَلاَحَةُ والصَّفاءُ
وقال بعض الرواة: لو أن زهيراً نظر في رساله عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري، ما زاد على ما قال:
فإِنَّ الحَقَّ مَقْطَعُهُ ثَلاَثٌ ... يَمينٌ أَو نِفَارٌ أَو جِلاَءُ
يعني يميناً أو منافرةً إلى حاكم يقطع بالبينات أو جلاءً، وهو بيان وبرهانٌ يجلو به الحق وتتضح الدعوى.
ومما يتمثل به من شعره:
وهَلْ يُنْبِتُ الخَطِّىَّ إلاَّ وَشِيجُهُ ... وتُغْرَسُ إلاَّ في مَعَادِنِها النَّخْلُ
ويستحسن قوله:
يَطْعَنُهُمْ ما ارْتَمَوْا حَتَّى إذا اطَّعَنُواضارَبَ حَتَّى إذا ما ضارَبُوا اعْتَنَقَا
ويستحسن أيضاً قوله:
هُوَ الجَوَادُ الَّذِي يُعطِيكَ نَائِلَهُ ... عَفْواً ويُظْلَمُ أَحْيَاناً فَيَنْظَلِمُ
قد سبق زهيرٌ إلى هذا المعنى، لا ينازعه فيه أحدٌ غير كثير، فإنه قال يمدح عبد العزيز بن مروان:
رَأَيْتُ ابنَ لَيْلَى يَعتَرِي صُلْبَ مالِهِ ... مَسَائِلُ شَتَّى من غَنِىٍّ ومُصْرم
مَسَائِلُ إنْ تُوجَدْ لديهِ تَجُدْ بها ... يَدَاهُ وإنْ يُظْلَمْ بها يَتَظَلَّمِ
المصرم: القليل المال.
هو زهير بن أبي سلمى، واسم أبي سلمى ربيعة بن رياحٍ المزني، من مزينة مضر، وكان زهيرٌ جاهلياً لم يدرك الإسلام، وأدركه ابناه كعبٌ وبجيرٌ، وأتى بجيرٌ النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم فكتب إليه كعب:
أَلاَ أَبْلِغَا عَنَّى بُجَيْراً رسَالَةً ... فهل لَّكَ فيما قُلْتَ بالخَيْفِ هَل لَّكَا
سُقِيتَ بكأْسٍ عِنْدَ آلِ مُحَمَّد ... فأَنْهَلَكَ المَأْمُونُ منها وعَلَّكَا
فخالَفْتَ أَسْبَابَ الهُدَى وتَبعْتَهُ ... على أَيِّ شَيْءٍ ويْبَ غَيْرِكَ دَلَّكَا
فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم شعره هذا، فتوعده ونذر دمه، فكتب بجير إلى كعبٍ يخبره بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل رجلا ممن كان يهجوه، وأنه لم يبق من الشعراء الذين كانوا يؤذونه إلا ابن الزبعري السهمي وهبيرة بن أبي وهبٍ المخزومي، وقد هربا منه، فإن كانت لك في نفسك حاجةٌ فاقدم عليه، فانه لا يقتل أحداً أتاه تائباً، وإن أنت لم تفعل فانج بنفسك. فلما ورد عليه الكتاب ضاقت عليه الأرض برحبها، وأرجف به من كان بحضرته من عدوه، فقال قصيدته التي أولها:
بانَتْ سُعادُ فقَلْبى اليَوْمَ مَتْبُولُ
وفيها قال:
نُبّئْتُ أَنَّ رَسُولَ الله أَوْعَدَني ... والعَفْوُ عنْدَ رَسُولِ الله مَأْمُولُ
ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع يده في يده وأنشده شعره، فقبل توبته وعفا عنه، وكساه برداً، فاشتراه منه معاوية بعشرين ألف درهم، فهو عند الخلفاء إلى اليوم.
وكان لكعب ابنٌ يقال له عقبة بن كعب، شاعر، ولقبه المضرب، وذلك أنه شبب بامرأة من بني أسد فقال:
ولا عَيْبَ فيها غَيْرَ أَنَّك واجدٌ ... مَلاقِيهَا قد دُيِّثَتْ برُكُوبِ
فضربه أخوها مائة ضربة بالسيف، فلم يمت، وأخذ الدية، فسمى المضرب وولد لعقبة العوامُ، وهو شاعر.
فهولاء خمسة شعراء في نسق: العوام بن عقبة بن كعب بن زهير بن أبي سلمى، وكان أبو سلمى أيضاً شاعراً. وهو القائل في خاله أسد المري، وابنه كعب بن أسعد، وكان حمل أمه وفارقهما:
لَتُصْرَفَنْ إِبلٌ مُحَبَّبَةٌ ... من عِنْد أَسْعَدَ وابْنِه كَعْب
اَلْآكِلينَ صَريحَ قَوْمِهَمَا ... أَكْلَ الحُبَارَى بُرْعُمَ الرُّطْبِ
وقال عمر لابن عباس: أنشدني لشاعر الشعراء الذي لم يعاظل بين القوافي، ولم يتبع وحشي الكلام، قال: ومن هو يا أمير المؤمنين؟ قال: زهير. فلم يزل ينشده إلى أن برق الصبح.
وكان زهيرٌ أستاذ الحطيئة. وسئل عنه الحطيئة فقال: ما رأيت مثله في تكفيه على أكناف القوافي، وأخذه بأعنتها حيث شاء، من اختلاف معانيها، امتداحا وذما. قيل له: ثم من؟ قال: ما أدرى، إلا أن تراني مسلنطحاً، واضعاً إحدى رجلي على الأخرى رافعاً عقيرتي أعوى في أثر القوافي.
قال أبو عبيدة: يقول من فضل زهيراً على جميع الشعراء: إنه أمدح القوم وأشدهم أسر شعرٍ. قال: وسمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: الفرزدق يشبه بزهير وكان الأصمعي يقول: زهيرُ والحطيئة وأشباههما عبيد الشعر، لأنهم نقحوه ولم يذهبوا به مذهب المطبوعين.
قال وكان زهير يسمى كبر قصائده الحوليات.
وكان جيد شعره في هرم بن سنانٍ المري. وقال عمر رضي الله عنه لبعض ولد هرمٍ: أنشدني بعض ما قال فيكم زهيرٌ، فأنشده، فقال: لقد كان يقول فيكم فيحسن، فقال: يا أمير المؤمنين إنا كنا نعطيه فنجزل! فقال عمر رضي الله عنه: ذهب ما أعطيتموه وبقي ما أعطاكم.
ومما سبق إليه زهيرٌ فأخذ منه قوله يمدح هرماً:
هُوَ الجَوَادُ الَّذِي يُعطِيكَ نَائِلَهُ ... عَفْواً ويُظْلَمُ أَحْيَاناً فَيَظَلِمُ
أي يسأل ما لا يقدر عليه فيتحمله، أخذه كثيرٌ، فقال:
رَأَيْتُ ابنَ لَيْلَى يَعتَرِي صُلْبَ مالِهِ ... مَسَائِلُ شَتَّى من غَنِىٍّ ومُعْدِمِ
مسائِلُ إنْ تُوجَدْ لَدَيْكَ تَجُدْ بها ... يَدَاكَ وإنْ تُظْلَمْ بها تَتَظَلَّمِ
وقال زهيرٌ:
كما اسْتَغَاثَ بسَىءٍ فَزُّ غَيْطلةٍ ... خافَ العُيُونَ فلم يُنْظَرْ به الحَشَكُ
السيء: اللبن في الضرع. والفز: ولد البقرة. والغيطلة: البقرة. والحشك: الدرة. أخذه الطرماح فقال:
بَادَرَ السَّيْءَ ولم يَنْتَظِرْ ... نُبْهَ فِيقَاتِ العُيُونِ النِّيَام
نبه: تحرك العروق. الفيقه: مثل الفواق.
وقال زهيرٌ يصف ظبيةً أكل ولدها السبع:
أَضاعَتْ فلم تُغْفَرْ لها غَفَلاَتُها ... فلاقَتْ بَياناً عندَ آخِرِ مَعْهَدِ
دَماً عنْدَ شِلْوٍ تَحْجُلُ الطَّيْرُ حَوْلُهُ ... وبَضْعَ لِحَام في إهاب مُقَدَّدِ
وقال الجعدي:
ولاقَتْ بَيَاناً عِنْدَ أَوَّلِ مَعْهَد ... إِهاباً ومَعْبُوطاً من الجَوْفِ أَحْمَرَا
قال: ومما سبق إليه كعب بن زهير فأخذه الشعراء منه، قال كعب بن زهير يذكر ذئباً وغراباً:
فلم يَجِدَا إِلاَّ مُناخَ مَيطَّةٍ ... تَجَافَى بها زَوْرٌ نَبِيلٌ وكَلْكَلُ
ومضْربَهَا وَسْطَ الحَصَى بجِرانِها ... ومَثْنَى نَوَاجٍ لم يَخُنْهُنَّ مِفْصَلُ
ومَوْضِعَ طُولِيٍّ وأَحْنَاءِ قاتِرٍ ... يَئِط إِذَا ما شُدّ بالنِّسْعِ مِنْ عَلُ
وأَتْلَعَ يُلْوَى بالجَديِلِ كأَنَّهُ ... عَسِيبٌ سَقَاهُ من سُمَيْحَةَ جَدْوَلُ
وسُمْرٌ ظِمَاءٌ واتَرَتْهُنَّ بَعْدَ ما ... مَضَتْ هَجْعَةٌ منْ آخِرِ اللَّيْلِ ذُبَّلُ
سَفَى فَوْقَهُنَّ التُّرْبَ ضافٍ كأَنَّهُ ... على الفَرْجِ والحاذَيْنِ قِنْوٌ مُذَلّلُ
ومَضْطَمِرٌ من خاشِعِ الطَّرْفِ خائفٌ ... لما تَضَعُ الأَرُض القَوَاءُ وتَحْمِلُ
فأخذه ذو الرمة والطرماح، فقال الطرماح:
أَطاف بها طِمْلٌ حَرِيصٌ فلم يَجِدْ ... بها غَيْرَ مُلْقَى الواسِطِ المُتَبَايِنِ
ومَخْفِقِ ذِي زِرَّيْنِ في الأَرِض مَتْنُهُ ... وفي الكَّفِ مَثْنَاهُ لَطيفُ الأَسَائِنِ
خَفِيٍّ كمُجْتازِ الشُّجاعِ وذُبَّلٍ ... ثلاثٍ كَحَبَّاتِ الكَبَاثِ القَرَائِنِ
وضَبْثَةٍ كَفٍّ باشَرَتْ بَيمِينِها ... صَعِيداً كَفَاها فَقْدَ ماءِ المُصَافِنِ
ومُعْتَمَدٍ من صَدْرِ رِجْلٍ مُحَالَةٍ ... على عَجَلٍ من خائِفٍ غَيْر آمِنِ
مُقَلصَةٍ طارَتْ قَرِينَتُها بها ... إلى سُلَّمٍ في دَفِّ عَوْجَاءَ دافِنِ
ومَوْضِعِ مَثْنَى رُكَبَتيْنِ وسجْدَةٍ ... تَوَخَّى بها رُكْنَ الحَطِيمِ المُيَامِنِ
وقال ذوالرمة:
إِذَا اعتَسَّ فيها الذئبُ لم يَلْتَقِطْ بهامنَ الكَسْبِ إلا مِثْلَ مُلْقَى المَشَاجِر
وبَيْنَهما مُلْقَى زِمَامٍ كأَنَّهُ ... مَخِيطُ شُجاعٍ آخِرَ الَّلْيلِ ثائِرِ
ومَغْفَى فتًى حَلَّتْ له فَوْقَ رَحْلِهِ ... ثمَانِيَةً جُرْداً صَلاةُ المُسَافِرِ
سِوَى وَطْأَةٍ في الأَرْضِ من غير جَعْدَةٍ ... ثَنَى أُخْتَها في غَرْزِ عَوْجاءَ ضامِرِ
وموْضِعِ عِرْنِينٍ كَرِيمٍ وجَبْهَةِ ... إلى هَدَفٍ من مُسْرِعٍ غَيْرِ فاجِرِ
وقال كعب بن زهير:
لا يَشْتَكُونَ المَوْتَ إنْ نَزَلَتْ بهِمْ ... شَهْبَاءُ ذاتُ مَعاقِيمٍ وأُوَارِ
سمعه بعضهم فقال:
رُمِيَتْ نَطَاةُ من الرَّسُولِ بفَيْلَقٍ ... شَهْبَاءَ ذاتِ مَعَاقِمٍ وأُوَارِ
ومما سبق إليه زهيرٌ فلم ينازع فيه قوله:
فإن الحق مقطعه ... ............ البيت.
يريد أن الحقوق إنما تصح بواحدةٍ من هذه الثلاث: يمينٌ أو محاكمةٍ أو حجةٌ بينةٌ واضحةٌ. وكان عمر بن الخطاب رضى الله عنه إذا أنشد هذا تعجب من معرفته بمقاطع الحقوق.
ومن ذلك قوله:
يَطْعُنُهُم ما ارْتَمَوْا حَتَّى إِذَا اطَّعَنُواضارَبَ حَتَّى إِذَا ما ضارَبُوا اعْتَنَقَا
فجمع في بيت واحد صنوف القتال.
ومن ذلك قوله:
اَلِّستْرُ دُونَ الفاحشاتِ ولا ... يَلْقاكَ دُونَ الخَيْرِ من سِتْرِ
ومما يستجاد له:
وذِي نِعْمَةٍ تَمًّمْتَها وشَكَرْتَها ... وخَصْمٍ يَكادُ يَغْلَبُ الحَقَّ باطُلهْ
دَفَعْتَ بمَعْرُوفٍ منَ القَوْلِ صائِبٍ ... إذا ما أَضَلَّ الناطِقِينَ مَفاصِلُهْ
وذِي خَطَلٍ في القَوْل يَحْسِبُ أَنَّهُ ... مُصِيبٌ فما يُلْمِمْ به فهو قائلُهْ
عَبَأْتَ له حلْماً وأَكْرَمْتَ غَيْرَه ... وأَعْرَضْتَ عنه وهو باد مَقَاتِلُهْ
وذِي نَسَبٍ ناءٍ بَعِيدٍ وصَلْتَهُ ... بمالٍ وما يَدْرِي بأَنَّكَ واصِلُهْ
وأَبْيَضَ فَيَّاضٍ يَدَاهُ غَمَامَةٌ ... على مُعْتَفِيهِ ما تُغِبُ نَوَافِلُهْ
غَدَوْتُ عَلَيْهِ غُدْوَةً فوَجَدْتُه ... قُعُوداً لَدَيْهِ بالصَّريم عَوَاذِلُه
يُفَدِّينَهُ طَوْراً وطَوْراً يَلُمْنَهُ ... وأعْيَا فما يَدْرينَ أَيْنَ مَخاتِلُهْ
وأَعْرَضْنَ منه عن كَرِيمٍ مُرَزَّإٍ ... جَمُوعٍ على الأَمْرِ الذي هو فاعله
أَخِي ثِقَةِ ما تُذْهِبُ الخَمْرُ مالَهُ ... ولِكَّنُه قد يُذْهِبُ المالَ نائلُهْ
تَرَاهُ إذا ما جِئْتَهُ مُتَهلِّلاً ... كأَنَّكَ تُعْطِيهِ الذي أَنْتَ سائِلُهْ
ومن ذلك قوله، ويقال إنه لولده كعب:
ولَيْسَ لِمَنْ لم يَرْكَبِ الهَوْلَ بُغْيَةٌ ... ولَيْسَ لرَحْل حَطَّهُ اللهُ حامِل
إِذا أَنْتَ لم تُعْرضْ عنِ الجَهْلِ والخَنَا ... أَصَبْتَ حَلِيماً أَو أَصابكَ جاهِلُ
ومن ذلك قوله:
وفيهمُ مَقاماتٌ حِسانٌ وُجُوهُهُمْ ... وأَنْدِيَةٌ يَنْتابُها القَوْلُ والفِعْلُ
على مُكْثِرِيهمْ رِزْقُ مَنْ يَعْتَرِيهِمُ ... وعِنْدَ المُقِلِّينَ السَّماحَةُ والبَذْلُ
سَعَى بَعْدَهُمْ قَوْمٌ لِكَىْ يُدْرِكُوهُمُفلم يَبْلُغُوا ولم يُلِيمُوا ولم يَأْلُوا
وأخذ العلماء عليه قوله يذكر الضفادع:
يَخْرُجْنَ مِن شَرَباتِ ماؤُها طَحِلٌ ... على الجُذُوعِ يَخَفْنَ الغَمَّ والغَرَقَا
وقالوا: ليس خروج الضفادع من الماء مخافة الغم والغرق، وإنما ذلك لأنهن يبضن في الشطوط.
وأخذ عليه قوله:
ثَّم اسْتَمَرُّوا وقالوا إِنَّ مَشْرَبَكُمْ ... ماءٌ بشَرْقِيِّ سَلْمَى فَيْدُ أَورَكَكُ
وقال الأصمعي: سألت بجنيات فيد عن الركك؟ فقالوا لي: ما هنا ركك ولكن رك فعلمت أن زهيراً احتاج فضعف.
وأخذ على ابنه كعبٍ قوله في وصف ناقة:
ضَخْمٌ مُقلَّدُها فَعْمٌ مُقَيَّدُها
قال الأصمعي: هذا خطاء، إنما توصف النجائب بدقة المذبح.
ومما يستجاد لكعبٍ ابنه قوله يذكر رجلا قتل من مزينة رهطه:
لَقَدْ وَلَّى أَلِيَّتَهُ جُوَىٌّ ... مَعَاشِرَ غَيْرَ مَطْلولٍ أَخُوها
فإنْ تَهْلِكْ جُوَىُّ فكُلُّ نَفْسٍ ... سَيَجْلِبُها لذلك جالِبُوها
وإنْ تَهْلِكْ جُوَىُّ فإنَّ حَوْلِي ... كَظَنِّكَ كان بَعْدَك مُوقدُوها
وما ساءَتْ طُنُونُك يَوْمَ تُؤْتَى ... بأَرْماحٍ وَفَى لك مُشْرِعُوها
كأَنَّك كُنْتَ تَعْلَمُ يَوْمَ بُزَّتْ ... ثِيَابُك ما سَيَلْقَى سالِبوها
فما قُلْنا لهم نَفْسٌ بنَفْسٍ ... أَقِيدُونا بها إن لم تَدُوها
ولكنَّا دَفَعْناها ظِماءً ... فرَوَّاها بذِكْرِك مُنْهلُوها
ولو بَلَغَ القَتِيلَ فَعَالُ حَيٍّ ... لَسَرَّكَ من سُيُوفك مُنْتَضُوها
ومن ذلك قوله:
لَوْ كُنْتُ أَعْجَبُ مِنْ شيءٍ لَأَعْجَبَنيسَعْىُ الفَتَى وهو مَخْبُوٌّ لَهُ القَدَرُ
يَسْعَى الفَتَى لِأُمُورٍ لَيْسَ يُدْرِكُهَا ... والنَّفْسُ واحِدَةٌ والهَمُّ مُنْتَشِرُ
والمَرْءُ ما عاش مَمْدُودٌ له أَمَلٌ ... لا تَنْتَهي العَيْنُ حَتَّى يَنْتَهي الأَثرُ
وكعبٌ القائل:
ومَنْ للُقَوَافِي شَأْنِهَا مَنّ يَحُوكُهَا ... إذا ما تَوَى كَعْبٌ وفَوَّزَ جَرْوَلُ
يَقُولُ فلا يَعْيَا بشيءٍ يَقُولُهُ ... ومنْ قائِلِها مَنْ يُسِيءُ ويَعْمَلُ
يُقَوِّمُها حَتَّى تَلِينَ مُتُونُهَا ... فيُقْصِرَ عنها كلُّ ما يَتَمَثَّلُ
كَفَيْتُكَ لا تَلْقَى من الناس شاعِراً ... تَنَخَّلَ منْهَا مثْلَ ما أَتَنَخَّلُ
وسمعه الكميت فقال في قصيدة له:
وما ضَرَّهَا أَنَّ كَعْباً تَوَى ... وفَوَّزَ مِنْ بعدهِ جَرْوَلُ
رد: كتاب الشعر و الشعراء...
كعب بن زهير
وكان كعبٌ فحلاً مجيداً، وكان يحالفه أبداً إقتارٌ وسوء حال. وكان أخوه بجيرٌ أسلم قبله، وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة، وكان أخوه كعب أرسل إليه ينهاه عن الإسلام، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فتواعده، فبعث إليه بجير فحذره، فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبدأ بأبي بكر، فلما سلم النبي صلى الله عليه وسلم وسلم من صلاة الصبح جاء به وهو متلثمٌ بعمامته، فقال: يا رسول الله، هذا رجل جاء يبايعك على الإسلام، فبسط النبي صلى الله عليه وسلم يده، فحسر كعب عن وجهه، وقال: هذا مقام العائذ بك يا رسول الله، أنا كعب بن زهير، فتجهمته الأنصار وغلظت له، لذكره كان قبل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحبت المهاجرة أن يسلم ويؤمنه النبي صلى الله عليه وسلم، فآمنه واستنشده:
بانَتْ سُعَادُ فقَلْبي اليومَ مَتْبُولُ ... مُتَيَّمٌ إِثْرَهَا لم يُجَزَ مَكْبُولُ
وما سُعادَ غَداةَ البَيْن إِذ عَرَضَتْ ... إلاَّ أَغَنُّ غَضِيضُ الطَّرفِ مَكْحُولُ
وما تَدُومُ على العَهْدِ الذِي زَعَمَتْ ... كما تَلَوَّنُ في أَثْوَابِها الغُولُ
ولا تَمَسَّكُ بالوُدِّ الذي زَعَمَتْ ... إِلاَّ كما تُمْسِكُ الماءَ الغَرَابِيلُ
كانَتْ مَوَاعِيدُ عُرْقُوبٍ لها مَثَلاً ... وما مَوَاعِيدُه إِلاَّ الأَباطيلُ
نُبِّئْتُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ أَوْعدَني ... والعَفْوُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ مَبْذُولُ
مَهْلاً هَدَاكَ الذي أَعْطَاكَ نافلَةَ الْ ... قُرْآنَ فيها مَوَاعِيظٌ وتَفْصِيلُ
لا تأْخُذَنِّي بأَقْوَالِ الوُشاةِ ولم ... أُذْنِبْ ولَوْ كَثُرَتٍ فِيَّ الأَقاويلُ
فلما بلغ قوله:
إِنَّ الرَّسُولَ لَنُورٌ يُسْتَضَاءُ به ... وصارمٌ مِنْ سُيُوفِ اللهِ مَسْلُولُ
في عُصْبَة مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ قَائِلُهُمْ ... بِبَطْنِ مَكَّةَ لَمَّا أَسْلَمُوا زُولُوا
زَالُوا فما زالَ أَنْكَاسٌ ولا كُشُفُ ... يَوْمَ الِلَّقَاءِ ولا سُودٌ مَعَازِيلُ
فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من عنده من قريشٍ، كأنه يومي إليهم أن يسمعوا، حتى قال:
يَمْشُونَ مَشْىَ الجمال البُهْمِ يَعْصِمُهُمْضَرْبٌ إِذَا عَرَّدَ السُّودُ التَّنَابِيلُ
يعرض بالأنصار، لغلظتهم كانت عليهم، فأنكرت قريشٌ عليه وقالوا: لم تمدحنا إذ هجوتهم، فقال:
مَنْ سَرَّهُ شَرَفُ الحَيَاةِ فلا يَزَلْ ... في مِقْنَب من صالِحِي الأَنْصَار
اَلباذِلينَ نُفُوسَهم لِنَبِيِهِّمْ ... يَوْمَ الهيَاجِ وسَطْوَةِ الجَبَّار
يَتَطَهَّرُونَ كأَنَّهُ نُسُكٌ لهم ... بدِماءِ مَنْ عَلِقُوا مِنَ الكُفَّارِ
فكساه النبي صلى الله عليه وسلم بردةً اشتراها معاوية بعد ذلك بعشرين ألف درهم، وهي التي يلبسها الخلفاء في العيدين، زعم ذلك أبان بن عثمان بن عفان.
وقال الحطيئة لكعبٍ: قد علمتم روايتي لكم أهل البيت وانقطاعي إليكم، فلو قلت شعراً تذكر فيه نفسك ثم تذكرني بعدك، فإن الناس أروى لأشعاركم، فقال:
فمَنْ للقَوَافِي شَأْنِهَا مَنْ يَحُوكُها ... إِذا ما مضَى كَعْبٌ وفَوَّرَ جرْوَلُ
كَفَيْتُكَ لا تَلْقَى من الناس واحِداً ... تنَخَّلَ منها مِثْلَ ما يَتَنَخَّلُ
يُثَقِّفُهَا حتَّى تَلِينَ كُعُوبُهَا ... فيُقْصِرَ عنها من يُسِىءُ ويَعْمَلُ
فاعترضه مزردٌ أخو الشماخ فقال:
فلَسْتَ كحَسَّانَ الحُسَامِ ابنِ ثابِتٍ ... ولَسْتَ كَشَمَّاخٍ ولا كالمُخَبَّلِ
فباسْتِكَ إِنْ خَلَّفْتَنِي خَلْفَ شاعِرٍ ... من النِاس لا أُكْفَى ولا أَتَنَخَّلُ
وقال الكميت:
فدُونَكَ مُقْرَبَةً لا تُسَا ... طُ كَرْهاً بِسَوطٍ ولا تُرْكَلُ
مُهَذَّبَةً لا كَقْوَلِ الهُذا ... ءِ مِمَنْ يُسِىءُ ومَنْ يَعْمَلُ
وما ضَرَّها أَنَّ كَعْباً ثَوَى ... وفَوَّزَ من بَعْدِهِ جَرْوَلُ
وكان كعبٌ فحلاً مجيداً، وكان يحالفه أبداً إقتارٌ وسوء حال. وكان أخوه بجيرٌ أسلم قبله، وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة، وكان أخوه كعب أرسل إليه ينهاه عن الإسلام، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فتواعده، فبعث إليه بجير فحذره، فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبدأ بأبي بكر، فلما سلم النبي صلى الله عليه وسلم وسلم من صلاة الصبح جاء به وهو متلثمٌ بعمامته، فقال: يا رسول الله، هذا رجل جاء يبايعك على الإسلام، فبسط النبي صلى الله عليه وسلم يده، فحسر كعب عن وجهه، وقال: هذا مقام العائذ بك يا رسول الله، أنا كعب بن زهير، فتجهمته الأنصار وغلظت له، لذكره كان قبل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحبت المهاجرة أن يسلم ويؤمنه النبي صلى الله عليه وسلم، فآمنه واستنشده:
بانَتْ سُعَادُ فقَلْبي اليومَ مَتْبُولُ ... مُتَيَّمٌ إِثْرَهَا لم يُجَزَ مَكْبُولُ
وما سُعادَ غَداةَ البَيْن إِذ عَرَضَتْ ... إلاَّ أَغَنُّ غَضِيضُ الطَّرفِ مَكْحُولُ
وما تَدُومُ على العَهْدِ الذِي زَعَمَتْ ... كما تَلَوَّنُ في أَثْوَابِها الغُولُ
ولا تَمَسَّكُ بالوُدِّ الذي زَعَمَتْ ... إِلاَّ كما تُمْسِكُ الماءَ الغَرَابِيلُ
كانَتْ مَوَاعِيدُ عُرْقُوبٍ لها مَثَلاً ... وما مَوَاعِيدُه إِلاَّ الأَباطيلُ
نُبِّئْتُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ أَوْعدَني ... والعَفْوُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ مَبْذُولُ
مَهْلاً هَدَاكَ الذي أَعْطَاكَ نافلَةَ الْ ... قُرْآنَ فيها مَوَاعِيظٌ وتَفْصِيلُ
لا تأْخُذَنِّي بأَقْوَالِ الوُشاةِ ولم ... أُذْنِبْ ولَوْ كَثُرَتٍ فِيَّ الأَقاويلُ
فلما بلغ قوله:
إِنَّ الرَّسُولَ لَنُورٌ يُسْتَضَاءُ به ... وصارمٌ مِنْ سُيُوفِ اللهِ مَسْلُولُ
في عُصْبَة مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ قَائِلُهُمْ ... بِبَطْنِ مَكَّةَ لَمَّا أَسْلَمُوا زُولُوا
زَالُوا فما زالَ أَنْكَاسٌ ولا كُشُفُ ... يَوْمَ الِلَّقَاءِ ولا سُودٌ مَعَازِيلُ
فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من عنده من قريشٍ، كأنه يومي إليهم أن يسمعوا، حتى قال:
يَمْشُونَ مَشْىَ الجمال البُهْمِ يَعْصِمُهُمْضَرْبٌ إِذَا عَرَّدَ السُّودُ التَّنَابِيلُ
يعرض بالأنصار، لغلظتهم كانت عليهم، فأنكرت قريشٌ عليه وقالوا: لم تمدحنا إذ هجوتهم، فقال:
مَنْ سَرَّهُ شَرَفُ الحَيَاةِ فلا يَزَلْ ... في مِقْنَب من صالِحِي الأَنْصَار
اَلباذِلينَ نُفُوسَهم لِنَبِيِهِّمْ ... يَوْمَ الهيَاجِ وسَطْوَةِ الجَبَّار
يَتَطَهَّرُونَ كأَنَّهُ نُسُكٌ لهم ... بدِماءِ مَنْ عَلِقُوا مِنَ الكُفَّارِ
فكساه النبي صلى الله عليه وسلم بردةً اشتراها معاوية بعد ذلك بعشرين ألف درهم، وهي التي يلبسها الخلفاء في العيدين، زعم ذلك أبان بن عثمان بن عفان.
وقال الحطيئة لكعبٍ: قد علمتم روايتي لكم أهل البيت وانقطاعي إليكم، فلو قلت شعراً تذكر فيه نفسك ثم تذكرني بعدك، فإن الناس أروى لأشعاركم، فقال:
فمَنْ للقَوَافِي شَأْنِهَا مَنْ يَحُوكُها ... إِذا ما مضَى كَعْبٌ وفَوَّرَ جرْوَلُ
كَفَيْتُكَ لا تَلْقَى من الناس واحِداً ... تنَخَّلَ منها مِثْلَ ما يَتَنَخَّلُ
يُثَقِّفُهَا حتَّى تَلِينَ كُعُوبُهَا ... فيُقْصِرَ عنها من يُسِىءُ ويَعْمَلُ
فاعترضه مزردٌ أخو الشماخ فقال:
فلَسْتَ كحَسَّانَ الحُسَامِ ابنِ ثابِتٍ ... ولَسْتَ كَشَمَّاخٍ ولا كالمُخَبَّلِ
فباسْتِكَ إِنْ خَلَّفْتَنِي خَلْفَ شاعِرٍ ... من النِاس لا أُكْفَى ولا أَتَنَخَّلُ
وقال الكميت:
فدُونَكَ مُقْرَبَةً لا تُسَا ... طُ كَرْهاً بِسَوطٍ ولا تُرْكَلُ
مُهَذَّبَةً لا كَقْوَلِ الهُذا ... ءِ مِمَنْ يُسِىءُ ومَنْ يَعْمَلُ
وما ضَرَّها أَنَّ كَعْباً ثَوَى ... وفَوَّزَ من بَعْدِهِ جَرْوَلُ
رد: كتاب الشعر و الشعراء...
النابغة الذبياني
هو زياد بن معاوية، ويكنى أبا أمامة، ويقال أبا ثمامة، وأهل الحجاز يفضلون النابغة وزهيراٍ.
وقال شعيب بن صخر: سمعت عيسى بن عمر ينشد عامر بن عبد الملك المسمعي شعر النابغة، فقلت: يا أبا عبد الله، هذا والله الشعر، لا قول الأعشى:
لَسْنا نُقاتِل بالعُصِ ... ىِّ ولا نُرامِى بالحِجارَهْ
ويقال: كان النابغة أحسنهم ديباجة شعرٍ، وأكثرهم رونق كلامٍ، وأجزلهم بيتاً، كان شعره كلاماً ليس فيه تكلف، ونبغ بالشعر بعد ما احتنك، وهلك قبل أن يهتر.
قال: وكان يقوي في شعره، فعيب ذلك عليه وأسمعوه في غناء:
أَمِنَ الِ مَيَّةَ رائِحٌ أَو مُغْتَدِ ... عَجْلانَ ذا زادٍ وغَيْرَ مُزوَّدِ
زَعَمَ البَوَارِحُ أَنَّ رِحْلتَنَا غَداً ... وبذاك خَبَّرَنا الغُدافُ الأَسْوَدُ
ففطن فلم يعد.
قال الشعبي: دخلت على عبد الملك وعنده رجل لا أعرفه، فالتفت إليه عبد الملك فقال: من أشعر الناس؟ فقال: أنا، فأظلم ما بيني وبينه، فقلت: من هذا يا أمير المؤمنين؟ فتعجب عبد الملك من عجلتي؟ فقال: هذا الأخطل، فقلت: أشعر منه الذي يقول:
هذَا غُلامٌ حَسَنٌ وَجْهُهُ ... مُسْتَقْبَلُ الخَيْرِ سَرِيعُ التَّمَامْ
للحارثِ الأَكبر والحارثِ ال ... أَصْغَرِ والأَعْرَجِ خَيْرِ الأَنامْ
ثم لِهْنْدٍ ولهنْدٍ وقَدْ ... يَنْجَعُ في الرَّوْضاتِ ماءُ الغَمامْ
ستَّةُ آبائِهِمْ ما هُمُ ... هُمْ خَيْرُ مَن يَشْرَبُ صَفْوَ المُدامْ
فقال الأخطل: صدق يا أمير المؤمنين، النابغة أشعر مني، فقال لي عبد الملك: ما تقول في النابغة؟ قلت: قد فضله عمر بن الخطاب على الشعراء غير مرةٍ، خرج وببابه وفد غطفان، فقال: أي شعرائكم الذي يقول:
أَتَيْتُكَ عارِياً خَلَقاً ثيِابي ... على خَوْف تُظَنُّ بِيَ الظُّنُونُ
فأَلْفَيْتُ الأَمانَةَ لم تَخُنْها ... كذلِكَ كان نُوحٌ لا يَخُونُ
قالوا: النابغة، قال: فأي شعرائكم الذي يقول:
حَلَفْتُ فلم أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً ... وليْسَ وراءَ اللهِ للمَرْءِ مَذْهَبُ
قالوا: النابغة، قال: فأي شعرائكم الذي يقول:
فإِنَّكَ كاللَّيْلِ الَّذي هو مْدْرِكِي ... وإنْ خِلْتُ أَنَّ المُنْتَأَى عنك واسِعُ
ويروى وازع، قالوا: النابغة، قال: هذا أشعر شعرائكم.
قال حسان: وفدت على النعمان بن المنذر فمدحته، فأجازني وأكرمني، فإني لجالسٌ عنده ذات يوم إذا صوتٌ من خلف قبته يقول:
أَنامَ أَمْ يَسْمَعُ رَبُّ القُبَّهْ ... يا أَوْهَبَ الناسِ لِعَنْسٍ صُلْبَهْ
ضَرَّابَة بالمِشْفَرِ الأَذِبَّهْ ... ذاتِ نَجاءٍ في يَدَيْها جّذْبَهْ
قال: أبو ثمامة! فدخل، فأنشده قصيدته التي على الباء والتي على العين، وكان يوم ترد فيه النعم السود، ولم يكن بأرض العرب بعيرٌ أسود إلا له، فأمر له منها بمائة بعير معها رعاؤها ومظالها وكلابها، فلم أدر على ما أحسده؟ على جودة شعره: أم على جزيل عطيته؟ قال أبو عبيدة عن الوليد بن روحٍ قال: مكث النابغة زماناً لا يقول الشعر، فأمر يوماً بغسل ثيابه وعصب حاجبيه على عينيه، فلما نظر إلى الناس قال:
المَرْءُ يَأَمُلُ أَنْ يَعِي ... شَ وطُولُ عَيْش مَّا يَضُرُّهْ
تَفْنَى بَشاشَتُهُ ويَبْ ... قَى بَعْدَ حُلُو العَيشِ مُرُّهْ
وتَخُونُهُ الأَيَّامُ حَ ... تَّى لا يَرَى شَيْئاً يَسُرُّهْ
كَمْ شامِتٍ بِىَ إنْ هَلَكْ ... تُ وقائلٍ للهِ درُّهْ
ومما يتمثل به من شعره:
نُبِّئْتُ أَنَّ أَبا قابُوسَ أَوْعَدَني ... ولا قَرارَ على زَأرٍ منَ الأَسَد
تمثل به الحجاج بن يوسف حين سخط عليه عبد الملك بن مروان.
وقوله:
فَلَوْ كَفِّى اليَمِينُ بَغَتْكَ خَوْناً ... لَأَفْرَدْتُ اليَمِينَ منَ الشِّمال
أخذه المثقب العبدي فقال:
ولَوْ أَنِي تَخالِفُني شِمالِي ... بنَصْرٍ لم تصاحِبْهَا يَمينى
وقوله:
فحَمَّلْتَني ذَنْبَ امْرِىءٍ وتَرَكْتَهُ ... كَذى العُرِّ يَكْوَى غَيرُهُ وهْو راتعُ
أخذه الكميت فقال:
ولا أَكْوِى الصِّحَاحَ براتِعَاتٍ ... بِهنَّ العُرُّ قَبْلى ما كُوِينا
وقوله:
واسْتَبْقِ وُدَّكَ للصَّدِيقِ ولا تكُنْ ... قَتَباً يَعَضٌّ بِغَارِبٍ مِلْحَاحا
أخذه ابن ميادة فقال:
ما إِنْ أُلحُّ على الإخْوانِ أَسْأَلُهُمْ ... كما يُلِحُّ بِعَضِّ الغارِبِ القَتَبُ
ويقال إن النابغة هجا النعمان بقوله:
قَبَحَ اللهُ ثُمَّ ثَنَّى بلَعْنٍ ... وارِثَ الصائِغِ الجَبَانَ الجَهُولاَ
والصائغ هو عطية، أبو سلمى، أم النعمان.
وكانت العرب تضرب أمثالاً على ألسنة الهوام.
قال المفضل الضبي: يقال امتنعت بلدةٌ على أهلها بسبب حية غلبت عليها، فخرج أخوان يريدانها، فوثبت على أحدهما فقتلته، فتمكن لها أخوه في السلاح، فقالت: هل لك أن تؤمنني فأعطيك كل يومٍ ديناراً؟ فأجابها إلى ذلك حتى أثرى، ثم ذكره أخاه، فقال: كيف يهنئني العيش بعد أخي؟ فأخذ فأساً وصار إلى جحرها، فتمكن لها، فلما خرجت ضربها على رأسها، فأثر فيه ولم يمعن، ثم طلب الدينار حين فاته قتلها! فقالت: إنه ما دام هذا القبر بفنائ وهذه الضربة برأسي فلست آمنك على نفسي! فقال النابغة في ذلك:
تَذَكَّرَ أَنَّى يَجْعَلُ اللهُ فُرْصَةً ... فيُصْبِحَ ذا مال ويَقْتُلَ واتِرَهْ
فلمّا وَقَاها اللهُ ضَرْبَةَ فأْسِهَ ... وللبِرِّ عَيْنٌ لا تُغَمِّضُ ناظرَهُ
فقالَتْ معاذَ اللهِ أُعْطِيكَ إِنني ... رأَيْتُكَ غَدَّاراً يَمِينُك فاجِرَهْ
أَبَى لِيَ قَبْرٌ لا يَزالُ مُقابِلِي ... وضَرْبَةُ فأْسٍ فَوْقَ رَأسي فاقِرَهُ
ومما أخذ منه قوله:
لَوْ أَنَّها عَرَضَتْ لِأَشْمَطَ راهِبٍ ... عَبَدَ الإِلهَ صَرُورَةً مُتَعَبدِ
لَرَنا لِبَهْجَتِها وحُسْنِ حَدِيثِها ... ولَخالَهُ رُشْداً وإنْ لم يَرْشُدِ
أخذه ربيعة بن مقرومٍ الضبي فقال:
لَوْ أَنَّها عَرَضَتْ لِأَشْمَطَ راهِبٍ ... في رأس مُشْرِفَةِ الذُّرَى يَتَبَتَّلُ
لَرَنَا لَبهْجَتها وحُسْنِ حَدِيثِها ... ولَهَمَّ من نَامُوسِهِ يَتَنَزَّلُ
ومما يتمثل به أيضاً من شعره:
ومَنْ عَصاك فعاقِبهْ مُعاقَبَةً ... تَنْهَى الظَّلُومَ ولا تَقْعُدْ على ضَمَدِ
وهو الذل والهوان. قال أوس بن حارثة: المنيه، ولا الدنيه، والنار، ولا العار.
وقال النابغة في العفة: وهو أحسن ما قيل فيه:
رِقاقُ النعالِ طَيِّبٌ حُجُزاتُهُمْ ... يُحَيَّوْنَ بالرَّيْحانِ يَوْمَ السَّباسِب
أخذه عدي بن زيدٍ فقال:
أجْلَ أَنَّ اللهَ قد فَضَّلَكُمْ ... فَوْقَ مَن أَحْكِي بصُلْبٍ وإزارِ
فالصلب: الحسب، والإزار: العفاف.
وفي أمثالهم أصدق من قطاةٍ، قال النابغة:
تَدْعُو القَطَا وبها تُدْعَى إِذَا نُسِبَتْ ... يا حُسْنَها حِينَ تَدْعُوها فتُنْتَسِبُ
وذلك لأنها تلفظ باسمها، أخذه أبو نواس فقال:
أَصْدَقُ من قَوْلِ قَطاة قَطَا
هو زياد بن معاوية بن ضباب بن جابر بن يربوع بن غيظ ابن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان. وسمى النابغة بقوله:
فَقَدْ نَبَغَتْ لنا منهم شُؤونُ
وكان شريفاً فغض منه الشعر، وكان مع النعمان بن المنذر ومع أبيه وجده، وكانوا له مكرمين.
قال ابن الكلبي: قال حسان بن ثابت: رحلت إلى النعمان، فلقيت رجلا فقال: أين تريد؟ فقلت: هذا الملك، قال: فإنك إذا جئته متروكٌ شهراً، ثم يسأل عنك رأس الشهر، ثم أنت متروكٌ شهراً آخر، ثم عسى أن يأذن لك، فإن أنت خلوت به وأعجبته فأنت مصيبٌ منه، وإن رأيت أبا أمامة النابغة فاظعن، فإنه لا شيء لك، قال: فقدمت عليه، ففعل بي ما قال، ثم خلوت به وأصبت منه مالا كثيراً ونادمته، فبينا أنا معه في قبةٍ إذ جاء رجل يرجز حول القبة:
أَنِمْتَ أَمْ تَسْمَعُ رَبَّ القُبَّهْ ... يا أَوْهَبَ الناسِ لعَنْسٍ صُلْبَهْ
ضَرَّابَةٍ بالمُشفَرِ الأَذِبَّهْ ... ذاتِ هِبَاتٍ في يَدَيهَا جُلْبَهْ
فقال النعمان: أبو أمامة! فأذنوا له، فدخل فحياه وشرب معه، ووردت النعم السود، ولم يكن لأحد من العرب بعيرٌ أسود يعلم مكانه، ولا يفتحل أحد فحلا أسود، فاستأذنه أن ينشده، فأنشده كلمته التي يقول فيها:
فإِنَّكَ شَمْسٌ والمُلُوكُ كَوَاكبٌ ... إِذا طَلَعَتْ لم يَبْدُ منهنَّ كَوْكَبُ
فدفع إليه مائة ناقةٍ من الإبل السود، فيها رعاؤها، فما حسدت أحداً حسدى النابغة، لما رأيت من جزيل عطيته، وسمعت من فضل شعره.
ثم إن النعمان بلغ عنه شيئاً، فنذر دمه، فسار النابغة إلى ملوك غسان، وقد اختلفوا في السبب الذي بلغه عنه، فقال قوم: ذكروا أنه هجاه فقال:
مَلِكٌ يُلاعِبُ أُمَّه وقَطِينَه ... رِخْوُ المَفاصل أَيْرُهُ كالمِرْوَد
وهجاه أيضاً فقال قصيدةٌ فيها:
قَبَحَ اللهُ ثم ثَنَّى بلَعْنٍ ... وارِثَ الصائغِ الجَبَانَ الجَهُولاَ
مَنْ يَضُرُّ الأَدْنى ويَعْجَزُ عن ضُ ... رِّ الأَقَاصِي ومَن يَخُونُ الخَلِيلاَ
يَجْمَعُ الجَيْشَ ذا الأُلُوفِ ويَغْزُو ... ثم لا يَرْزَأُ العَدُو فَتِيلاَ
ووارث الصائغ هو النعمان بن المنذر، وكان الصائغ جد النعمان بن المنذر، وأمه سلمى بنته، واسمه عطية، ومنزله فدك.
ويقال إن هذا الشعر والذي قبله لم يقله النابغة، وإنما قاله على لسانه قومٌ حسدوه، منهم عبد قيس بن خفافٍ التميمي ومنهم مرة بن ربيعة ابن قرثعٍ السعدي.
ويقال: كان السبب في مفارقته إياه ومصيره إلى غسان أن النعمان قال له وعنده المتجردة امرأته: صفها لي في شعرك يا أبا أمامة! فقال قصيدته التي أولها:
أَمِنَ الِ مَيَّةَ رائِحٌ أَو مُغْتَدِ
وقد ذكر فيها بطنها وعكنها ومتنها وروادفها وفرجها فقال:
وإذا لَمَسْتَ لَمَسْتَ أَخْثَمَ جاثِماً ... مُتَحَيِّزاً بمكانِهِ مِلءِ اليَدِ
وإِذا طَعَنْتَ طَعَنْتَ في مُسْتَهْدِفٍ ... رابِي المَجَسَّةِ بالعَبِيرِ مُقرْمَدِ
وإِذا نَزَعْتَ نَزَعْتَ عن مُسْتَحْصِف ... نَزْعَ الحَزَوَّرِ بالرِّشاءِ المُحْصَدِ
وكان للنعمان نديمٌ يقال له المنخل اليشكري يتهم بالمتجردة، ويظن بولد النعمان منها أنهم منه، وكان المنخل جميلاً، وكان النعمان قصيراً دميماً أبرش، فلما سمع المنخل هذا الشعر قال للنعمان: ما يستطيع أن يقول مثل هذا الشعر إلا من قد جرب! فوقر ذلك في نفسه، وبلغ النابغة ذلك، فخافه فهرب إلى غسان، فصار فيهم، وانقطع إلى عمرو بن الحرث الأصغر بن الحرث الأعرج بن الحرث الأكبر بن أبي شمر الغساني، وإلى أخيه النعمان بن الحرث، فأقام النابغة فيهم فامتدحهم، فغم ذلك النعمان، وبلغه أن الذي قذف به عنده باطل، فبعث إليه: إنك صرت إلى قومٍ قتلوا جدي فأقمت فيهم تمدحهم، ولو كنت صرت إلى قومك لقد كان لك فيهم ممتنعٌ وحصنٌ، إن كنا أردنا بك ما ظننت، وسأله أن يعود إليه، فقال شعره الذي يعتذر فيه، وقدم عليه مع زبان بن سيار ومنظور بن سيار الفزاريين، وكان بينهما وبين النعمان دخللٌ، فضرب لهما قبةٌ، ولا يشعر أن النابغة معهما، ودس النابغة أبياتاً من قصيدته:
يا دارَ مَيَّةَ بالعَلْيَاءِ فالسَّنَدِ
وهي:
نُبِّئْتُ أَنَّ أَبا قابُوسَ أَوْعَدَني ... ولا قَرارَ على زأرٍ منَ الأَسَدِ
مَهْلاً فِدَاءً لَّكَ الأَقوامُ كُلُّهُمُ ... وما أُثَمِّرُ مِن مالِ ومن ولَدِ
فلا لَعَمْرُ الَّذي مَسَّحْتُ كَعْبَتَه ... وما أُرِيقَ على الأَنْصَابِ من جَسَدِ
ما إنْ بَدَأتُ بشيءٍ أَنت تَكْرَهُهُ ... إذَنْ فلا رَفَعَتْ سَوْطي إلىَّ يَدِي
فلما سمع النعمان الشعر أقسم بالله إنه لشعر النابغة، وسأل عنه، فأخبر أنه مع الفزاريين، وكلماه فيه فأمنه.
قال الأصمعي: كان النابغة يضرب له قبةٌ حمراء من أدمٍ بسوق عكاظٍ، فتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها.
وقال أبو عبيدة: يقول من فضل النابغة على جميع الشعراء: هو أوضحهم كلاماً، وأقلهم سقطاً وحشواً، وأجودهم مقاطع، وأحسنهم مطالع، ولشعره ديباجةٌ، إن شئت قلت: ليس بشعرٍ مولفٍ، من تأنثه ولينه، وإن شئت قلت: صخرةٌ لو رديت بها الجبال لأزالتها، قال: وسمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: كان الأخطل يشبه بالنابغة.
قال: وكان يقوي في شعره، فدخل يثرب فغنى بشعره، ففطن فلم يعد للإقواء.
ومما سبق إليه النابغة فأخذ منه قوله في المرأة:
لو أَنَّها عرضت.... ... ........البيتين
أخذه بعض شعراء ضبة، وأحسبه ربيعة بن مقروم فقال:
لَوْ أَنها........ ... .......البيتين
وقال النابغة:
فاستَبْقِ وُدَّكَ........ ... البيت
أخذه ابن ميادة فقال:
ما إنْ أُلِحُّ......... ... .....البيت
ومما أخذه العلماء عليه قوله في صفة الثور:
تَحِيدُ عن أَسْتَنٍ سُودٍ أَسافِلُهُ ... مَشْىَ الإماءِ الغَوَاديِ تَحْمِلُ الحُزَمَا
قال الأصمعي: وإنما توصف الإماء في مثل هذا الموضع بالرواح لا بالغدو، لأنهن يجئن بالحطب إذا رحن، ومثله قول الأخنس التغلبي:
يَظَلُّ بها رُبْدُ النعامِ كأَنَّها ... إماءٌ تُزَجَّى بالعَشِىِّ حَوَاطِبُ
وقال بعض من طلب له التخرج: إنما أراد أن الإماء تغدو لحمل الحزم رواحاً.
وأخذوا عليه قوله:
تَخُبُّ إلى النُّعْمان حتَّى تَنَالَهُ ... فِدًى لكَ من رَبٍّ طَريفي وتَالِدي
وكُنْتُ امْرَءًا لاَ أَمْدَحُ الدَّهْرَ سُوقَةً ... فلَسْتُ على خَيْرٍ أَتاكَ بحاسدِ
فامتن عليه بمدحه، وجعله خيراً سيق إليه لا يحسده عليه.
وأخذوا عليه قوله:
إذَا ما غَزَا بالجَيْش حَلَّقَ فَوْقَهُ ... عَصَائِبُ طَيْرٍ تَهْتَدِي بعَصائِبِ
جوانحَ قد أَيْقَنَّ أَنَّ قَبِيلَهُ ... إِذا ما التْقَىَ الجَمْعَانِ أَوَّلُ غالِبِ
جعل الطير تعلم الغالب من المغلوب قبل التقاء الجمعين، والطير قد تتبع العساكر للقتلى، ولكنها لا تعلم أيها يغلب.
وأخذوا عليه قوله في وصف السيوف:
يطيرُ فُضَاضاً حَوْلَها كُلُّ قَوْنَس ... ويَتْبُعُها منهم فَرَاشُ الحَواجِبِ
تَقُدُّ السَّلُوقِيَّ المُضَاعَفَ نَسْجُهُ ... ويُوقِدْنَ بالصُّفَّاحِ نارَ الحُبَاحِبِ
وذكر أنها تقد الدروع التي ضوعف نسجها والفارس والفرس، حتى تبلغ الأرض فتنقدح النار بها من الحجارة.
وقال صالح بن حسان لجلسائه: أعلمتم أن النابغة كان مخنثاً؟! قالوا: وكيف علمت ذلك؟ قال: بقوله:
سَقَطَ النَّصيفُ ولم تُردْ إِسْقاطَهُ ... فتَنَاوَلَتْهُ واتَّقَتْنَا بالَيدِ
لا والله ما عرف تلك الإشارة إلا مخنثٌ؟! قالوا: وقد سبق في صفة الثور إلى معنًى لم يحسن فيه، وأحسن فيه غيره، قال يذكره:
من وَحْشِ وَجْرَةَ مَوْشِىٍّ أَكَارِعُهُ ... طاوِى المَصيرِ كسَيْفِ الصَّيْقَلِ الفَرِدِ
أراد بالفرد: أنه مسلول من غمده، وأخذه الطرماح فأحسن، قال يذكر الثور:
يَبْدوُ وتُضْمُرهُ البلادُ كأَنَّه ... سَيْفٌ على شَرَف يُسَلُّ ويُغْمَدُ
وكان الأصمعي يستحسن قول الطرماح.
قالوا: وأفرط في وصف العنق بالطول، فقال يذكر امرأةٌ:
إذَا ارتَعَثَتْ خاف الجَبَانُ رِعاثَهَا ... ومَن يَتَعَلَّقْ حَيْثُ عُلَّقَ يَفْرَق
والرعاث: القرط، وقال غيره فأحسن:
على أَنَّ حِجْلَيْهَا وإنْ قُلْتَ أُوسِعَا ... صَمُوتَانِ من مَلْءٍ وقِلَّةِ مَنْطِقِ
ومما سبق إليه ولم ينازعه قوله:
فإِنَّكَ كاللَّيْلِ الذي هو مُدْركي ... وإنْ خِلتْ أَنَّ المُنْتَأَى عنكَ واسِعُ
ثم قال:
خَطَاطِيفُ حُجْنٌ في حِبَالٍ مَتِينَةٍ ... تَمُدُّ بها أَيْدٍ إِليك نَوَازِعُ
قال أبو محمد: رأيت قوماً يستجيدونه، وهو عندي غير جيدٍ في المعنى ولا التشبيه.
وكان الأصمعي يكثر التعجب من قوله:
وعَيَّرَتْني بنو ذُبْيَانَ خَشْيَتَهُ ... وهل علىَّ بأَنْ أَخْشَاكَ من عارِ
قال: ومما سبق إليه ولم يجاذبه قوله في أول شعره:
كِلِينِي لِهَمٍّ يا أُمَيْمَةَ ناصِبِ
قالوا: وقايس في شعره فأحسن، قال للنعمان حين فارقه:
ولكِنَّني كُنْتُ امْرَأً لِىَ جانِبٌ ... منَ الأرض فيه مُسْتَمَازٌ ومَذْهَبُ
مُلُوكٌ وإخْوَانٌ إِذَا ما لَقيتُهُمْ ... أُحَكّمُ في أَمْوَالِهم وأُقَرَّبُ
كفِعْلَكَ في قَوْمٍ أَرَاكَ اصْطَنَعْتُهم ... وَلم تَرَهُمْ في شُكْرِ ذلك أَذْنَبُوا
يقول: اجعلني كقومٍ صاروا إليك وكانوا مع غيرك، فاصطنعتهم وأحسنت إليهم، ولم ترهم مذنبين إذ فارقوا من كانوا معه، يقول: فأنا مثلهم، صرت عنك إلى غيرك، فاصطنع إلي، فلا ترني مذنباً إذ لم تر أولئك مذنبين.
ومن جيد شعره قوله:
ولَسْتَ بمُسْتَبْقٍ أَخاً لا تَلُمُّهُ ... على شَعَثٍ أَيُّ الرجالِ المُهَذَّبُ
يقول: من لم تصلحه وتقومه من الناس فلست بمستبقيه ولا راغبٍ فيه.
ويستجاد له قوله في صفة المرأة:
نَظَرَت إِليْكَ بحاجةٍ لم تَقْضِها ... نَظَرَ السَّقِيمِ إلى وُجُوهُ العُوَّدِ
يقول: نظرت إليك ولم تقدر أن تكلمك، كما ينظر المريض إلى وجوه عواده، ولا يقدر أن يكلمهم.
ويستجاد له قوله:
تُكَلِّفُني أَنْ يَفْعَلَ الدَّهْرُ هَمَّهَاوهَلْ وَجَدَتْ قَبْلى على الدَّهْرِ قادِرَا
ومما أكفأ فيه قوله في قصيدةٍ مجرورة، أولها:
قالت بنو عامِرٍ خَالُوا بَنِي أَسَد ... يا بُؤْسَ للجَهْل ضَرَّاراً لأَقْوَامِ
وقال فيها:
تَبْدُو كَوَاكِبُهُ والشَّمْسُ طالِعَةٌ ... لا النُّورُ نُورٌ ولا الإظْلامُ إظلامُ
وقال في قصيدته التي أولها:
أَمِنَ الِ مَيَّةَ رائِحٌ أَو مُغْتَدِ
وبذاك خَبَّرَنا الغرابُ الأَسْوَدُ
هو زياد بن معاوية، ويكنى أبا أمامة، ويقال أبا ثمامة، وأهل الحجاز يفضلون النابغة وزهيراٍ.
وقال شعيب بن صخر: سمعت عيسى بن عمر ينشد عامر بن عبد الملك المسمعي شعر النابغة، فقلت: يا أبا عبد الله، هذا والله الشعر، لا قول الأعشى:
لَسْنا نُقاتِل بالعُصِ ... ىِّ ولا نُرامِى بالحِجارَهْ
ويقال: كان النابغة أحسنهم ديباجة شعرٍ، وأكثرهم رونق كلامٍ، وأجزلهم بيتاً، كان شعره كلاماً ليس فيه تكلف، ونبغ بالشعر بعد ما احتنك، وهلك قبل أن يهتر.
قال: وكان يقوي في شعره، فعيب ذلك عليه وأسمعوه في غناء:
أَمِنَ الِ مَيَّةَ رائِحٌ أَو مُغْتَدِ ... عَجْلانَ ذا زادٍ وغَيْرَ مُزوَّدِ
زَعَمَ البَوَارِحُ أَنَّ رِحْلتَنَا غَداً ... وبذاك خَبَّرَنا الغُدافُ الأَسْوَدُ
ففطن فلم يعد.
قال الشعبي: دخلت على عبد الملك وعنده رجل لا أعرفه، فالتفت إليه عبد الملك فقال: من أشعر الناس؟ فقال: أنا، فأظلم ما بيني وبينه، فقلت: من هذا يا أمير المؤمنين؟ فتعجب عبد الملك من عجلتي؟ فقال: هذا الأخطل، فقلت: أشعر منه الذي يقول:
هذَا غُلامٌ حَسَنٌ وَجْهُهُ ... مُسْتَقْبَلُ الخَيْرِ سَرِيعُ التَّمَامْ
للحارثِ الأَكبر والحارثِ ال ... أَصْغَرِ والأَعْرَجِ خَيْرِ الأَنامْ
ثم لِهْنْدٍ ولهنْدٍ وقَدْ ... يَنْجَعُ في الرَّوْضاتِ ماءُ الغَمامْ
ستَّةُ آبائِهِمْ ما هُمُ ... هُمْ خَيْرُ مَن يَشْرَبُ صَفْوَ المُدامْ
فقال الأخطل: صدق يا أمير المؤمنين، النابغة أشعر مني، فقال لي عبد الملك: ما تقول في النابغة؟ قلت: قد فضله عمر بن الخطاب على الشعراء غير مرةٍ، خرج وببابه وفد غطفان، فقال: أي شعرائكم الذي يقول:
أَتَيْتُكَ عارِياً خَلَقاً ثيِابي ... على خَوْف تُظَنُّ بِيَ الظُّنُونُ
فأَلْفَيْتُ الأَمانَةَ لم تَخُنْها ... كذلِكَ كان نُوحٌ لا يَخُونُ
قالوا: النابغة، قال: فأي شعرائكم الذي يقول:
حَلَفْتُ فلم أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً ... وليْسَ وراءَ اللهِ للمَرْءِ مَذْهَبُ
قالوا: النابغة، قال: فأي شعرائكم الذي يقول:
فإِنَّكَ كاللَّيْلِ الَّذي هو مْدْرِكِي ... وإنْ خِلْتُ أَنَّ المُنْتَأَى عنك واسِعُ
ويروى وازع، قالوا: النابغة، قال: هذا أشعر شعرائكم.
قال حسان: وفدت على النعمان بن المنذر فمدحته، فأجازني وأكرمني، فإني لجالسٌ عنده ذات يوم إذا صوتٌ من خلف قبته يقول:
أَنامَ أَمْ يَسْمَعُ رَبُّ القُبَّهْ ... يا أَوْهَبَ الناسِ لِعَنْسٍ صُلْبَهْ
ضَرَّابَة بالمِشْفَرِ الأَذِبَّهْ ... ذاتِ نَجاءٍ في يَدَيْها جّذْبَهْ
قال: أبو ثمامة! فدخل، فأنشده قصيدته التي على الباء والتي على العين، وكان يوم ترد فيه النعم السود، ولم يكن بأرض العرب بعيرٌ أسود إلا له، فأمر له منها بمائة بعير معها رعاؤها ومظالها وكلابها، فلم أدر على ما أحسده؟ على جودة شعره: أم على جزيل عطيته؟ قال أبو عبيدة عن الوليد بن روحٍ قال: مكث النابغة زماناً لا يقول الشعر، فأمر يوماً بغسل ثيابه وعصب حاجبيه على عينيه، فلما نظر إلى الناس قال:
المَرْءُ يَأَمُلُ أَنْ يَعِي ... شَ وطُولُ عَيْش مَّا يَضُرُّهْ
تَفْنَى بَشاشَتُهُ ويَبْ ... قَى بَعْدَ حُلُو العَيشِ مُرُّهْ
وتَخُونُهُ الأَيَّامُ حَ ... تَّى لا يَرَى شَيْئاً يَسُرُّهْ
كَمْ شامِتٍ بِىَ إنْ هَلَكْ ... تُ وقائلٍ للهِ درُّهْ
ومما يتمثل به من شعره:
نُبِّئْتُ أَنَّ أَبا قابُوسَ أَوْعَدَني ... ولا قَرارَ على زَأرٍ منَ الأَسَد
تمثل به الحجاج بن يوسف حين سخط عليه عبد الملك بن مروان.
وقوله:
فَلَوْ كَفِّى اليَمِينُ بَغَتْكَ خَوْناً ... لَأَفْرَدْتُ اليَمِينَ منَ الشِّمال
أخذه المثقب العبدي فقال:
ولَوْ أَنِي تَخالِفُني شِمالِي ... بنَصْرٍ لم تصاحِبْهَا يَمينى
وقوله:
فحَمَّلْتَني ذَنْبَ امْرِىءٍ وتَرَكْتَهُ ... كَذى العُرِّ يَكْوَى غَيرُهُ وهْو راتعُ
أخذه الكميت فقال:
ولا أَكْوِى الصِّحَاحَ براتِعَاتٍ ... بِهنَّ العُرُّ قَبْلى ما كُوِينا
وقوله:
واسْتَبْقِ وُدَّكَ للصَّدِيقِ ولا تكُنْ ... قَتَباً يَعَضٌّ بِغَارِبٍ مِلْحَاحا
أخذه ابن ميادة فقال:
ما إِنْ أُلحُّ على الإخْوانِ أَسْأَلُهُمْ ... كما يُلِحُّ بِعَضِّ الغارِبِ القَتَبُ
ويقال إن النابغة هجا النعمان بقوله:
قَبَحَ اللهُ ثُمَّ ثَنَّى بلَعْنٍ ... وارِثَ الصائِغِ الجَبَانَ الجَهُولاَ
والصائغ هو عطية، أبو سلمى، أم النعمان.
وكانت العرب تضرب أمثالاً على ألسنة الهوام.
قال المفضل الضبي: يقال امتنعت بلدةٌ على أهلها بسبب حية غلبت عليها، فخرج أخوان يريدانها، فوثبت على أحدهما فقتلته، فتمكن لها أخوه في السلاح، فقالت: هل لك أن تؤمنني فأعطيك كل يومٍ ديناراً؟ فأجابها إلى ذلك حتى أثرى، ثم ذكره أخاه، فقال: كيف يهنئني العيش بعد أخي؟ فأخذ فأساً وصار إلى جحرها، فتمكن لها، فلما خرجت ضربها على رأسها، فأثر فيه ولم يمعن، ثم طلب الدينار حين فاته قتلها! فقالت: إنه ما دام هذا القبر بفنائ وهذه الضربة برأسي فلست آمنك على نفسي! فقال النابغة في ذلك:
تَذَكَّرَ أَنَّى يَجْعَلُ اللهُ فُرْصَةً ... فيُصْبِحَ ذا مال ويَقْتُلَ واتِرَهْ
فلمّا وَقَاها اللهُ ضَرْبَةَ فأْسِهَ ... وللبِرِّ عَيْنٌ لا تُغَمِّضُ ناظرَهُ
فقالَتْ معاذَ اللهِ أُعْطِيكَ إِنني ... رأَيْتُكَ غَدَّاراً يَمِينُك فاجِرَهْ
أَبَى لِيَ قَبْرٌ لا يَزالُ مُقابِلِي ... وضَرْبَةُ فأْسٍ فَوْقَ رَأسي فاقِرَهُ
ومما أخذ منه قوله:
لَوْ أَنَّها عَرَضَتْ لِأَشْمَطَ راهِبٍ ... عَبَدَ الإِلهَ صَرُورَةً مُتَعَبدِ
لَرَنا لِبَهْجَتِها وحُسْنِ حَدِيثِها ... ولَخالَهُ رُشْداً وإنْ لم يَرْشُدِ
أخذه ربيعة بن مقرومٍ الضبي فقال:
لَوْ أَنَّها عَرَضَتْ لِأَشْمَطَ راهِبٍ ... في رأس مُشْرِفَةِ الذُّرَى يَتَبَتَّلُ
لَرَنَا لَبهْجَتها وحُسْنِ حَدِيثِها ... ولَهَمَّ من نَامُوسِهِ يَتَنَزَّلُ
ومما يتمثل به أيضاً من شعره:
ومَنْ عَصاك فعاقِبهْ مُعاقَبَةً ... تَنْهَى الظَّلُومَ ولا تَقْعُدْ على ضَمَدِ
وهو الذل والهوان. قال أوس بن حارثة: المنيه، ولا الدنيه، والنار، ولا العار.
وقال النابغة في العفة: وهو أحسن ما قيل فيه:
رِقاقُ النعالِ طَيِّبٌ حُجُزاتُهُمْ ... يُحَيَّوْنَ بالرَّيْحانِ يَوْمَ السَّباسِب
أخذه عدي بن زيدٍ فقال:
أجْلَ أَنَّ اللهَ قد فَضَّلَكُمْ ... فَوْقَ مَن أَحْكِي بصُلْبٍ وإزارِ
فالصلب: الحسب، والإزار: العفاف.
وفي أمثالهم أصدق من قطاةٍ، قال النابغة:
تَدْعُو القَطَا وبها تُدْعَى إِذَا نُسِبَتْ ... يا حُسْنَها حِينَ تَدْعُوها فتُنْتَسِبُ
وذلك لأنها تلفظ باسمها، أخذه أبو نواس فقال:
أَصْدَقُ من قَوْلِ قَطاة قَطَا
هو زياد بن معاوية بن ضباب بن جابر بن يربوع بن غيظ ابن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان. وسمى النابغة بقوله:
فَقَدْ نَبَغَتْ لنا منهم شُؤونُ
وكان شريفاً فغض منه الشعر، وكان مع النعمان بن المنذر ومع أبيه وجده، وكانوا له مكرمين.
قال ابن الكلبي: قال حسان بن ثابت: رحلت إلى النعمان، فلقيت رجلا فقال: أين تريد؟ فقلت: هذا الملك، قال: فإنك إذا جئته متروكٌ شهراً، ثم يسأل عنك رأس الشهر، ثم أنت متروكٌ شهراً آخر، ثم عسى أن يأذن لك، فإن أنت خلوت به وأعجبته فأنت مصيبٌ منه، وإن رأيت أبا أمامة النابغة فاظعن، فإنه لا شيء لك، قال: فقدمت عليه، ففعل بي ما قال، ثم خلوت به وأصبت منه مالا كثيراً ونادمته، فبينا أنا معه في قبةٍ إذ جاء رجل يرجز حول القبة:
أَنِمْتَ أَمْ تَسْمَعُ رَبَّ القُبَّهْ ... يا أَوْهَبَ الناسِ لعَنْسٍ صُلْبَهْ
ضَرَّابَةٍ بالمُشفَرِ الأَذِبَّهْ ... ذاتِ هِبَاتٍ في يَدَيهَا جُلْبَهْ
فقال النعمان: أبو أمامة! فأذنوا له، فدخل فحياه وشرب معه، ووردت النعم السود، ولم يكن لأحد من العرب بعيرٌ أسود يعلم مكانه، ولا يفتحل أحد فحلا أسود، فاستأذنه أن ينشده، فأنشده كلمته التي يقول فيها:
فإِنَّكَ شَمْسٌ والمُلُوكُ كَوَاكبٌ ... إِذا طَلَعَتْ لم يَبْدُ منهنَّ كَوْكَبُ
فدفع إليه مائة ناقةٍ من الإبل السود، فيها رعاؤها، فما حسدت أحداً حسدى النابغة، لما رأيت من جزيل عطيته، وسمعت من فضل شعره.
ثم إن النعمان بلغ عنه شيئاً، فنذر دمه، فسار النابغة إلى ملوك غسان، وقد اختلفوا في السبب الذي بلغه عنه، فقال قوم: ذكروا أنه هجاه فقال:
مَلِكٌ يُلاعِبُ أُمَّه وقَطِينَه ... رِخْوُ المَفاصل أَيْرُهُ كالمِرْوَد
وهجاه أيضاً فقال قصيدةٌ فيها:
قَبَحَ اللهُ ثم ثَنَّى بلَعْنٍ ... وارِثَ الصائغِ الجَبَانَ الجَهُولاَ
مَنْ يَضُرُّ الأَدْنى ويَعْجَزُ عن ضُ ... رِّ الأَقَاصِي ومَن يَخُونُ الخَلِيلاَ
يَجْمَعُ الجَيْشَ ذا الأُلُوفِ ويَغْزُو ... ثم لا يَرْزَأُ العَدُو فَتِيلاَ
ووارث الصائغ هو النعمان بن المنذر، وكان الصائغ جد النعمان بن المنذر، وأمه سلمى بنته، واسمه عطية، ومنزله فدك.
ويقال إن هذا الشعر والذي قبله لم يقله النابغة، وإنما قاله على لسانه قومٌ حسدوه، منهم عبد قيس بن خفافٍ التميمي ومنهم مرة بن ربيعة ابن قرثعٍ السعدي.
ويقال: كان السبب في مفارقته إياه ومصيره إلى غسان أن النعمان قال له وعنده المتجردة امرأته: صفها لي في شعرك يا أبا أمامة! فقال قصيدته التي أولها:
أَمِنَ الِ مَيَّةَ رائِحٌ أَو مُغْتَدِ
وقد ذكر فيها بطنها وعكنها ومتنها وروادفها وفرجها فقال:
وإذا لَمَسْتَ لَمَسْتَ أَخْثَمَ جاثِماً ... مُتَحَيِّزاً بمكانِهِ مِلءِ اليَدِ
وإِذا طَعَنْتَ طَعَنْتَ في مُسْتَهْدِفٍ ... رابِي المَجَسَّةِ بالعَبِيرِ مُقرْمَدِ
وإِذا نَزَعْتَ نَزَعْتَ عن مُسْتَحْصِف ... نَزْعَ الحَزَوَّرِ بالرِّشاءِ المُحْصَدِ
وكان للنعمان نديمٌ يقال له المنخل اليشكري يتهم بالمتجردة، ويظن بولد النعمان منها أنهم منه، وكان المنخل جميلاً، وكان النعمان قصيراً دميماً أبرش، فلما سمع المنخل هذا الشعر قال للنعمان: ما يستطيع أن يقول مثل هذا الشعر إلا من قد جرب! فوقر ذلك في نفسه، وبلغ النابغة ذلك، فخافه فهرب إلى غسان، فصار فيهم، وانقطع إلى عمرو بن الحرث الأصغر بن الحرث الأعرج بن الحرث الأكبر بن أبي شمر الغساني، وإلى أخيه النعمان بن الحرث، فأقام النابغة فيهم فامتدحهم، فغم ذلك النعمان، وبلغه أن الذي قذف به عنده باطل، فبعث إليه: إنك صرت إلى قومٍ قتلوا جدي فأقمت فيهم تمدحهم، ولو كنت صرت إلى قومك لقد كان لك فيهم ممتنعٌ وحصنٌ، إن كنا أردنا بك ما ظننت، وسأله أن يعود إليه، فقال شعره الذي يعتذر فيه، وقدم عليه مع زبان بن سيار ومنظور بن سيار الفزاريين، وكان بينهما وبين النعمان دخللٌ، فضرب لهما قبةٌ، ولا يشعر أن النابغة معهما، ودس النابغة أبياتاً من قصيدته:
يا دارَ مَيَّةَ بالعَلْيَاءِ فالسَّنَدِ
وهي:
نُبِّئْتُ أَنَّ أَبا قابُوسَ أَوْعَدَني ... ولا قَرارَ على زأرٍ منَ الأَسَدِ
مَهْلاً فِدَاءً لَّكَ الأَقوامُ كُلُّهُمُ ... وما أُثَمِّرُ مِن مالِ ومن ولَدِ
فلا لَعَمْرُ الَّذي مَسَّحْتُ كَعْبَتَه ... وما أُرِيقَ على الأَنْصَابِ من جَسَدِ
ما إنْ بَدَأتُ بشيءٍ أَنت تَكْرَهُهُ ... إذَنْ فلا رَفَعَتْ سَوْطي إلىَّ يَدِي
فلما سمع النعمان الشعر أقسم بالله إنه لشعر النابغة، وسأل عنه، فأخبر أنه مع الفزاريين، وكلماه فيه فأمنه.
قال الأصمعي: كان النابغة يضرب له قبةٌ حمراء من أدمٍ بسوق عكاظٍ، فتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها.
وقال أبو عبيدة: يقول من فضل النابغة على جميع الشعراء: هو أوضحهم كلاماً، وأقلهم سقطاً وحشواً، وأجودهم مقاطع، وأحسنهم مطالع، ولشعره ديباجةٌ، إن شئت قلت: ليس بشعرٍ مولفٍ، من تأنثه ولينه، وإن شئت قلت: صخرةٌ لو رديت بها الجبال لأزالتها، قال: وسمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: كان الأخطل يشبه بالنابغة.
قال: وكان يقوي في شعره، فدخل يثرب فغنى بشعره، ففطن فلم يعد للإقواء.
ومما سبق إليه النابغة فأخذ منه قوله في المرأة:
لو أَنَّها عرضت.... ... ........البيتين
أخذه بعض شعراء ضبة، وأحسبه ربيعة بن مقروم فقال:
لَوْ أَنها........ ... .......البيتين
وقال النابغة:
فاستَبْقِ وُدَّكَ........ ... البيت
أخذه ابن ميادة فقال:
ما إنْ أُلِحُّ......... ... .....البيت
ومما أخذه العلماء عليه قوله في صفة الثور:
تَحِيدُ عن أَسْتَنٍ سُودٍ أَسافِلُهُ ... مَشْىَ الإماءِ الغَوَاديِ تَحْمِلُ الحُزَمَا
قال الأصمعي: وإنما توصف الإماء في مثل هذا الموضع بالرواح لا بالغدو، لأنهن يجئن بالحطب إذا رحن، ومثله قول الأخنس التغلبي:
يَظَلُّ بها رُبْدُ النعامِ كأَنَّها ... إماءٌ تُزَجَّى بالعَشِىِّ حَوَاطِبُ
وقال بعض من طلب له التخرج: إنما أراد أن الإماء تغدو لحمل الحزم رواحاً.
وأخذوا عليه قوله:
تَخُبُّ إلى النُّعْمان حتَّى تَنَالَهُ ... فِدًى لكَ من رَبٍّ طَريفي وتَالِدي
وكُنْتُ امْرَءًا لاَ أَمْدَحُ الدَّهْرَ سُوقَةً ... فلَسْتُ على خَيْرٍ أَتاكَ بحاسدِ
فامتن عليه بمدحه، وجعله خيراً سيق إليه لا يحسده عليه.
وأخذوا عليه قوله:
إذَا ما غَزَا بالجَيْش حَلَّقَ فَوْقَهُ ... عَصَائِبُ طَيْرٍ تَهْتَدِي بعَصائِبِ
جوانحَ قد أَيْقَنَّ أَنَّ قَبِيلَهُ ... إِذا ما التْقَىَ الجَمْعَانِ أَوَّلُ غالِبِ
جعل الطير تعلم الغالب من المغلوب قبل التقاء الجمعين، والطير قد تتبع العساكر للقتلى، ولكنها لا تعلم أيها يغلب.
وأخذوا عليه قوله في وصف السيوف:
يطيرُ فُضَاضاً حَوْلَها كُلُّ قَوْنَس ... ويَتْبُعُها منهم فَرَاشُ الحَواجِبِ
تَقُدُّ السَّلُوقِيَّ المُضَاعَفَ نَسْجُهُ ... ويُوقِدْنَ بالصُّفَّاحِ نارَ الحُبَاحِبِ
وذكر أنها تقد الدروع التي ضوعف نسجها والفارس والفرس، حتى تبلغ الأرض فتنقدح النار بها من الحجارة.
وقال صالح بن حسان لجلسائه: أعلمتم أن النابغة كان مخنثاً؟! قالوا: وكيف علمت ذلك؟ قال: بقوله:
سَقَطَ النَّصيفُ ولم تُردْ إِسْقاطَهُ ... فتَنَاوَلَتْهُ واتَّقَتْنَا بالَيدِ
لا والله ما عرف تلك الإشارة إلا مخنثٌ؟! قالوا: وقد سبق في صفة الثور إلى معنًى لم يحسن فيه، وأحسن فيه غيره، قال يذكره:
من وَحْشِ وَجْرَةَ مَوْشِىٍّ أَكَارِعُهُ ... طاوِى المَصيرِ كسَيْفِ الصَّيْقَلِ الفَرِدِ
أراد بالفرد: أنه مسلول من غمده، وأخذه الطرماح فأحسن، قال يذكر الثور:
يَبْدوُ وتُضْمُرهُ البلادُ كأَنَّه ... سَيْفٌ على شَرَف يُسَلُّ ويُغْمَدُ
وكان الأصمعي يستحسن قول الطرماح.
قالوا: وأفرط في وصف العنق بالطول، فقال يذكر امرأةٌ:
إذَا ارتَعَثَتْ خاف الجَبَانُ رِعاثَهَا ... ومَن يَتَعَلَّقْ حَيْثُ عُلَّقَ يَفْرَق
والرعاث: القرط، وقال غيره فأحسن:
على أَنَّ حِجْلَيْهَا وإنْ قُلْتَ أُوسِعَا ... صَمُوتَانِ من مَلْءٍ وقِلَّةِ مَنْطِقِ
ومما سبق إليه ولم ينازعه قوله:
فإِنَّكَ كاللَّيْلِ الذي هو مُدْركي ... وإنْ خِلتْ أَنَّ المُنْتَأَى عنكَ واسِعُ
ثم قال:
خَطَاطِيفُ حُجْنٌ في حِبَالٍ مَتِينَةٍ ... تَمُدُّ بها أَيْدٍ إِليك نَوَازِعُ
قال أبو محمد: رأيت قوماً يستجيدونه، وهو عندي غير جيدٍ في المعنى ولا التشبيه.
وكان الأصمعي يكثر التعجب من قوله:
وعَيَّرَتْني بنو ذُبْيَانَ خَشْيَتَهُ ... وهل علىَّ بأَنْ أَخْشَاكَ من عارِ
قال: ومما سبق إليه ولم يجاذبه قوله في أول شعره:
كِلِينِي لِهَمٍّ يا أُمَيْمَةَ ناصِبِ
قالوا: وقايس في شعره فأحسن، قال للنعمان حين فارقه:
ولكِنَّني كُنْتُ امْرَأً لِىَ جانِبٌ ... منَ الأرض فيه مُسْتَمَازٌ ومَذْهَبُ
مُلُوكٌ وإخْوَانٌ إِذَا ما لَقيتُهُمْ ... أُحَكّمُ في أَمْوَالِهم وأُقَرَّبُ
كفِعْلَكَ في قَوْمٍ أَرَاكَ اصْطَنَعْتُهم ... وَلم تَرَهُمْ في شُكْرِ ذلك أَذْنَبُوا
يقول: اجعلني كقومٍ صاروا إليك وكانوا مع غيرك، فاصطنعتهم وأحسنت إليهم، ولم ترهم مذنبين إذ فارقوا من كانوا معه، يقول: فأنا مثلهم، صرت عنك إلى غيرك، فاصطنع إلي، فلا ترني مذنباً إذ لم تر أولئك مذنبين.
ومن جيد شعره قوله:
ولَسْتَ بمُسْتَبْقٍ أَخاً لا تَلُمُّهُ ... على شَعَثٍ أَيُّ الرجالِ المُهَذَّبُ
يقول: من لم تصلحه وتقومه من الناس فلست بمستبقيه ولا راغبٍ فيه.
ويستجاد له قوله في صفة المرأة:
نَظَرَت إِليْكَ بحاجةٍ لم تَقْضِها ... نَظَرَ السَّقِيمِ إلى وُجُوهُ العُوَّدِ
يقول: نظرت إليك ولم تقدر أن تكلمك، كما ينظر المريض إلى وجوه عواده، ولا يقدر أن يكلمهم.
ويستجاد له قوله:
تُكَلِّفُني أَنْ يَفْعَلَ الدَّهْرُ هَمَّهَاوهَلْ وَجَدَتْ قَبْلى على الدَّهْرِ قادِرَا
ومما أكفأ فيه قوله في قصيدةٍ مجرورة، أولها:
قالت بنو عامِرٍ خَالُوا بَنِي أَسَد ... يا بُؤْسَ للجَهْل ضَرَّاراً لأَقْوَامِ
وقال فيها:
تَبْدُو كَوَاكِبُهُ والشَّمْسُ طالِعَةٌ ... لا النُّورُ نُورٌ ولا الإظْلامُ إظلامُ
وقال في قصيدته التي أولها:
أَمِنَ الِ مَيَّةَ رائِحٌ أَو مُغْتَدِ
وبذاك خَبَّرَنا الغرابُ الأَسْوَدُ
رد: كتاب الشعر و الشعراء...
المسيب بن علس
هو من شعراء بكرٍ بن وائلٍ المعدودين، وخال الأعشى، وهو القائل:
ولَقَدْ بَلَوْتُ الفاعِلينَ وفِعْلَهم ... فَلِذِى الرُّقَيْبةِ ما لَهُ مِثْلُ
كَفَّاهُ مُخْلِفَةٌ ومُتْلِفَةٌ ... وعَطاؤُهُ مُتَخَرِّقٌ جَزْلُ
ويستحسن قوله:
تَبِيتُ المُلوكُ على عَتْبِها ... وشَيْبَانُ إنْ غَضِبَتْ تُعْتَبُ
وكالشُّهْدِ بالراح أَخْلاَقُهُمْ ... وأَحْلامُهمْ منهما أَعْذَبُ
وكالمِسكِ تُرْبُ مَناماتِهمْ ... ورَيَّا قُبُورِهِمُ أَطْيَبُ
هو من جماعة وهم من بني ضبيعة بن ربيعة بن نزار، ويكنى أبا الفضة، وهو خال الأعشى أعشى قيس، وكان الأعشى راويته.
واسمه زهير بن علسٍ، وإنما لقب المسيب ببيتٍ قاله. وهو جاهلي لم يدرك الإسلام، وكان امتدح بعض الأعاجم، فأعطاه ثم أتى عدواً له من الأعاجم يسأله فسمه فمات، ولا عقب له.
ومما سبق إليه فأخذ منه قوله يذكر ثغر المرأة:
وكأَنَّ طَعْمَ الزَّنْجَبِيل به ... إِذْ ذُقْتَهُ وسُلافَةَ الخَمْرِ
شَرِقاً بماءِ الذَّوْبِ أَسْلَمَهُ ... لِلُمُبْتَغيهِ مَعَاقلُ الدَّبْرِ
وقال الجعدي:
وكأنَّ فاها بات مُغْتَبِقاً ... بَعْدَ الكَرَى من طَيِّبِ الخَمْرِ
شَرقاً بِمَاءِ الذَّوْبِ أَسْلَمَهُ ... بالطَّوْدِ أَيْمَنُ من قُرَى النَّسْر
وقال المسيب في النحل:
سُودُ الرُّؤُوِس لَصوْتَهَا زَجَلٌ ... مَحْفُوفةٌ بَمَسارِبٍ خُضْرٍ
وقال الجعدي:
قُرْعُ الرُّؤوِس لصَوْتِها زَجَلٌ ... في النَّبْعِ والكَحْلاَءِ والسِّدْرِ
بَكَرَتْ تُبَغِّي الخَيْرَ في سُبُل ... مَخْرُوفَة ومسارِب خَضْر
وقال المسيب يذكر النحل:
بَكَرَتْ تَعَرَّضُ في مَرَاتِعهَا ... فَوْقَ الهِضَابِ بمَعقْلِ الوَبْر
وغَدَتْ لمَسْرَحِها وخالفَهَا ... مُتَسَرْبِلٌ أَدَماً على الصَّدْرِ
فأَصاب ما حَذِرتْ ولو عَلِمَتْ ... حَدِبَتْ عليه بِضَيِّقٍ وَعْر
حَتَّى تَحَدَّرَ من عَوَازِبِهِ ... أُصُلاً بسَبْعِ ضَوَائِن وُفْر
وقال الجعدي:
حَتَّى إِذا عَقَلَتْ وخالَفَهَا ... مُتَسَرْبِلٌ أَدَماً على الصَّدْرِ
صدَعٌ أُسَيِّدُ من شَنُوءَة مَشَّ ... اءٌ قَتَلْنَ أَباه في الدَّهْرِ
يَمْشِي بمِحْجَنِه وقِرْبَتِهِ ... مُتَلَطِّفاً كَتَلَطُّفِ الوَبْرِ
فأَصابَ غِرَّتَها ولو شَعَرَتْ ... حَدِبَتْ عليهِ بضَيِّق وَعْرِ
حتَّى تَحَدَّرَ من منازِلها ... أُصُلاً بسَبْعِ ضَوائِنِ وُفْرِ
ومما يستجاد له من شعره قوله في ذي الرقيبة
ولقد شهدت...... ... ......البيتين
وقوله في بني شيبان:
تبيت الملوك........ ... .......الثلاثة الأبيات
ومما سبق إليه فأخذ منه قوله في الناقة:
مَرِحَتْ يَداها للَّنجاءِ كأَنَّما ... تَكْرُو بِكَفَّىْ ما قِطٍ في قَاعِ
تكرو: تلعب بالكرة، والماقط: الذي يضرب بالكرة الحائط، ثم يأخذها.
أخذه الشماخ فقال:
كأَنَّ أَوْبَ يَدِيْها حينَ عاوَدَها ... أَوْبُ المِراحِ وقد همُّوا بتَرْحالِ
مَقْطُ الكُرِينَ على مَكْنُوسَة زَلَفٍ ... في ظَهْرِ حَنَّانَةِ النِّيَريْن مِعْوالِ
ويستجاد له قوله:
لو كُنْتَ من شيءٍ سِوَى بَشَرٍ ... كنْتَ المُنَوِّرِ لَيْلَةَ البَدْرِ
ويستجاد له قوله في المرأة:
تَامَتْ فٌؤَادَكَ إِذْ له عَرَضَتْ ... حَسَنٌ برَأي العَيْن ما تَمِقُ
بانَتْ وصَدْعٌ في الفُؤَادِ بها ... صَدْعَ الزَّجاجَةِ لَيْسَ يَتَّفِقُ
وأخذ عليه قوله في الناقة:
وكأنَّ غارِبَها رِبَاوَةُ مَخْرِمٍ ... وتَمُدُّ ثِنْىَ جَدِيلِها بشِراعِ
أراد: تمد جديلها بعنق طويلة، والجديل: الزمام. وأراد أن يشبه العنق بالدقل، فشبهها بالشراع، قال ابن الأعرابي: لم يعرف الشراع من الدقل، وليس هذا عندي غلطاً، والشراع يكون على الدقل، فسمي باسمه، والعرب تسمي الشيء باسم غيره إذا كان معه وبسببه، يدل على ذلك قوله أبي النجم:
كأنَّ أَهْدَامَ النَّسِيلِ المُنْسَلِ ... على يَدَيْها والشَّرَاعِ الأَطْوَل
أراد بقايا الوبر على يديها وعنقها، فسمي العنق شراعاً.
هو من شعراء بكرٍ بن وائلٍ المعدودين، وخال الأعشى، وهو القائل:
ولَقَدْ بَلَوْتُ الفاعِلينَ وفِعْلَهم ... فَلِذِى الرُّقَيْبةِ ما لَهُ مِثْلُ
كَفَّاهُ مُخْلِفَةٌ ومُتْلِفَةٌ ... وعَطاؤُهُ مُتَخَرِّقٌ جَزْلُ
ويستحسن قوله:
تَبِيتُ المُلوكُ على عَتْبِها ... وشَيْبَانُ إنْ غَضِبَتْ تُعْتَبُ
وكالشُّهْدِ بالراح أَخْلاَقُهُمْ ... وأَحْلامُهمْ منهما أَعْذَبُ
وكالمِسكِ تُرْبُ مَناماتِهمْ ... ورَيَّا قُبُورِهِمُ أَطْيَبُ
هو من جماعة وهم من بني ضبيعة بن ربيعة بن نزار، ويكنى أبا الفضة، وهو خال الأعشى أعشى قيس، وكان الأعشى راويته.
واسمه زهير بن علسٍ، وإنما لقب المسيب ببيتٍ قاله. وهو جاهلي لم يدرك الإسلام، وكان امتدح بعض الأعاجم، فأعطاه ثم أتى عدواً له من الأعاجم يسأله فسمه فمات، ولا عقب له.
ومما سبق إليه فأخذ منه قوله يذكر ثغر المرأة:
وكأَنَّ طَعْمَ الزَّنْجَبِيل به ... إِذْ ذُقْتَهُ وسُلافَةَ الخَمْرِ
شَرِقاً بماءِ الذَّوْبِ أَسْلَمَهُ ... لِلُمُبْتَغيهِ مَعَاقلُ الدَّبْرِ
وقال الجعدي:
وكأنَّ فاها بات مُغْتَبِقاً ... بَعْدَ الكَرَى من طَيِّبِ الخَمْرِ
شَرقاً بِمَاءِ الذَّوْبِ أَسْلَمَهُ ... بالطَّوْدِ أَيْمَنُ من قُرَى النَّسْر
وقال المسيب في النحل:
سُودُ الرُّؤُوِس لَصوْتَهَا زَجَلٌ ... مَحْفُوفةٌ بَمَسارِبٍ خُضْرٍ
وقال الجعدي:
قُرْعُ الرُّؤوِس لصَوْتِها زَجَلٌ ... في النَّبْعِ والكَحْلاَءِ والسِّدْرِ
بَكَرَتْ تُبَغِّي الخَيْرَ في سُبُل ... مَخْرُوفَة ومسارِب خَضْر
وقال المسيب يذكر النحل:
بَكَرَتْ تَعَرَّضُ في مَرَاتِعهَا ... فَوْقَ الهِضَابِ بمَعقْلِ الوَبْر
وغَدَتْ لمَسْرَحِها وخالفَهَا ... مُتَسَرْبِلٌ أَدَماً على الصَّدْرِ
فأَصاب ما حَذِرتْ ولو عَلِمَتْ ... حَدِبَتْ عليه بِضَيِّقٍ وَعْر
حَتَّى تَحَدَّرَ من عَوَازِبِهِ ... أُصُلاً بسَبْعِ ضَوَائِن وُفْر
وقال الجعدي:
حَتَّى إِذا عَقَلَتْ وخالَفَهَا ... مُتَسَرْبِلٌ أَدَماً على الصَّدْرِ
صدَعٌ أُسَيِّدُ من شَنُوءَة مَشَّ ... اءٌ قَتَلْنَ أَباه في الدَّهْرِ
يَمْشِي بمِحْجَنِه وقِرْبَتِهِ ... مُتَلَطِّفاً كَتَلَطُّفِ الوَبْرِ
فأَصابَ غِرَّتَها ولو شَعَرَتْ ... حَدِبَتْ عليهِ بضَيِّق وَعْرِ
حتَّى تَحَدَّرَ من منازِلها ... أُصُلاً بسَبْعِ ضَوائِنِ وُفْرِ
ومما يستجاد له من شعره قوله في ذي الرقيبة
ولقد شهدت...... ... ......البيتين
وقوله في بني شيبان:
تبيت الملوك........ ... .......الثلاثة الأبيات
ومما سبق إليه فأخذ منه قوله في الناقة:
مَرِحَتْ يَداها للَّنجاءِ كأَنَّما ... تَكْرُو بِكَفَّىْ ما قِطٍ في قَاعِ
تكرو: تلعب بالكرة، والماقط: الذي يضرب بالكرة الحائط، ثم يأخذها.
أخذه الشماخ فقال:
كأَنَّ أَوْبَ يَدِيْها حينَ عاوَدَها ... أَوْبُ المِراحِ وقد همُّوا بتَرْحالِ
مَقْطُ الكُرِينَ على مَكْنُوسَة زَلَفٍ ... في ظَهْرِ حَنَّانَةِ النِّيَريْن مِعْوالِ
ويستجاد له قوله:
لو كُنْتَ من شيءٍ سِوَى بَشَرٍ ... كنْتَ المُنَوِّرِ لَيْلَةَ البَدْرِ
ويستجاد له قوله في المرأة:
تَامَتْ فٌؤَادَكَ إِذْ له عَرَضَتْ ... حَسَنٌ برَأي العَيْن ما تَمِقُ
بانَتْ وصَدْعٌ في الفُؤَادِ بها ... صَدْعَ الزَّجاجَةِ لَيْسَ يَتَّفِقُ
وأخذ عليه قوله في الناقة:
وكأنَّ غارِبَها رِبَاوَةُ مَخْرِمٍ ... وتَمُدُّ ثِنْىَ جَدِيلِها بشِراعِ
أراد: تمد جديلها بعنق طويلة، والجديل: الزمام. وأراد أن يشبه العنق بالدقل، فشبهها بالشراع، قال ابن الأعرابي: لم يعرف الشراع من الدقل، وليس هذا عندي غلطاً، والشراع يكون على الدقل، فسمي باسمه، والعرب تسمي الشيء باسم غيره إذا كان معه وبسببه، يدل على ذلك قوله أبي النجم:
كأنَّ أَهْدَامَ النَّسِيلِ المُنْسَلِ ... على يَدَيْها والشَّرَاعِ الأَطْوَل
أراد بقايا الوبر على يديها وعنقها، فسمي العنق شراعاً.
رد: كتاب الشعر و الشعراء...
المتلمس
هو جرير بن عبد المسيح، من بني ضبيعة، وأخواله بنو يشكر، وكان ينادم عمرو بن هندٍ ملك الحيرة، وهو الذي كان يكتب له إلى عامل البحرين مع طرفة بقتله، وكان دفع كتابه إلى غلامٍ بالحيرة ليقرأه، فقال له: أنت المتلمس؟ قال: نعم، قال: فالنجاء، فقد أمر بقتلك، فنبذ الصحيفة في نهر الحيرة وقال:
أَلْقَيْتُها بالثِّنْىِ من جَنْبِ كافِرٍ ... كذلِكَ أُفْنِى كلً قِطٍ مُضَلًل
رَضِيتُ لها بالماءِ لمَا رَأَيْتُها ... يَجُول ُبها التَيَار في كلِ جَدْوَلِ
وكان أشار على طرفة بالرجوع، فأبى عليه، فهرب إلى الشأم، فقال:
مَنْ مُبْلِغُ الشُعَرَاءِ عن أَخَوَيْهِمُ ... خَبَرًا، فتَصْدُقَهُمْ بذاكَ الأَنْفُسُ
أَوْدَى الذي عَلِقَ الصَحِيفة منهما ... ونَجَا، حِذَارَ حِبائِهِ، المُتَلَمِسُ
أَلْق الصَحِيفَةَ،لا أَبا لكَ، إِنَه ... يُخْشَى عليك من الحِباءِ النِقْرِسُ
ومن جيد شعره قوله:
وما كنتُ إلا مِثْلَ قاطِعِ كَفِه ... بكَفٍ له أُخْرَى فأَصْبَحَ أَجْذَما
يَداه أَصابَتْ هذه حَتْفَ هذه ... فلم تَجِدِ الأُخْرَى عليها مُقَدَمَا
فلمَا استقادَ الكفَ بالكَفِ لم يَجِدْ ... له دَرَكًا في أَن تَبينَا فأَحْجَمَا
فأَطْرَقَ إِطْرَاقَ الشُجاعِ ولو رأَى ... مَساغاً لِنَابَاهُ الشُجاعُ لَصَمًمَا
لِذِي الحِلْمِ قَبْلَ اليوم ما تُقْرَعُ العَصَاوما عُلِمَ الإِنسانُ إِلَا لِيَعْلَمَا
ومن إفراطه قوله:
أَحارثُ إِنَا لو تُساطُ دِماونا ... تزايَلْنَ حتَى لا يَمَسً دَمٌ دَمَا
يقول: إن دماءهم تنماز من دماء غيرهم، وهذا ما لا يكون.
وسمي المتلمس بقوله:
وذاكَ أَوَانُ العِرْضِ جُنَ ذُبابُهٌ ... زَنَابِيرُهُ والأَزْرَقُ المُتَلَمِسُ
العرض: الوادي، ويروى حي ذبابه.
هو المتلمس بن عبد العزي، ويقال: ابن عبد المسيح، من بني ضبيعةٌ بن ربيعة، ثم من بني دوفنٍ، وأخواله بنو يشكر، واسمه جرير، وسمي المتلمس بقوله:
فهذا أَوانُ العِرْضِ حَيًا ذُبابَه ... زنابيرُه والأَزْرَقٌ المتلمِسُ
وكان ينادم عمرو بن هند ملك الحيرة هو وطرفة بن العبد، فهجواه، فكتب لهما إلى عامله بالبحرين كتابين، أوهمهما أنه أمر لهما فيهما بجوائز، وكتب إليه يأمره بقتلهما! فخرجا حتى إذا كانا بالنجف، إذا هما بشيخ على يسار الطريق، يحدث ويأكل من خبزٍ في يده، ويتناول القمل من ثيابه فيقصعه! فقال المتلمس: ما رأيت كاليوم شيخاً أحمق! فقال الشيخ: وما رأيت من حمقى؟ أخرج خبيثاً، وأدخل طيباً، وأقتل عدواً، أحمق مني والله من حاملٌ حتفه بيده! فاستراب المتلمس بقوله، وطلع عليهما غلامٌ من أهل الحيرة، فقال له: المتلمس: أتقرأ يا غلام؟ قال: نعم، ففك صحيفته ودفعها إليه، فإذا فيها: أما بعد، فإذا أتاك المتلمس فاقطع يديه ورجليه وادفنه حياً، فقال لطرفة: ادفع إليه صحيفتك يقرأها، ففيها والله ما في صحيفتي، فقال طرفة: كلا، لم يكن ليجترى علي! فقذف المتلمس بصحيفته في نهر الحيرة وقال:
قذفت بها ... البيت وأخو نحو الشأم
وأخذ طرفة نحو البحرين، فضرب المثل بصحيفة المتلمس.
وحرم عمرو بن هندٍ على المتلمس حب العراق، فقال:
آلَيْتَ حَبً العِراقِ الدَهْرَ آكُلُهُ ... والحَبُ يأْكُلُه في القَرْيَةِ السُوسُ
وأتى بصرى فهلك بها، وكان له ابنٌ يقال له عبد المدان، أدرك الإسلام، وكان شاعراً وهلك ببصرى ولا عقب له.
قال أبو عبيدة: واتفقوا على أن أشعر المقلين في الجاهلية ثلاثةٌ: المتلمس، والمسيب بن علسٍ، وحصين بن الحمام المري.
ومما يعاب من شعره قوله:
وقد أَتَنَاسَى الهَمَ عِنْدَ احتضارِهِ ... بناجٍ عليه الصَيْعَرِيَةُ مُكْدَمِ
والصيعرية سمةٌ للنوق لا للفحول، فجعلها لفحلٍ. وسمعه طرفة وهو صبيٌّ ينشد هذا، فقال: استنوق الجمل! فضحك الناس وسارت مثلا. وأتاه المتلمس فقال له: أخرج لسانك، فأخرجه فقال: ويلٌ لهذا من هذا يريد: ويلٌ لرأسه من لسانه.
ويعاب قوله:
أَحارثُ إِنَا لو تُشاط...... ... ..........البيت
وهذا من الكذب والإفراط.
ومثله قول رجل من بني شيبان: كنت أسيراً مع بني عم لي، وفينا جماعة من موالينا، في أيدي التغالبة، فضربوا أعناق بني عمي وأعناق الموالي على وهدةٍ من الأرض، فكنت والله أرى دم العربي ينماز من دم المولى حتى أرى بياض الأرض بينهما، فإذا كان هجيناً قام فوقه ولم يعتزل عنه؟ ويتمثل من شعره بقوله:
وأَعْلَمُ عِلْمَ حَقٍ غَيْرَ ظَنٍ ... وتَقْوَى اللَهِ من خَيْرِ العَتَادِ
لَحِفْظُ المالِ أَيْسَرُ مِنْ بُغَاهُ ... وضَرْبٍ في البِلادِ بغَيْرِ زَادِ
وإِصْلاحُ القَليلِ يَزيدُ فيه ... ولا يَبْقَى الكثيرُ على الفَسَادِ
هو جرير بن عبد المسيح، من بني ضبيعة، وأخواله بنو يشكر، وكان ينادم عمرو بن هندٍ ملك الحيرة، وهو الذي كان يكتب له إلى عامل البحرين مع طرفة بقتله، وكان دفع كتابه إلى غلامٍ بالحيرة ليقرأه، فقال له: أنت المتلمس؟ قال: نعم، قال: فالنجاء، فقد أمر بقتلك، فنبذ الصحيفة في نهر الحيرة وقال:
أَلْقَيْتُها بالثِّنْىِ من جَنْبِ كافِرٍ ... كذلِكَ أُفْنِى كلً قِطٍ مُضَلًل
رَضِيتُ لها بالماءِ لمَا رَأَيْتُها ... يَجُول ُبها التَيَار في كلِ جَدْوَلِ
وكان أشار على طرفة بالرجوع، فأبى عليه، فهرب إلى الشأم، فقال:
مَنْ مُبْلِغُ الشُعَرَاءِ عن أَخَوَيْهِمُ ... خَبَرًا، فتَصْدُقَهُمْ بذاكَ الأَنْفُسُ
أَوْدَى الذي عَلِقَ الصَحِيفة منهما ... ونَجَا، حِذَارَ حِبائِهِ، المُتَلَمِسُ
أَلْق الصَحِيفَةَ،لا أَبا لكَ، إِنَه ... يُخْشَى عليك من الحِباءِ النِقْرِسُ
ومن جيد شعره قوله:
وما كنتُ إلا مِثْلَ قاطِعِ كَفِه ... بكَفٍ له أُخْرَى فأَصْبَحَ أَجْذَما
يَداه أَصابَتْ هذه حَتْفَ هذه ... فلم تَجِدِ الأُخْرَى عليها مُقَدَمَا
فلمَا استقادَ الكفَ بالكَفِ لم يَجِدْ ... له دَرَكًا في أَن تَبينَا فأَحْجَمَا
فأَطْرَقَ إِطْرَاقَ الشُجاعِ ولو رأَى ... مَساغاً لِنَابَاهُ الشُجاعُ لَصَمًمَا
لِذِي الحِلْمِ قَبْلَ اليوم ما تُقْرَعُ العَصَاوما عُلِمَ الإِنسانُ إِلَا لِيَعْلَمَا
ومن إفراطه قوله:
أَحارثُ إِنَا لو تُساطُ دِماونا ... تزايَلْنَ حتَى لا يَمَسً دَمٌ دَمَا
يقول: إن دماءهم تنماز من دماء غيرهم، وهذا ما لا يكون.
وسمي المتلمس بقوله:
وذاكَ أَوَانُ العِرْضِ جُنَ ذُبابُهٌ ... زَنَابِيرُهُ والأَزْرَقُ المُتَلَمِسُ
العرض: الوادي، ويروى حي ذبابه.
هو المتلمس بن عبد العزي، ويقال: ابن عبد المسيح، من بني ضبيعةٌ بن ربيعة، ثم من بني دوفنٍ، وأخواله بنو يشكر، واسمه جرير، وسمي المتلمس بقوله:
فهذا أَوانُ العِرْضِ حَيًا ذُبابَه ... زنابيرُه والأَزْرَقٌ المتلمِسُ
وكان ينادم عمرو بن هند ملك الحيرة هو وطرفة بن العبد، فهجواه، فكتب لهما إلى عامله بالبحرين كتابين، أوهمهما أنه أمر لهما فيهما بجوائز، وكتب إليه يأمره بقتلهما! فخرجا حتى إذا كانا بالنجف، إذا هما بشيخ على يسار الطريق، يحدث ويأكل من خبزٍ في يده، ويتناول القمل من ثيابه فيقصعه! فقال المتلمس: ما رأيت كاليوم شيخاً أحمق! فقال الشيخ: وما رأيت من حمقى؟ أخرج خبيثاً، وأدخل طيباً، وأقتل عدواً، أحمق مني والله من حاملٌ حتفه بيده! فاستراب المتلمس بقوله، وطلع عليهما غلامٌ من أهل الحيرة، فقال له: المتلمس: أتقرأ يا غلام؟ قال: نعم، ففك صحيفته ودفعها إليه، فإذا فيها: أما بعد، فإذا أتاك المتلمس فاقطع يديه ورجليه وادفنه حياً، فقال لطرفة: ادفع إليه صحيفتك يقرأها، ففيها والله ما في صحيفتي، فقال طرفة: كلا، لم يكن ليجترى علي! فقذف المتلمس بصحيفته في نهر الحيرة وقال:
قذفت بها ... البيت وأخو نحو الشأم
وأخذ طرفة نحو البحرين، فضرب المثل بصحيفة المتلمس.
وحرم عمرو بن هندٍ على المتلمس حب العراق، فقال:
آلَيْتَ حَبً العِراقِ الدَهْرَ آكُلُهُ ... والحَبُ يأْكُلُه في القَرْيَةِ السُوسُ
وأتى بصرى فهلك بها، وكان له ابنٌ يقال له عبد المدان، أدرك الإسلام، وكان شاعراً وهلك ببصرى ولا عقب له.
قال أبو عبيدة: واتفقوا على أن أشعر المقلين في الجاهلية ثلاثةٌ: المتلمس، والمسيب بن علسٍ، وحصين بن الحمام المري.
ومما يعاب من شعره قوله:
وقد أَتَنَاسَى الهَمَ عِنْدَ احتضارِهِ ... بناجٍ عليه الصَيْعَرِيَةُ مُكْدَمِ
والصيعرية سمةٌ للنوق لا للفحول، فجعلها لفحلٍ. وسمعه طرفة وهو صبيٌّ ينشد هذا، فقال: استنوق الجمل! فضحك الناس وسارت مثلا. وأتاه المتلمس فقال له: أخرج لسانك، فأخرجه فقال: ويلٌ لهذا من هذا يريد: ويلٌ لرأسه من لسانه.
ويعاب قوله:
أَحارثُ إِنَا لو تُشاط...... ... ..........البيت
وهذا من الكذب والإفراط.
ومثله قول رجل من بني شيبان: كنت أسيراً مع بني عم لي، وفينا جماعة من موالينا، في أيدي التغالبة، فضربوا أعناق بني عمي وأعناق الموالي على وهدةٍ من الأرض، فكنت والله أرى دم العربي ينماز من دم المولى حتى أرى بياض الأرض بينهما، فإذا كان هجيناً قام فوقه ولم يعتزل عنه؟ ويتمثل من شعره بقوله:
وأَعْلَمُ عِلْمَ حَقٍ غَيْرَ ظَنٍ ... وتَقْوَى اللَهِ من خَيْرِ العَتَادِ
لَحِفْظُ المالِ أَيْسَرُ مِنْ بُغَاهُ ... وضَرْبٍ في البِلادِ بغَيْرِ زَادِ
وإِصْلاحُ القَليلِ يَزيدُ فيه ... ولا يَبْقَى الكثيرُ على الفَسَادِ
رد: كتاب الشعر و الشعراء...
طرفة بن العبد
هو طرفة بن العبد بن سفيان، وهو أجودهم طويلةً، وهو القائل:
لِخَوْلَةَ أَطْلاَالٌ ببُرْقَةِ ثَهْمَد
وله بعدها شعرٌ حسن، وليس عند الرواة من شعره وشعر عبيد إلا القليل.
وكان في حسبٍ من قومه، جريئاً على هجائهم وهجاء غيرهم. وكانت أخته عند عبد عمرو بن بشر بن مرثدٍ، وكان عبد عمرو سيدٌ أهل زمانه، فشكت أخت طرفة شيئاً من أمر زوجها إليه، فقال:
ولا عَيْبَ فيه غَيْرَ أَنَ له غِنًى ... وأَنَ له كَشْحًا، إِذَا قام، أَهْضَما
وأَنَ نساءَ الحَىِ يَعْكُفْنَ حَوْلَهُ ... يَقُلْنَ: عَسِيبٌ من سَرَارَةِ مَلْهَمَا
فبلغ عمرو بن هندٍ الشعر، فخرج يتصيد ومعه عبد عمروٍ، فأصاب حماراً فعقره، وقال لعبد عمرو: انزل إليه، فنزل إليه فأعياه، فضحك عمرو بن هند وقال: لقد أبصرك طرفة حين قال ولا عيب البيت! وكان عمرو بن هند شريراً، وكان طرفة قال له قبل ذلك:
لَيْتَ لنا مكانَ المَلكِ عَمْرو ... رَغُوثاً حَوْلَ قٌبَتِنَا تَخُورُ
فقال عبد عمرو: أبيت اللعن، الذي قال فيك أشد مما قال في، قال: وقد بلغ من أمره هذا؟ قال: نعم، فأرسل إليه، وكتب له إلى عامله بالبحرين فقتله. وقد بينت خبره في كتاب الشراب. ويقال إن الذي قتله المعلى بن حنش العبدي، والذي تولى قتله بيده معاوية بن مرة الأيفلى حي من طسمٍ وجديس.
ومن جيد شعره قوله:
أَرَى قَبْرَ نَحَامٍ بَخِيلٍ بمالِهِ ... كقَبْرِ غَوِىً في البَطَالَةِ مُفْسِدِ
أَرَى المَوْتَ يَعْتِامُ الكَرِيمَ ويَصْطَفِى ... عَقِيلَةَ مالِ الفاحِشِ المُتَشدِدِ
أَرَى الدَهْرَ كَنْزًا ناقِصاً كُلَ لَيْلَةٍ ... وما تنْقٌصِ الأَيَامُ والدَهْرُ يَنْفَدِ
لعَمْرُكَ إِنَ المَوْتَ ما أَخْطأَ الفَتَىلَكَالِطوَلِ المُرْخَى وثِنْيَاهُ في اليَدِ
وكان أبو طرفة مات وطرفة صغير، فأبى أعمامه أن يقسموا ماله، فقال:
ما تَنْظُرُونَ بمالِ وَرْدَةَ فيكُمُ ... صَغُرَ البَنُونَ ورَهْطُ ورْدَةَ غُيَبُ
قد يَبْعَثُ الأَمَر العظيمَ صَغِيرُهُ ... حتى تَظَلَ له الدِماءُ تَصَبًبُ
والظُلْمُ فَرَقَ بين حَيًىْ وائِلٍ ... بَكْرٌ تُسَاقِيها المنايا تَغْلِبُ
والصَدْقُ يَأْلَفُهُ الكَريمُ المُرْتَجَى ... والكِذْبُ يَأْلَفُهُ الدَنِىُ الأَخْيَبُ
ويتمثل من شعره بقوله:
وتَرُدُ عنك مَخيلَةَ الرَجُلِ ال ... عِرِيضِ مُوضِحَةٌ عنِ العَظْمِ
بِحُسامِ سيْفكَ أَو لِسانِكَ، والْ ... كَلِمُ الأصِيلُ كأَرْغَبِ الكَلْمِ
وبقوله:
لنا يَومٌ وللكِرْوانِ يَوْمٌ ... تَطِيرُ البائِسَاتُِ ولا نَطيرُ
الكروان: جمع كروان، مثل شقذان وشقذان وهي دويبة.
ويقال إن أول شعرٍ قاله طرفة أنه خرج مع عمه في سفر، فنصب فخاً، فلما أراد الرحيل قال:
يا لَكِ من قُبَّرَةٍ بمَعْمَرِ ... خَلاَ لَكِ الجَوُّ فَبِيَضي واصْفِري
ونَقِّري ما شِئْتِ أَنْ تُنَقِّرِي ... قد رُفِعَ الفخُّ فماذا تَحْذَرِي
لا بُدَّ يَوْماً أَنْ تُصَادِى فاصْبِري
قال أبو محمد: هو طرفة بن العبد بن سفيان بن سعد بن مالك بن عباد بن صعصعة بن قيس بن ثعلبة. ويقال إن اسمه عمرو، وسمي طرفة ببيت قاله. وأمه وردة من رهط أبيه، وفيها يقول لأخواله وقد ظلموها حقها:
ما تَنْظُرُونَ بحَقِّ........ ... ...........البيت
وكان أحدث الشعراء سناً وأقلهم عمراً، قتل وهو ابن عشرين سنة، فيقال له: ابن العشرين. وكان ينادم عمرو بن هند، فأشرفت ذات يومٍ أخته، فرأى طرفة ظلها في الجام الذي في يده، فقال:
ألا يا بِأبِي الظَّبْىُ ا ... لَّذي يَبْرُقُ شَنْفَاهُ
ولوْلا المَلِكُ القاع ... دُ قد أَلْثَمَني فَاهُ
فحقد ذلك عليه، وكان قال أيضاً:
ولَيْتَ لنا مكانَ المَلْكِ عَمْرو ... رَغوثاً حَوْلَ قُبَّتنا تَدورُ
لَعْمُركَ إنَّ قابوسَ بنَ هِنْدٍ ... لَيَخْلِطُ مُلْكَه نُوكٌ كَثِيرُ
وقابوس: هو أخو عمرو بن هندٍ، وكان فيه لينٌ، ويسمى قينة العرس. فكتب له عمرو بن هند إلى الربيع بن حوثرة عامله على البحرين كتاباً أوهمه فيه أنه أمر له بجائزةٍ، وكتب للمتلمس بمثل ذلك.
قال أبو محمد: وأما المتلمس فقد ذكرت قصته. وأما طرفةٌ فمضى بالكتاب، فأخذه الربيع فسقاه الخمر حتى أثمله، ثم فصد أكحله، فقبره بالبحرين، وكان لطرفة أخٌ يقال له معبد بن العبد، فطلب بديته فأخذها من الحواثر.
قال أبو عبيدة: مر لبيدٌ بمجلسٍ لنهد بالكوفة، وهو يتوكأ على عصاً، فلما جاوز أمروا فتًى منهم أن يلحقه فيسأله: من أشعر العرب؟ ففعل، فقال له لبيدٌ: الملك الضليل، يعني أمرأ القيس، فرجع فأخبرهم قالوا: ألا سألته: ثم من؟ فرجع فسأله: فقال: ابن العشرين، يعني طرفة، فلما رجع قالوا: ليتك كنت سألته: ثم من؟ فرجع فسأله، فقال: صاحب المحجن، يعني نفسه.
قال أبو عبيدة: طرفة أجودهم واحدةً ولا يلحق بالبحور يعني امرأ القيس وزهيراً والنابغة، ولكنه يوضع مع أصحابه: الحرث بن حلزة وعمرو بن كلثوم وسويد بن أبي كاهل.
ومما سبق إليه طرفة فأخذ منه قوله يذكر السفينة:
يَشُقُّ حَبَابَ الماءِ حَيْزُومُها بها ... كَمَا قَسَمَ التُّرْبَ المُغَايِلُ باليَدِ
أخذه لبيدٌ فقال:
تَشُقُّ خَمَائِلَ الدَّهْنَا يَدَاهُ ... كما لَعِبَ المُقامِرُ بالفَيَالِ
وأخذه الطرماح فقال:
وغَدَا تَشُقُّ يداه أَوساطَ الرُّبا ... قَسْمَ الفَيَالِ تَشُقُّ أَوَسطَه اليَدُ
ومن ذلك قوله:
ومَكان زَعِلٍ ظُلْمَانُه ... كالمَخَاضِ الجُرْبِ في اليوم الخَدِرْ
قد تَبَطَّنْتُ وتحْتى سُرُح ... تَتَّقِي الأَرضَ بمَلْثُومٍ مَعِرْ
أخذه عدي بن زيد ولبيد، فقال عدي:
ومكانِ زَعِلٍ ظُلْمانُه ... كرجال الحبش تمشى بالعمد
قد تَبَطَّنْتُ وتحتى جَسْرَةٌ ... عبر أسفار كمخراق وحد
وقال لبيدٌ:
ومكانِ زَعِلٍ ظُلْمانُه ... كحَزيقِ الحَبَشِييّنَ الزُّجَلْ
قد تَبَطَّنْتُ وتحتى جَسْرَةٌ ... حَرَجٌ في مِرْفَقَيْها كالفَتَلْ
ومن ذلك قوله:
فلَوْلا ثَلاثٌ هُنَّ من عِيشَةِ الفَتَى ... وجَدِّكَ لم أَحْفِلْ متى قام عُوَّدِي
فمنهنَّ سَبْقِى العاذِلاتِ بشَرْبَةٍ ... كُمَيْتٍ متى ما تُعْلَ بالماءِ تُزْبِدِ
وكَرِّى إذا نادَى المُضافُ مُحَنَّباً ... كَسِيدِ الغَضَا نَبَّهْتُهُ المُتَوَرِّدِ
وتَقْصِيرُ يَوْمِ الدَّجْنِ والدَّجْنُ مُعْجِبٌ ... ببَهْكَنَةٍ تَحْتَ الخِباءِ المُعَمدِ
أخذه عبد الله بن نهيك بن إساف الأنصاري فقال:
فلَوْلا ثَلاَثٌ هُنَّ من عِيشَةِ الفَتَى ... وجَدِّكَ لم أَحْفِلْ متَى قام رَامِسُ
فمنهنَّ سَبْقِى العاذِلاتِ بشَرْبَةٍ ... كأَنَّ أَخاها مَطْلِعَ الشّمُسِ ناعُس
ومنهنَّ تَجْريدُ الكَواعِبِ كالدُّمَى ... إذَا ابتُزَّ عن أَكْفالِهِنَّ المَلابِسُ
ومنهنَّ تَقْريطُ الجَوَادِ عِنانَه ... إِذَا اسْتَبَقَ الشَّخْصَ الخَفِيَّ الفَوَارِسُ
ومما سبق إليه قوله:
سَتُبْدِي لك الأَيَّامُ ما كنتَ جاهِلاً ... ويأْتِيكَ بالأَخْبارِ مَن لَّم تُزَودِ
وقال غيره:
ويأْتِيك بالأَنبْاءِ من لم تَبعْ له ... بَتَاتاً ولم تَضْربْ له وقْتَ مَوْعِدِ
ومن جيد شعره:
ألاَ أَيُّها الَّلاحِيَّ أَنْ أَحْضُرَ الوَغَىوأَنْ أَشْهَدَ اللَّذَّاتِ هَلْ أَنتَ مُخْلِدِي
فإنْ كنتَ لا تَسْتطِيعُ دفْعَ مَنِيَّتي ... فذَرْنِي أُبادِرْها بما مَلَكَتْ يَدِي
أَرَى قَبْرَ نَحَّامٍ بَخيلٍ بمالِه....... ... .........البيت
أَرَى الدَّهْرَ كنزاً.......... ... ............البيتين
ومن جيد شعره:
ولا غَرْوَ إلاَّ جارَتي وسُؤالُها ... أَلاَ هل لَّنا أَهْلٌ سُئِلْتِ كذلِكِ
دعا عليها بأن تغترب حتى تسأل كما سألته.
ومن حسن الدعاء قول النابغة الذبياني:
أَغَيْركَ مَعْقِلاً أَبِغى وحِصْناً ... فأَعْيتَنْي المَعاقِلُ والحُصُونُ
وجِئْتُكَ عارِياً خَلَقاً ثِيابي ... على خَوْفٍ تُظَنُّ بي الظُّنُونُ
العاري: من عراك يعروك إذا أتاك يطلب ما عندك، ونحوه العافي.
ومن جيد شعر طرفة:
وأَعْلَمُ عِلْماً لَيْسَ بالظَّنِّ أَنَّه ... إِذا ذَلَّ مَوْلَى المَرْءِ فَهْوَ ذَلِيلُ
وإنَّ لِسَانَ المَرءْ ما لم تَكُنْ له ... حَصاةٌ على عَوْراتِهِ لَدَلِيلُ
وإنَّ امْرَءًا لم يَعْفُ يَوْماً فُكاهَةً ... لِمَنْ لم يُردْ سُوءًا بها لَجَهُولُ
وقال وهو صبيٌّ:
كُلُّ خَلِيل كنتُ خالَلْتُه ... لا تَرَكَ اللهُ له واضِحَهْ
كلُّهُمُ أَرْوَغُ من ثَعْلَبٍ ... ما أَشْبَهَ الليلة بالبارِحَهْ
ومما يعاب من شعره قوله يمدح قوماً:
أَسْدُ غِيلٍ فإِذَا ما شَرِبُوا ... وَهَبُوا كُلَّ أَمُونٍ وطمِرّْ
ثمّ راحُوا عَبقُ المِسْكِ بهم ... يَلْحَفُونَ الأَرضَ هُدَّابَ الأُزرْ
ذكر أنهم يعطون إذا سكروا، ولم يشرط لهم ذلك في صحوهم كما قال عنترة:
وإِذَا شَرِبْتُ فإنَّني مُسْتَهِلكٌ ... مَالِي وعِرْضي وافِرٌ لم يُكْلَمِ
وإِذَا صحوْتُ فما أُقَصرُ عن نَدًى ... وكما عَلِمْتَ شمائِلي وتَكَرُّمِى
قالوا: والجيد قول زهيرٍ:
أَخُو ثِقَةِ لا تُتْلِفُ الخَمْرُ مالَهُ ... ولكنَّه قد يُتْلِفُ المالَ نائِلُهْ
وقال بعض المحدثين:
فَتًى لا تَلُوكُ الخَمْرُ شَحْمَةَ مالهِ ... ولكِنْ عطايا عُوَّدٌ وبَوَادي
وطرفة أول من ذكر الأدرة في شعره، فقال:
فما ذَنْبُنا في أَنْ أَداءَتْ خُصاكُمُ ... وأَنْ كُنْتُمُ في قُوْمِكم مَعْشَراً أُدْرَا
إِذَا جَلَسُوا خَيَّلْتَ تَحْتَ ثِيابِهمْ ... خَرَانِقَ تُوِفي بالضَّغِيبِ لها نَذْرَا
وذكرها النابغة الجعدي فقال:
كَذِي داءٍ بإِحْدَى خُصْيَتَيْه ... وأُخْرَى لم تَوَجَّع من سَقَامِ
فضَمَّ ثيابَهُ من غيرِ بُرْءٍ ... على شَعْرَاءَ تُنْقِضُ بالبِهَامِ
وطرفة أول من طرد الخيال، فقال:
فقُلْ لِخَيَالِ الحَنْظَليَّةِ يَنقْلَبْ ... إليها فإني واصِلٌ حَبْلَ مَنْ وَصَلْ
وقال جريرٌ:
طرَقَتْكَ صائِدَةُ القُلُوبِ ولَيْسَ ذَا ... وَقتَ الزِّيارَةِ فارْجِعِي بسَلاَمِ
قال الأصمعي: قلت لشيخ مسن من المدنيين: أرأيت قول كثيرٍ:
قد أَرُوعُ الخَليلَ بالصُّرْمِ مِنِّي ... لم يَخَفْهُ وقِلَّةِ التَّكْليمِ
أي شيءٍ هذا من السباب؟ فقال: يا ابن أم، أي شيءٍ يصنع؟ أحرقته!
هو طرفة بن العبد بن سفيان، وهو أجودهم طويلةً، وهو القائل:
لِخَوْلَةَ أَطْلاَالٌ ببُرْقَةِ ثَهْمَد
وله بعدها شعرٌ حسن، وليس عند الرواة من شعره وشعر عبيد إلا القليل.
وكان في حسبٍ من قومه، جريئاً على هجائهم وهجاء غيرهم. وكانت أخته عند عبد عمرو بن بشر بن مرثدٍ، وكان عبد عمرو سيدٌ أهل زمانه، فشكت أخت طرفة شيئاً من أمر زوجها إليه، فقال:
ولا عَيْبَ فيه غَيْرَ أَنَ له غِنًى ... وأَنَ له كَشْحًا، إِذَا قام، أَهْضَما
وأَنَ نساءَ الحَىِ يَعْكُفْنَ حَوْلَهُ ... يَقُلْنَ: عَسِيبٌ من سَرَارَةِ مَلْهَمَا
فبلغ عمرو بن هندٍ الشعر، فخرج يتصيد ومعه عبد عمروٍ، فأصاب حماراً فعقره، وقال لعبد عمرو: انزل إليه، فنزل إليه فأعياه، فضحك عمرو بن هند وقال: لقد أبصرك طرفة حين قال ولا عيب البيت! وكان عمرو بن هند شريراً، وكان طرفة قال له قبل ذلك:
لَيْتَ لنا مكانَ المَلكِ عَمْرو ... رَغُوثاً حَوْلَ قٌبَتِنَا تَخُورُ
فقال عبد عمرو: أبيت اللعن، الذي قال فيك أشد مما قال في، قال: وقد بلغ من أمره هذا؟ قال: نعم، فأرسل إليه، وكتب له إلى عامله بالبحرين فقتله. وقد بينت خبره في كتاب الشراب. ويقال إن الذي قتله المعلى بن حنش العبدي، والذي تولى قتله بيده معاوية بن مرة الأيفلى حي من طسمٍ وجديس.
ومن جيد شعره قوله:
أَرَى قَبْرَ نَحَامٍ بَخِيلٍ بمالِهِ ... كقَبْرِ غَوِىً في البَطَالَةِ مُفْسِدِ
أَرَى المَوْتَ يَعْتِامُ الكَرِيمَ ويَصْطَفِى ... عَقِيلَةَ مالِ الفاحِشِ المُتَشدِدِ
أَرَى الدَهْرَ كَنْزًا ناقِصاً كُلَ لَيْلَةٍ ... وما تنْقٌصِ الأَيَامُ والدَهْرُ يَنْفَدِ
لعَمْرُكَ إِنَ المَوْتَ ما أَخْطأَ الفَتَىلَكَالِطوَلِ المُرْخَى وثِنْيَاهُ في اليَدِ
وكان أبو طرفة مات وطرفة صغير، فأبى أعمامه أن يقسموا ماله، فقال:
ما تَنْظُرُونَ بمالِ وَرْدَةَ فيكُمُ ... صَغُرَ البَنُونَ ورَهْطُ ورْدَةَ غُيَبُ
قد يَبْعَثُ الأَمَر العظيمَ صَغِيرُهُ ... حتى تَظَلَ له الدِماءُ تَصَبًبُ
والظُلْمُ فَرَقَ بين حَيًىْ وائِلٍ ... بَكْرٌ تُسَاقِيها المنايا تَغْلِبُ
والصَدْقُ يَأْلَفُهُ الكَريمُ المُرْتَجَى ... والكِذْبُ يَأْلَفُهُ الدَنِىُ الأَخْيَبُ
ويتمثل من شعره بقوله:
وتَرُدُ عنك مَخيلَةَ الرَجُلِ ال ... عِرِيضِ مُوضِحَةٌ عنِ العَظْمِ
بِحُسامِ سيْفكَ أَو لِسانِكَ، والْ ... كَلِمُ الأصِيلُ كأَرْغَبِ الكَلْمِ
وبقوله:
لنا يَومٌ وللكِرْوانِ يَوْمٌ ... تَطِيرُ البائِسَاتُِ ولا نَطيرُ
الكروان: جمع كروان، مثل شقذان وشقذان وهي دويبة.
ويقال إن أول شعرٍ قاله طرفة أنه خرج مع عمه في سفر، فنصب فخاً، فلما أراد الرحيل قال:
يا لَكِ من قُبَّرَةٍ بمَعْمَرِ ... خَلاَ لَكِ الجَوُّ فَبِيَضي واصْفِري
ونَقِّري ما شِئْتِ أَنْ تُنَقِّرِي ... قد رُفِعَ الفخُّ فماذا تَحْذَرِي
لا بُدَّ يَوْماً أَنْ تُصَادِى فاصْبِري
قال أبو محمد: هو طرفة بن العبد بن سفيان بن سعد بن مالك بن عباد بن صعصعة بن قيس بن ثعلبة. ويقال إن اسمه عمرو، وسمي طرفة ببيت قاله. وأمه وردة من رهط أبيه، وفيها يقول لأخواله وقد ظلموها حقها:
ما تَنْظُرُونَ بحَقِّ........ ... ...........البيت
وكان أحدث الشعراء سناً وأقلهم عمراً، قتل وهو ابن عشرين سنة، فيقال له: ابن العشرين. وكان ينادم عمرو بن هند، فأشرفت ذات يومٍ أخته، فرأى طرفة ظلها في الجام الذي في يده، فقال:
ألا يا بِأبِي الظَّبْىُ ا ... لَّذي يَبْرُقُ شَنْفَاهُ
ولوْلا المَلِكُ القاع ... دُ قد أَلْثَمَني فَاهُ
فحقد ذلك عليه، وكان قال أيضاً:
ولَيْتَ لنا مكانَ المَلْكِ عَمْرو ... رَغوثاً حَوْلَ قُبَّتنا تَدورُ
لَعْمُركَ إنَّ قابوسَ بنَ هِنْدٍ ... لَيَخْلِطُ مُلْكَه نُوكٌ كَثِيرُ
وقابوس: هو أخو عمرو بن هندٍ، وكان فيه لينٌ، ويسمى قينة العرس. فكتب له عمرو بن هند إلى الربيع بن حوثرة عامله على البحرين كتاباً أوهمه فيه أنه أمر له بجائزةٍ، وكتب للمتلمس بمثل ذلك.
قال أبو محمد: وأما المتلمس فقد ذكرت قصته. وأما طرفةٌ فمضى بالكتاب، فأخذه الربيع فسقاه الخمر حتى أثمله، ثم فصد أكحله، فقبره بالبحرين، وكان لطرفة أخٌ يقال له معبد بن العبد، فطلب بديته فأخذها من الحواثر.
قال أبو عبيدة: مر لبيدٌ بمجلسٍ لنهد بالكوفة، وهو يتوكأ على عصاً، فلما جاوز أمروا فتًى منهم أن يلحقه فيسأله: من أشعر العرب؟ ففعل، فقال له لبيدٌ: الملك الضليل، يعني أمرأ القيس، فرجع فأخبرهم قالوا: ألا سألته: ثم من؟ فرجع فسأله: فقال: ابن العشرين، يعني طرفة، فلما رجع قالوا: ليتك كنت سألته: ثم من؟ فرجع فسأله، فقال: صاحب المحجن، يعني نفسه.
قال أبو عبيدة: طرفة أجودهم واحدةً ولا يلحق بالبحور يعني امرأ القيس وزهيراً والنابغة، ولكنه يوضع مع أصحابه: الحرث بن حلزة وعمرو بن كلثوم وسويد بن أبي كاهل.
ومما سبق إليه طرفة فأخذ منه قوله يذكر السفينة:
يَشُقُّ حَبَابَ الماءِ حَيْزُومُها بها ... كَمَا قَسَمَ التُّرْبَ المُغَايِلُ باليَدِ
أخذه لبيدٌ فقال:
تَشُقُّ خَمَائِلَ الدَّهْنَا يَدَاهُ ... كما لَعِبَ المُقامِرُ بالفَيَالِ
وأخذه الطرماح فقال:
وغَدَا تَشُقُّ يداه أَوساطَ الرُّبا ... قَسْمَ الفَيَالِ تَشُقُّ أَوَسطَه اليَدُ
ومن ذلك قوله:
ومَكان زَعِلٍ ظُلْمَانُه ... كالمَخَاضِ الجُرْبِ في اليوم الخَدِرْ
قد تَبَطَّنْتُ وتحْتى سُرُح ... تَتَّقِي الأَرضَ بمَلْثُومٍ مَعِرْ
أخذه عدي بن زيد ولبيد، فقال عدي:
ومكانِ زَعِلٍ ظُلْمانُه ... كرجال الحبش تمشى بالعمد
قد تَبَطَّنْتُ وتحتى جَسْرَةٌ ... عبر أسفار كمخراق وحد
وقال لبيدٌ:
ومكانِ زَعِلٍ ظُلْمانُه ... كحَزيقِ الحَبَشِييّنَ الزُّجَلْ
قد تَبَطَّنْتُ وتحتى جَسْرَةٌ ... حَرَجٌ في مِرْفَقَيْها كالفَتَلْ
ومن ذلك قوله:
فلَوْلا ثَلاثٌ هُنَّ من عِيشَةِ الفَتَى ... وجَدِّكَ لم أَحْفِلْ متى قام عُوَّدِي
فمنهنَّ سَبْقِى العاذِلاتِ بشَرْبَةٍ ... كُمَيْتٍ متى ما تُعْلَ بالماءِ تُزْبِدِ
وكَرِّى إذا نادَى المُضافُ مُحَنَّباً ... كَسِيدِ الغَضَا نَبَّهْتُهُ المُتَوَرِّدِ
وتَقْصِيرُ يَوْمِ الدَّجْنِ والدَّجْنُ مُعْجِبٌ ... ببَهْكَنَةٍ تَحْتَ الخِباءِ المُعَمدِ
أخذه عبد الله بن نهيك بن إساف الأنصاري فقال:
فلَوْلا ثَلاَثٌ هُنَّ من عِيشَةِ الفَتَى ... وجَدِّكَ لم أَحْفِلْ متَى قام رَامِسُ
فمنهنَّ سَبْقِى العاذِلاتِ بشَرْبَةٍ ... كأَنَّ أَخاها مَطْلِعَ الشّمُسِ ناعُس
ومنهنَّ تَجْريدُ الكَواعِبِ كالدُّمَى ... إذَا ابتُزَّ عن أَكْفالِهِنَّ المَلابِسُ
ومنهنَّ تَقْريطُ الجَوَادِ عِنانَه ... إِذَا اسْتَبَقَ الشَّخْصَ الخَفِيَّ الفَوَارِسُ
ومما سبق إليه قوله:
سَتُبْدِي لك الأَيَّامُ ما كنتَ جاهِلاً ... ويأْتِيكَ بالأَخْبارِ مَن لَّم تُزَودِ
وقال غيره:
ويأْتِيك بالأَنبْاءِ من لم تَبعْ له ... بَتَاتاً ولم تَضْربْ له وقْتَ مَوْعِدِ
ومن جيد شعره:
ألاَ أَيُّها الَّلاحِيَّ أَنْ أَحْضُرَ الوَغَىوأَنْ أَشْهَدَ اللَّذَّاتِ هَلْ أَنتَ مُخْلِدِي
فإنْ كنتَ لا تَسْتطِيعُ دفْعَ مَنِيَّتي ... فذَرْنِي أُبادِرْها بما مَلَكَتْ يَدِي
أَرَى قَبْرَ نَحَّامٍ بَخيلٍ بمالِه....... ... .........البيت
أَرَى الدَّهْرَ كنزاً.......... ... ............البيتين
ومن جيد شعره:
ولا غَرْوَ إلاَّ جارَتي وسُؤالُها ... أَلاَ هل لَّنا أَهْلٌ سُئِلْتِ كذلِكِ
دعا عليها بأن تغترب حتى تسأل كما سألته.
ومن حسن الدعاء قول النابغة الذبياني:
أَغَيْركَ مَعْقِلاً أَبِغى وحِصْناً ... فأَعْيتَنْي المَعاقِلُ والحُصُونُ
وجِئْتُكَ عارِياً خَلَقاً ثِيابي ... على خَوْفٍ تُظَنُّ بي الظُّنُونُ
العاري: من عراك يعروك إذا أتاك يطلب ما عندك، ونحوه العافي.
ومن جيد شعر طرفة:
وأَعْلَمُ عِلْماً لَيْسَ بالظَّنِّ أَنَّه ... إِذا ذَلَّ مَوْلَى المَرْءِ فَهْوَ ذَلِيلُ
وإنَّ لِسَانَ المَرءْ ما لم تَكُنْ له ... حَصاةٌ على عَوْراتِهِ لَدَلِيلُ
وإنَّ امْرَءًا لم يَعْفُ يَوْماً فُكاهَةً ... لِمَنْ لم يُردْ سُوءًا بها لَجَهُولُ
وقال وهو صبيٌّ:
كُلُّ خَلِيل كنتُ خالَلْتُه ... لا تَرَكَ اللهُ له واضِحَهْ
كلُّهُمُ أَرْوَغُ من ثَعْلَبٍ ... ما أَشْبَهَ الليلة بالبارِحَهْ
ومما يعاب من شعره قوله يمدح قوماً:
أَسْدُ غِيلٍ فإِذَا ما شَرِبُوا ... وَهَبُوا كُلَّ أَمُونٍ وطمِرّْ
ثمّ راحُوا عَبقُ المِسْكِ بهم ... يَلْحَفُونَ الأَرضَ هُدَّابَ الأُزرْ
ذكر أنهم يعطون إذا سكروا، ولم يشرط لهم ذلك في صحوهم كما قال عنترة:
وإِذَا شَرِبْتُ فإنَّني مُسْتَهِلكٌ ... مَالِي وعِرْضي وافِرٌ لم يُكْلَمِ
وإِذَا صحوْتُ فما أُقَصرُ عن نَدًى ... وكما عَلِمْتَ شمائِلي وتَكَرُّمِى
قالوا: والجيد قول زهيرٍ:
أَخُو ثِقَةِ لا تُتْلِفُ الخَمْرُ مالَهُ ... ولكنَّه قد يُتْلِفُ المالَ نائِلُهْ
وقال بعض المحدثين:
فَتًى لا تَلُوكُ الخَمْرُ شَحْمَةَ مالهِ ... ولكِنْ عطايا عُوَّدٌ وبَوَادي
وطرفة أول من ذكر الأدرة في شعره، فقال:
فما ذَنْبُنا في أَنْ أَداءَتْ خُصاكُمُ ... وأَنْ كُنْتُمُ في قُوْمِكم مَعْشَراً أُدْرَا
إِذَا جَلَسُوا خَيَّلْتَ تَحْتَ ثِيابِهمْ ... خَرَانِقَ تُوِفي بالضَّغِيبِ لها نَذْرَا
وذكرها النابغة الجعدي فقال:
كَذِي داءٍ بإِحْدَى خُصْيَتَيْه ... وأُخْرَى لم تَوَجَّع من سَقَامِ
فضَمَّ ثيابَهُ من غيرِ بُرْءٍ ... على شَعْرَاءَ تُنْقِضُ بالبِهَامِ
وطرفة أول من طرد الخيال، فقال:
فقُلْ لِخَيَالِ الحَنْظَليَّةِ يَنقْلَبْ ... إليها فإني واصِلٌ حَبْلَ مَنْ وَصَلْ
وقال جريرٌ:
طرَقَتْكَ صائِدَةُ القُلُوبِ ولَيْسَ ذَا ... وَقتَ الزِّيارَةِ فارْجِعِي بسَلاَمِ
قال الأصمعي: قلت لشيخ مسن من المدنيين: أرأيت قول كثيرٍ:
قد أَرُوعُ الخَليلَ بالصُّرْمِ مِنِّي ... لم يَخَفْهُ وقِلَّةِ التَّكْليمِ
أي شيءٍ هذا من السباب؟ فقال: يا ابن أم، أي شيءٍ يصنع؟ أحرقته!
رد: كتاب الشعر و الشعراء...
الحارث بن حلزة اليشكرى
هو من بني يشكر من بكر بن وائلٍ، وكان أبرص وهو القائل:
آذَنَتْنا بِيَيْنِها أَسماءُ ... رُبَّ ثاوٍ يُمَلُّ منه الثَّوَاءُ
ويقال إنه ارتجلها بين يدي عمرو بن هندٍ ارتجالا، في شيءٍ كان بين بكر وتغلب بعد الصلح، وكان ينشده من وراء السجف، للبرص الذي كان به، فأمر برفع السجف بينه وبينه استحساناً لها، وكان الحرث متوكئاً على عنزةٍ، فارتزت في جسده وهو لا يشعر.
وكان له ابنٌ يقال له: مذعور، ولمذعور ابنٌ يقال له: شهاب بن مذعور، وكان ناسباً وفيه يقول مسكينٌ الدارمي:
هَلُمَّ إلى ابن مَذْعورٍ شِهابٍ ... يُنَبِّىءُّ بالسِّفَالِ وبالمَعَالِي
قال الأصمعي: قد أقوى الحرث بن حلزة في قصيدته التي ارتجلها قال:
فمَلَكْنا بذلك الناسِ إِذْ ما ... مَلَكَ المُنْذِرُ بنُ ماءِ السَّماءِ
قال أبو محمد: ولن يضر ذلك في هذه القصيدة، لأنه ارتجلها فكانت كالخطبة.
ومما يتمثل به من شعره:
فعِشْ بِجَدٍّ لا يَضِرْ ... كَ النُّوكُ ما أُوتيتَ جَدَّا
والنُّوكُ خَيْرٌ في ظِلاَ ... لِ العَيْشِ ممَّنْ عاشَ كَدَّا
لقيط بن معمر
هو لقيط بن معمرٍ، من إيادٍ، وكانت إيادٌ أكثر نزارٍ عدداً، وأحسنهم وجوهاً، وأمدهم وأشدهم وأمنعهم، وكانوا لقاحاً لا يؤدون خرجاً، وهم أول معدىٍّ خرج من تهامة، فنزلوا السواد، وغلبوا على ما بين البحرين إلى سنداد والخورنق، وسنداد نهرٌ كان بين الحيرة إلى الأبلة، وكانوا أغاروا على أموالٍ لأنوشروان فأخذوها، فجهز إليهم الجيوش، فهزموهم مرةً بعد مرةٍ، ثم إن إياداً ارتحلوا حتى نزلوا الجزيرة، فوجه إليهم كسرى بعد ذلك ستين ألفاً في السلاح، وكان لقيط متخلفاً عنهم بالحيرة، فكتب إليهم:
سَلاَمٌ في الصَّحِيفَة من لَقِيطٍ ... إلىَ مَن بالجزيرة من إِيادِ
بأَنَّ اللَّيْثَ كِسْرَى قد أَتَاكُمْ ... فلا يَشْغلْكُمُ سَوْقُ النِّقَادٍ
أَتاكم مِنْهُمُ سِتُّونَ أَلْفاً ... يَزُجُّون الكَتَائِبَ كالجَرَادِ
على حَنَق أَتَيْنَكُمُ فهذَا ... أَوَانُ هَلاَكِكُمْ كهَلاَكِ عَادِ
فاستعدت إيادٌ لمحاربة جنود كسرى، ثم التقوا، فاقتتلوا قتالا شديداً، أصيب فيه من الفريقين، ورجعت عنهم الخيل، ثم اختلفوا بعد ذلك، فلحقت فرقةٌ بالشأم، وفرقةٌ رجعت إلى السواد، وأقامت فرقةٌ بالجزيرة.
وفي هذه القصة يقول أيضاً لقيطٌ في قصيدته:
يا دارَ عَبْلَةَ من مُحْتَلِّهَا الجَرَعَا
يا لَهْفَ نْفِسيَ إِنْ كانت أُمُورُكمُ ... شَتَّى وأُبْرِمَ أَمْرُ الناس فاجْتَمَعَا
أَحْرَارُ فارِسَ أَبْنَاءُ المُلُوكِ لهم ... من الجُمُوعِ جُمُوعٌ تَزْدَهِي القَلَعَا
فهمْ سِرَاعٌ إليكم بَيْنَ مُلْتَقِطٍ ... شَوْكاً وآخَرَ يَجْنِي الصَّابَ والسَّلَعَا
هو الجَلاَءُ الَّذِي تَبْقَى مّذَلَّتُهُ ... إِنْ طارَ طائرُكم يوماً وإنْ وَقَعَا
قُومُوا قِيامَاً على أَمْشَاطِ أَرْجُلِكُمْثم افْزَعُوا قد يَنَالُ الأَمْنَ مَنْ فَزِعَا
وقَلِّدُوا أَمْرَكُمْ للِه دَرُّكُمُ ... رَحْبَ الذَّرَاعِ بأَمْرِ الحربِ مُضْطَلِعا
لا مُتْرَفاً إنْ رَخاءُ العَيْشِ ساعَدَهُ ... ولاَ إِذَا عَضَّ مَكْرُوهٌ به خَشَعَا
ما زال يَحْلُبُ دَرَّ الدَّهْرِ أَشْطُرَهُ ... يَكونُ مُتَّبِعاً طَوْراً ومُتَّبَعَا
حَتَّى اسْتَمَّرتْ على شَزْرٍ مَرِيرَتُه ... مُسْتَحْكِمَ السنِّ لاَ قَحمْاً ولا ضَرَعَا
هو من بني يشكر من بكر بن وائلٍ، وكان أبرص وهو القائل:
آذَنَتْنا بِيَيْنِها أَسماءُ ... رُبَّ ثاوٍ يُمَلُّ منه الثَّوَاءُ
ويقال إنه ارتجلها بين يدي عمرو بن هندٍ ارتجالا، في شيءٍ كان بين بكر وتغلب بعد الصلح، وكان ينشده من وراء السجف، للبرص الذي كان به، فأمر برفع السجف بينه وبينه استحساناً لها، وكان الحرث متوكئاً على عنزةٍ، فارتزت في جسده وهو لا يشعر.
وكان له ابنٌ يقال له: مذعور، ولمذعور ابنٌ يقال له: شهاب بن مذعور، وكان ناسباً وفيه يقول مسكينٌ الدارمي:
هَلُمَّ إلى ابن مَذْعورٍ شِهابٍ ... يُنَبِّىءُّ بالسِّفَالِ وبالمَعَالِي
قال الأصمعي: قد أقوى الحرث بن حلزة في قصيدته التي ارتجلها قال:
فمَلَكْنا بذلك الناسِ إِذْ ما ... مَلَكَ المُنْذِرُ بنُ ماءِ السَّماءِ
قال أبو محمد: ولن يضر ذلك في هذه القصيدة، لأنه ارتجلها فكانت كالخطبة.
ومما يتمثل به من شعره:
فعِشْ بِجَدٍّ لا يَضِرْ ... كَ النُّوكُ ما أُوتيتَ جَدَّا
والنُّوكُ خَيْرٌ في ظِلاَ ... لِ العَيْشِ ممَّنْ عاشَ كَدَّا
لقيط بن معمر
هو لقيط بن معمرٍ، من إيادٍ، وكانت إيادٌ أكثر نزارٍ عدداً، وأحسنهم وجوهاً، وأمدهم وأشدهم وأمنعهم، وكانوا لقاحاً لا يؤدون خرجاً، وهم أول معدىٍّ خرج من تهامة، فنزلوا السواد، وغلبوا على ما بين البحرين إلى سنداد والخورنق، وسنداد نهرٌ كان بين الحيرة إلى الأبلة، وكانوا أغاروا على أموالٍ لأنوشروان فأخذوها، فجهز إليهم الجيوش، فهزموهم مرةً بعد مرةٍ، ثم إن إياداً ارتحلوا حتى نزلوا الجزيرة، فوجه إليهم كسرى بعد ذلك ستين ألفاً في السلاح، وكان لقيط متخلفاً عنهم بالحيرة، فكتب إليهم:
سَلاَمٌ في الصَّحِيفَة من لَقِيطٍ ... إلىَ مَن بالجزيرة من إِيادِ
بأَنَّ اللَّيْثَ كِسْرَى قد أَتَاكُمْ ... فلا يَشْغلْكُمُ سَوْقُ النِّقَادٍ
أَتاكم مِنْهُمُ سِتُّونَ أَلْفاً ... يَزُجُّون الكَتَائِبَ كالجَرَادِ
على حَنَق أَتَيْنَكُمُ فهذَا ... أَوَانُ هَلاَكِكُمْ كهَلاَكِ عَادِ
فاستعدت إيادٌ لمحاربة جنود كسرى، ثم التقوا، فاقتتلوا قتالا شديداً، أصيب فيه من الفريقين، ورجعت عنهم الخيل، ثم اختلفوا بعد ذلك، فلحقت فرقةٌ بالشأم، وفرقةٌ رجعت إلى السواد، وأقامت فرقةٌ بالجزيرة.
وفي هذه القصة يقول أيضاً لقيطٌ في قصيدته:
يا دارَ عَبْلَةَ من مُحْتَلِّهَا الجَرَعَا
يا لَهْفَ نْفِسيَ إِنْ كانت أُمُورُكمُ ... شَتَّى وأُبْرِمَ أَمْرُ الناس فاجْتَمَعَا
أَحْرَارُ فارِسَ أَبْنَاءُ المُلُوكِ لهم ... من الجُمُوعِ جُمُوعٌ تَزْدَهِي القَلَعَا
فهمْ سِرَاعٌ إليكم بَيْنَ مُلْتَقِطٍ ... شَوْكاً وآخَرَ يَجْنِي الصَّابَ والسَّلَعَا
هو الجَلاَءُ الَّذِي تَبْقَى مّذَلَّتُهُ ... إِنْ طارَ طائرُكم يوماً وإنْ وَقَعَا
قُومُوا قِيامَاً على أَمْشَاطِ أَرْجُلِكُمْثم افْزَعُوا قد يَنَالُ الأَمْنَ مَنْ فَزِعَا
وقَلِّدُوا أَمْرَكُمْ للِه دَرُّكُمُ ... رَحْبَ الذَّرَاعِ بأَمْرِ الحربِ مُضْطَلِعا
لا مُتْرَفاً إنْ رَخاءُ العَيْشِ ساعَدَهُ ... ولاَ إِذَا عَضَّ مَكْرُوهٌ به خَشَعَا
ما زال يَحْلُبُ دَرَّ الدَّهْرِ أَشْطُرَهُ ... يَكونُ مُتَّبِعاً طَوْراً ومُتَّبَعَا
حَتَّى اسْتَمَّرتْ على شَزْرٍ مَرِيرَتُه ... مُسْتَحْكِمَ السنِّ لاَ قَحمْاً ولا ضَرَعَا
مواضيع مماثلة
» وصفه سهله لفرد الشعر المتموج وتنعيم الشعر المجعد الخشن
» معجم ألقاب الشعراء ..سامر العاني..pdf
» الشعر الشعبي الاماراتي
» الشعر ديوان العرب...
» قواعد الكتابة في قسم الشعر...
» معجم ألقاب الشعراء ..سامر العاني..pdf
» الشعر الشعبي الاماراتي
» الشعر ديوان العرب...
» قواعد الكتابة في قسم الشعر...
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الأحد يونيو 23, 2024 9:21 am من طرف k-starnight
» اكسسوارات للعروس
الثلاثاء مايو 28, 2013 12:11 am من طرف لوليتا
» أعرفي شخصيتك من وزنك
الإثنين مايو 27, 2013 11:56 pm من طرف لوليتا
» سجل حضورك بالصلاة على المصطفى..
الإثنين مايو 27, 2013 11:52 pm من طرف لوليتا
» صور الممثلة المكسيكية maite perroni
الإثنين مايو 27, 2013 10:38 pm من طرف المتيم
» أحذية أطفال
الإثنين مايو 27, 2013 10:34 pm من طرف المتيم
» أسرع حيوان.. مهدّد بالإنقراض
الإثنين مايو 27, 2013 10:33 pm من طرف المتيم
» عطر فرزاتشي للرجال
الإثنين مايو 27, 2013 10:00 pm من طرف لوليتا
» تسريحات 2014
الإثنين مايو 27, 2013 9:56 pm من طرف لوليتا